illusion




جعفر حمزة

التجارية السادس والعشرين من نوفمبر 2008م


لم يطل صاحبي في النظر لها حتى أشاح بوجهه عنها لا منجذباً ولا مستأنساً، ولم يكن مني إلا السؤال عن السبب في غض نظره عن الإعلان المرفوع على الرؤوس في الشارع। فكان رده البديهي السريع جواباً: (الإعلانات مثل بعض، ما فيه شي جديد، وما تشدني أصلاً)।فتولد إثر تلك الإجابة اسئلة لا تستطيع حملها هذه المساحة المخصصة للكتابة،وأهم تلك الأسئلة هي أين العلاقة المفترضة بين العلامة التجارية والفرد؟

أين "حرارة" تلك العلاقة التي على الإعلان "إذكائها" وضمان استمرارية وجودها؟ لتصل الأسئلة إلى "عين" السبب। بل أين وكالات الإعلان الكفيلة بتوطيد العلاقة بين العلامة التجارية والفرد؟ لتكون "مميزة" لتٌضفي عليها مسحة من "ود" و"قرب" يشعر معها الفرد قولاً وفعلاً وصورة؟

فالإعلان هو الصورة التفاعلية بين الفرد والعلامة التجارية، سواء كانت منتجاً أو خدمة، وألف باء الإعلان هو تقديم العلامة التجارية للفرد لتكون بينهما علاقة ود وارتباط قوي، لتصل العلاقة في أوجها عندما تتحول إلى حاملة لصفات يميل لها الفرد ويتبناها جزء من سلوكه، ليقع في "غرامها" حباً ووداً। والعلامة التجارية الناجحة هي تلك التي تحتفظ بمكانة خاصة في قلب وعقل الفرد، ليرتبط بها سلوكاً وتفاعلاً।


ويبدو أن تلك العلاقة المفترضة كالبحث عن الحب العذري في زمننا هذا، فهل هناك حب "قيس وليلى"؟ بل هل توجد علاقة "روميو وجوليت"؟

قد يوجد، لكن ما نراه في واقع الإعلان في المنطقة، وخصوصاً على أرض جزيرتنا هو خلاف ذلك تماماً، وذلك لأسباب لا يعلمها صاحبي، بل وقد لا يدرك نتائجها الكثيرون। فالإعلان الفاقد للجاذبية والإبداع يؤثر في مستوى الرواتب للعاملين مباشرة-دون كبار القوم في تلك الصناعة بالطبع- في صناعة الإعلان ويؤصل ثقافة "مافيا" العلاقات الشخصية، وبالتالي انتشار الإعلانات "المستهلكة" كالفطر، ولا يمكن تناول ذلك الفطر أو الاستفادة منه حتى للزينة।فما هو "المغيب" من وراء تلك الإعلانات؟

الخدع البصرية، هي من وراء صناعة الإعلان في المجتمع، وأتحدث هنا خصوصاً عن تلك الصناعة في البحرين। وتتمثل تلك الخدع في الإيهام بوجود شيء لا أساس له। وهو الإيهام بوجود إعلان وإبداع وصناعة إعلان قائمة على الحرفية والإبداع। وكما تكون مهمة الخداع البصري بإرسال معلومات إلى الدماغ لتكون النتيجة في النهاية لا تتطابق مع المعلومات المقدمة في العنصر المرئي، فالأمر لا يبدو مختلفاً عند الحديث عن مستوى الإعلان في السوق المحلية। فما هو الموجود، وما هي الأسباب، وكيف تكون النتيجة؟ وهل من حل؟
هل الخدع البصرية موجودة في صناعة الإعلان المحلية؟هي موجودة بنسب متفاوته وواضحة، ويتمثل خداعها البصري في التالي:


أولاً: لقد أخذ الإبداع إجازته في الإعلانات، حيث أن التكرار في الفكرة، والقيام في الكثير منها بعملية "قص ولصق" من إعلانات أجنبية، بل حتى محلية أصبح "العملة الرائجة" في الكثير من الإعلانات (١)

ثانياً: ضعف في لغة التواصل مع الفئة المستهدفة من الإعلان، سواء بصرياً أو لغوياً। وبالتالي فقدان الإعلان هدفه ورسالته। حيث يلحظ في الكثير من الإعلانات "الزحمة البصرية" في وضع الصورة أو تركيبها، وخصوصاً تلك الموضوعة في أماكن يجب أن يتمتع الإعلان فيها بالبساطة والقدرة على لفت الإنتباه في لحظات، ونقصد بها إعلانات الطرق। فضلاً عن التواصل اللغوي الضعيف الذي يأتي من ترجمة مباشرة من اللغة الأم للإعلان دون "تعريبها"، وفرق بين الإثنين في الخطاب। (٢)

ثالثاً: فتور في الإعلانات الموجودة، حيث تغيب عنها كا يسمونه ب"الفكرة الكبرى" أو "الفكرة الأم"، والتي تكون مصدر التواصل مع الفئات المستهدفة للإعلان، وتضمن تفاعلهم ومعايشتهم للعلامة التجارية لفترة أطول

وما الأسباب التي تجعل من تلك الخدع البصرية تأخذ مفعولها في الواقع؟

أولاً: مافيا العلاقات بين الجهة المعلنة ووكالات الإعلان، والتي تستند على العلاقات الشخصية بغض النظر عن الكفاءة وأهمية التقدم وتوطيد قاعدة "العلامة التجارية-البراند"، وذلك باتباع سياسة ما هو موجود "يفي بالغرض" ولا حاجة للبحث والجد في البحث عن مخرجات رفيعة المستوى في الإبداع بالإعلان।

والعامل في هذه الصناعة يرى ويسمع ويلمس هذا الأمر। ليكون ترويج وتثبيت العلامة التجارية رهين بالعلاقات الشخصية، بعيداً عن الكفاءة وهدف العلامة التجارية في ارتباطها "الوثيق" بالفرد المتعامل معها।

ثانياً: غياب أهل البيت من البيت، بمعنى غياب الكوادر المحلية بصورة ملحوظة في هذه الصناعة، وإن وجدوا فهم تابعين لرؤية المدير الأجنبي أو العربي "الخبير" بالثقافة البحرينية المحلية أكثر من البحريني نفسه، وبالتالي تكون لغة الخطاب البصرية واللغوية ركيكة وبعيدة عن ملامسة قلب "قيس" في الإعلان।

ثالثاً:الخوف الذي يعتري وكالات الإعلان، وهم طوع أمر "من يدفع" أي الشركات صاحبة العلامات التجارية। ويحدد السيد " Kevin Roberts" وهو المدير التنفيذي الرئيسي لشركة " Saatchi and Saatchi" هذا السبب بالقول بأن مستوى الإعلان في مجال العقارات أصبح متدنيا وفقيراً في الإبداع। "انظر فقط إلى كل تلك الأموال التي يتم إنفاقها في مجال العقارات। ومن ثم انظر إلى كل تلك الإعلانات، فهي تبدو متشابه। هل تمزح معي؟ فهي تدفعني للضحك"।

ويرجع السيد " Roberts" السبب في ذلك إلى الخوف الذي يعتري وكالات الإعلان في هذه المنطقة من أخذ المخاطرة في تقديم الجديد، وهو ما يشكل عائقاً في جودة العمل الذي يتم تقديمه।(٣)

وما هي نتيجة تلك "السيطرة" التي تتمتع بها الخدع البصرية، لتكون هي ما نعيشه يومياً؟
أولاً: إنتشار الإعلانات التي تفتقد الإبداع والتواصل العملي مع الفرد المستهدف، كانتشار النار في الهشيم، وهي نتيجة انتشار "أكشاك الإعلان"، سواء كانت "دكاكين الإعلانات" أو "وكالات الإعلان العالمية" والتي تتخد من اسمها "مركباً" للظفر بإعلانات هذه الشركة أو تلك، دون تقديم حقيقي لمستوى تلك الوكالات كما هو في خارج المنطقة। والنتيجة مستوى "مستهلك" و"ممل" من الإعلانات، لتكون مباشرة مع غياب الإبداع فيها كتلك التي تنشر في المجلات الدعائية المجانية.

ثانياً: نتيجة لمافيا العلاقات الشخصية، وتدني مستوى الأفكار المقدمة، تصبح الكوادر المطلوبة في هذه الصناعة ليست بالضرورة موهوبة، بل سيكون المطلوب "ماكنة إنتاج"، حالها كحال من يعمل في خط سير الإنتاج والتركيب "إسمبلي لاين"। والنتيجة توظيف كوادر "تمشي الحال"، وتوفر في "الميزانية"، قكلما كانت الكوادر أقل إبداعاً كانت أفل تكلفة.وبالتالي يكفي لوكالات الإعلان كوادر أن تكون قادرة على عمل "التصميم" و"الكتابة"، وكفى، ويتم نسيان الحرفية والإبداع من ضمن المعادلة.

ثالثاً: تعزيز المستوى المتدني من الإبداع المقدم في الإعلانات، نتيجة التدفق المالي "السخي" من لدن الكثير من الشركات، وخصوصاً الشركات العقارية التي أصبحت إعلاناتها "إجتراراً" لنفس الأفكار دون تقديم شيء جديد في الإعلان। ويكفي أن تنظر للمشاريع الكبيرة في البلد لترى أن "العنوان الأفضل والمفضل وعنواني و..." هو ما خرجت به قريحة "المبدعين" في وكالات الإعلان، وهو الذي توافقت عليه الشركات العقارية واقتنعت به. هذا فضلاً عن بقية الشركات والوزارات، فحدث ولا حرج.

بعد كل هذا، هل من سبيل لاستبدال تلك الخدع بصور حقيقية؟

أولاً: السعي نحو الحرفية والإبداع بعيداً عن حسابات "العلاقات الشخصية"، والذي سيعزز هذا الاتجاه، طبيعة المنافسة في السوق، والتحرك الجاد نحو "المختلف" للتميز عن بقية المنافسين، والوصول إلى ذلك لن يأتي إلا من خلال خلع "رداء" العلاقات الشخصية و"الواسطات"، وإن كان الأمر صعباً إلا أن شدة المنافسة وانفتاح السوق ستفرض معادلة جديدة।نأمل ذلك।

ثانياً:تهيئة الكوادر المحلية، لتكون مؤهلة لدخولها بقوة في سوق صناعة الإعلان وإثراء هذه الصناعة بما هو مفقود فيها الآن، من لمسة محلية محترفة، وخطاب قريب من الفرد فكرة وصورة وكلاماً

।ثالثاً: ارتفاع وعي واطلاع الفرد، من خلال "عيونه" المتعددة عبر الفضاءات المفتوحة له، وذلك عبر الإنترنت والفضائيات وغيرها، وبالتالي لم يعد الفرد المتلقي أقل إبداعاً ممن يصنع الإعلان। وهذا يحتم العمل الجاد على التعامل مع الفرد بكونه مدركاً، وليس فرداً يعيش في جزيرة نائية عن العالم الحديث في صناعته وتقنيته وإبداعه।

رابعاً: إدراك الكثير من أصحاب الأعمال إلى نوع الخطاب المقدم للفرد، وبالتالي سعيهم إلى التعاون والعمل مع من يتقن لغة أهل البيت، فأهل البيت أدرى بما فيه। ولن تنفع أفضل الإعلانات في العالم إن أٌخذت كما هي ووضعت في مجتمع يختلف ثقافة وفكراً عن أساس وضع الإعلان لمجتمع آخر।


خامساً: إقامة فعاليات تبرز القيم المغيبة في الإعلان، ورفع مستوى كفاءتها، والطرح الجاد للمواضيع ذات العلاقة بالعلامات التجارية ودور وكالات الإعلان في رفد هذا المضمار। على الأقل للتقليل من حدة سيطرة الإيهام البصري.وإلى حين وقت "اليقظة" يبدو أن ما سنشاهده هو تكملة لمسلسل المافيا والقص واللصق. أتمنى أن أكون مخطئاً وأرى ما ليس بخدعة بصرية. أتمنى!


(١) من مقال للكاتب بعنوان " Copy & Paste" بتاريخ ١٦ أبريل ٢٠٠٨م।(٢) من مقال للكاتب بعنوان "على الطاير" بتاريخ ١٧ يوليو ٢٠٠٨م।(٣) من مقال للكاتب بعنوان" ضحكة Kevin Roberts" بتاريخ ٧ مايو ٢٠٠٨م

।* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي।


الحمار والكرات والزهايمر



جعفر حمزة*

التجارية ١٩ نوفمبر ٢٠٠٨م

أراد تيمور لنك أن يعلم حماره القراءة والكتابة، فأمر العلماء بذلك وهددهم بقطع رؤوسهم إن لم ينجحوا في ذلك। وتصاعدت الشكاوى إلى جحا والذي وعدهم بحل الأمر। فأخبر تيمور لنك أن باستطاعته أن يجعل الحمار يقرأ ويكتب جيداً، ولكن بشرط وهو أن الأمر يتطلب وقتاً يصل إلى خمس سنوات، فوافق تيمور لنك على الشرط। وعند خروج جحا من القصر لامه العلماء على ذلك وأخبروه باستحالة الأمر ولو بعد مئة سنة، فرد عليهم جحا بالقول: للخروج من تحقيق مطلب تيمور لنك، كان لا بد من اللعب على عامل الوقت، وخلال خمس سنوات، لا ندري ما سيكون، قد أموت أنا، أو الحمار أو تيمور لنك، وفي كل الاحتمالات لن يكون هناك مجال لمزيد من القتل।

لقد استند جحا للخروج من المحنة على عامل "تقادم الزمن"، والكفيل بتغيير الأمور والتوجهات، وترجع الكثير من السياسات القائمة في المجتمع البشري، سواء منها ما هو مرتبط بسياسة الدولة أو المجتمع في قوته الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية، ترجع إلى عامل الزمن والرهان على نسيان ما رفعت الراية من أجله، أو على الأقل إضعاف "التمسك" بما يطلبه المجتمع والناس.
ويبدو أن خطة جحا قائمة على قدم وساق في مجتمعتنا وبصور عديدة، تتخذ من أسلوب "الكرات الكثيرة" عاملاً مساعداً لإشغال الناس عن الكثير من الملفات التي تمثل حقاً أصيلاً لهم في المعرفة والتغيير والتفاعل। ويقوم ذلك الأسلوب على "إشغال" اللاعب بالكرات والذي يحمل عدداً معيناً منها في يديه، بقذف كرات جديدة إليه، ليضطرب ويفقد السيطرة على التحكم بالكرات، ويصل إلى مرحلة "الفوضى الواقعية"، حيث لا سبيل له سوى التسليم بالأمر الواقع وكفى। لتسقط الكرات من بين يديه. والمواطن كحامل الكرات، لا يستطيع التعامل مع الكرات السابقة، ولا الكرات اللاحقة। ومع الوقت تكثر الكرات ويفقد مهارته في التقاطها، لينشغل في كل مرة بكرات جديدة، وهكذا।
وتمثل تلك السياسة استنزافاً للجهود والقدرات، فضلاً عن توهين للقوى والعقول، لنصل إلى مرحلة التشبع بالقضايا دون الوصول إلى حلول ناجعة مستندة إلى خطة قابلة للتطبيق وبالإمكان رؤية نتائجها، ولو على مدى متوسط. ويمكن سرد بعض الكرات "الملفات" التي توالت على الساحة المحلية دون وجود حلول جذرية لها، وتم اعتماد "تقادم الزمن" كما فعل جحا مع تيمور لنك، واتباع أسلوب "الكرات الزائدة" كما يفعلها من يريد أن يفشل ماسك الكرات. ومن تلك الكرات:

الكرة الأولى: إفلاس مغارة علي بابا
فلا جديد تحت الشمس، بالرغم من خطورة الملف التي تعني كل مواطن بحريني بلا استثناء، ويبدو أن الفيروس الذي أصاب الهيئة قد نشط من جديد مع قضية قرض شركة "ممتلكات"। ألم يكن الإفلاس قبل فترة ليس بالطويل؟ صحيح إن النسيان نعمة. مع ذلك أتت الضربة الثانية مع "ممتلكات". يبدو أننا مصابون بمرض "الزهايمر"-الشيخوخة المبكرة-، لننسى ضربتن في نفس المكان!

الكرة الثانية: النفوس الرخيصة
هل تم وضع استراتيجية لمواجهة الكوارث، سواء الطارئة منها والطبيعية؟وهل لدينا في الوزارات والقطاع الخاص، فضلاً عن المنشآت المختلفة من المدارس مروراً بالمستشفيات وانتهاء إلى المصانع والمجمعات وحتى المساجد والحسينيات. هل لدينا في كل ذلك ثقافة مواجهة الأزمات وآلياته، لكي لا تتكرر الحوادث والمآسي؟
قد يكون أسلوب جحا هو الأفضل، سواء لدى المعنيين بالحكومة أو في المجتمع! الكرة الثالثة: الإثنين الأسود يبدو أن أسلوب جحا هو المتبع في هذه الكرة "الملف"، حيث يتكفل "الزمن" بنسيان هذا الملف ليتم تذكره في موسم الصيف فقط، ومع مرور "موسم الأزمة"، كأن شيء لم يكن। ويستمر الزمن في نخر الملف لنصل إلى درجة "الإنهيار"، والذي سيتوقف عندها الزمن، ولكن بعد فوات الأوان।
الكرة الرابعة: الفيروس القاتل بعض صور الفساد في ألبا وطيران الخليج وغيرها من الوزارات والمؤسسات والجهات الحكومية أصبحت تراهن على من "يقذف" كرات أخرى لينشغل الرأي العام بها، ويغفل الكرات السابقة. ويتم هذا الأمر بصورة تدعو للإعجاب لا التقدير، نتيجة الرهان على القدرة المحدودة للذهن البشري في الاستيعاب وتحليل الأمور في وقت واحد. وللعلم فإن حجم الفساد المالي في ألبا كافٍ لبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، كما ذكرها الأمين العام لجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) إبراهيم شريف في برنامج "في الميزان"। فما بالك بغيرها؟
هذا فضلاً عن "التمييز الوظيفي" الذي ينكره البعض وهو يعيشه، ويخاف الحديث عنه. وبين فساد وتمييز ولد "فيروس" يقطع الأوصال ويخرج الرجال من الساحة.

الكرة الخامسة: الردم والتحويل يمثل الزمن عاملاً مهماً في تثبيت الصور المغلوطة واعتبارها واقعاً، ويساعد ذلك تكرار العمل. وما عمليات ردم البحر غير القانونية، بالإضافة إلى تحويل الأراضي العامة إلى خاصة، بل وتحويل "المقابر" إلى وحدات سكنية للأحياء. وما كل ذلك سوى صور متكررة أثبتت واقعاً وسلوكاً غير "مستهجن".

الكرة السادسة: ملفات "إكس" الطبية لقد ضرب التلوث الصناعي بأطنابه في قرى ومناطق مختلفة من البلاد، وألقى بظلاله السوداء على عوائل عانت الأمرين في أفرادهم، فأصيب بعضهم بالسرطان، وآخرون بتشوهات خلقية. هذا فضلاً عن الملفات الطبية التي تملأ الصحف بين فترة وأخرى، مما يعكس قصوراً في إحدى أهم أسس المجتمع المدني الحديث، وهي "الحرفية الطبية" بعد تحقيق "الرعاية الصحية".

الكرة السابعة: المداس أم المدارس إن تكرار الحوادث التي تصيب الجسم التعليمي سواء في جنبته الإدارية أو المكانية "المدارس"، والتي تعددت أسبابها بين إدارية وسياسية واجتماعية، بعيدة عن الحرفية في بعضها، وقريبة من الارتجالية في بعضها الآخر، وبين هذا وذاك تتجذر الكثير من المشاكل لتصبح جزء من هوية وأساساً من سلوك. ليكون السؤال في أصل تحويل المدارس إلى معترك صراعات قد يستخدم فيها المداس أو أكثر. ولو أردنا تعداد الكرات لملأت ملعب كرة قدم أو أكبر، ولكننا اكتفينا بذكر سبع منها كسبع سماوات। ويبقى السؤال بعد تحليل المشكلة هو عن ماهية العلاج। فهل يمكننا وقف "قذف" الكرات، ليمكن بعدها التعامل معها بحرفية عالية وبواقعية بعيداً عن الإرتباك؟
وكما لا تستطيع العين البشرية إلتقاط الصور المتتابعة التي تزيد عن ٢٥ صورة في الثانية، فكذلك كثرة الملفات وتسارع وتيرتها في الظهور والنسيان يؤدي إلى تأصيل سلوك التراكم المنظم والنسيان السلبي، والمولد للكثير من تلك الملفات المعيقة لتطور المجتمع، فضلآ عن استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي।
وللتعامل بحرفية مع كل تلك الملفات، لا بد من استخدام الآليات التالية، لنصل إلى مرحلة الحل بدل التخدير والنسيان:
أولاً: توزيع الكرات إن لم يكن هناك مجال لإيقاف تقاذفها। وذلك عبر تخصيص لاعبين مختصين لالتقاط الكرات، وعدم إنشغال الناس بتفاصيل مسار الكرات، فما يهم الناس هي النتيجة، وأما التعامل مع الكرات فيجب أن تترك لأهل الاختصاص، ولينشغل الناس بأوليات حقوقهم.
ثانياً: لتعرف هوية الصورة السريعة المقدمة إليك. لا بد من التقاط الصور بصورة أبطأ، لتدرك تفاصيل الصورة وملامحها، والوصول إلى ذلك يتطلب مهارة واحتراف من مختصين، وإعادة عرض "الفيلم" باللقطات البطيئة ليدرك المشاهدين "الناس" خبايا ما يشاهدونه، بعيداً عن "المؤثرات البصرية" التي تأخذ بالألباب وتشتت الناس وتدخلهم من باب إلى باب.
ثالثاً: توثيق دقيق لتوزيع الكرات وإبطاء الحركة، ليتوجه الناس إلى لقمة عيشهم وتطوير ذاتهم، في الوقت الذي يدركون فيه "الأولويات" التي تعيد ترتيبها بالقوة "لعبة الكرات المتعددة"، وبالتالي تكون لهم القدرة على "التحليل" و"الإدراك" و"الفعل"।
ويمكن القول بضرورة تكبير سعة الذاكرة أو على الأقل تنشيطها، لتتسع لهم حجم المشكلات، والسعي لحلها أو الحد من تفاقمها، وتحولها مع الزمن إلى "واقع"। وفي غير ذلك ستكون خطة جحا مع تعليمه للحمار سارية المفعول، وتواصل قذف الكرات موهبة والتقاطها صعوبة، لنكون بين هذا وذاك معرضين للإصابة بفقدان الذاكرة بسبب الشيخوخة المبكرة، بسبب كثرة الملفات وتواليها।

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

من يصنع الخبز؟





جعفر حمزة*

التجارية ١٢ نوفمبر


كانوا جياعاً بل أكثر، وقد تركوا وثير ودفء الفراش من الصباح الباكر في يوم إجازة، ليلتحقوا بركب تأملوا فيه خيراً كثيراً، فأتوا زرافات وأفراداً لعل وعسى أن يجدوا "خبزاً" يأكلونه بعد أن يصنعوه. فهل وجدوا ما أملوا؟

"الشباب والإبداع" كان العنوان للمؤتمر الذي عقده مركز شباب الوفاق، وكانت ثيمته المميزة "حتى نُلهم الإبداع". فهل كان العنوان ذو قدرة على توفير "خبز الإبداع" للحضور، أم أن "الشح" في توفير الخبز كان سيد الموقف؟

لسنا بصدد الإجابة والتعليق على المؤتمر بما حواه، بقدر ما كان كمفتاح لأبواب لا يحب البعض الحديث عنها، بل نريد أن نعرف معادلة "مغيبة" في صنع الإبداع الذي يجب أن يكون كالخبز لا غنى عنه. إبداع باتت السياسة تغطيه بظلال كالجبال وأكثر، مما جعل جياع المبدعين يبحثون عن "خبزهم" بدلاً من انتظار "كعكة السياسة" بحلاوتها اللاذعة والتي تسبب ارتفاع "السكر".


فكيف نصنع الخبز؟

أولاً: توافر الأرض الزراعية

ضرورة توافر الأرض الزراعية وآلات الزرع والحصاد، فبوجودهما مع نظام ري جيد يمكن زرع القمح، وتلك الأمور هي بمثابة توفر آليات نمو الإبداع، والتي تتمثل في التقنية والمعلومات. وقد أصبحت كالمشاع في معظم بلدان العالم، وذلك نتيجة "الإنفجار المعلوماتي والتقني" في العالم، حيث لم تصبح التقنية "حكراً" على مجتمع دون غيره أو لدولة دون أخرى.
ومنها على سبيل المثال لا الحصر "مدينة السيليكون" وهي مدينة بانغلور الهندية، والتي تتميز بصناعتها لرقائق السليكون والعديد من مراكز الأبحاث والتطوير والتقنية العالية الدقة. والتي باتت بمنزلة "وادي السليكون" في أمريكا، بل وتنافسها.

وليس ببعيد عنها وعنا، فهناك إيران، والتي تطلع علينا الأخبار باكتشافات واختراعات علمية في السنين العشر الماضية. وذلك بالرغم من وضعها السياسي إزاء ملفات معقدة.

فلم تعد التقنية مرتبطة أو "حصرية" على الرجل الغربي، بل قد أصبحت "مشاعاً" ومتوافرة، وينبغي على الأفراد كما على المجتمعات الاستفادة منها ومعرفة الوصول إليها أولاً والاستفادة منها ثانياً والاحتفاظ بها وتطويرها ثالثاً.



ثانياً: الزرع للخبز لا للسلطة


عندما تتوفر أرضية الإبداع من تقنية ونية مبيتة، لا بد أن يكون ما نزرعه في تلك الأرض هو من أجل الحصول على الخبز فيما بعد. وعندما يتحول الإبداع لدى البعض إلى كونه "سَلَطَة" أي كونه أمراً هامشياً، عندئذ ينتشر "فيروس التحبيط" ليحد الإبداع من النمو، وليُبدله بنظرة تشاؤمية تساهم فيها كل من الدولة والوالدين والأصدقاء ومؤسسات المجتمع وعالم الدين والمثقف-أو مدعيها- كل بنسبة معينة، لتتحول إلى عقلية سلبية لا تنتج وإذا أنتجت تم الحد من إنتاجها، وإذا أنتج غيرها انتقدت وثارت. وهكذا يتحول الإبداع من حل لحاجة إلى همًّ لا حاجة لنا فيه، وبالتالي يتحول المجتمع إلى "مجتر" للأفكار والأشياء دون نتاج ذاتي أو تغيير في عملية الإنتاج الفنية، والتي تمثل إحدى أهم صور التغيير في المجتمع.
لذا، عندما يتحول تعاملنا مع الإبداع إلى كونه "حاجة" ستتغير سلوكياتنا وتعاملنا مع أنفسنا والآخرين، ليكون الإبداع حلاً أساسياً لا هامشياً. هو حلٌ مادي وثقافي وفكري وديني وسياسي.

وعندما يتعامل المجتمع مع الإبداع كحاجة، سيكون الاهتمام أكثر،وذلك عبر تخصيص وقت ومال وجهد له، لأن المنتج الإبداعي في آخر المطاف من فنان أو مخرج، ومن مصور أو مصمم، أو من كاتب أو خبير إضاءة، سيكون له مردودٌ مالاً ووقتاً وجهداً يشكل المجتمع بسلوكيات جديدة وبتعامل جديد مع المتغيرات.

ما نريده كلمة مشجعة من عالم دين تعبر عن التزامه وانفتاحه في نفس الوقت، وما نريده هو تفكير استثماري في الموارد البشرية المبدعة من قبل تاجر أو صاحب عمل أو مستثمر، وما نريده هو دعم عملي من قبل مؤسسات المجتمع المدني، وما نريده قبل كل ذلك هو أن يؤمن المبدع بأن ما لديه أكثر من مجرد موهبة. هي مسؤولية يجب عليه أن يدرك أنها لا يمكن أن تتوقف بمجرد أن يسمع كلمة من يائس هنا أو من محبّط هناك، أو من تجاهل حكومي أو من تهميش مجتمعي. لأنه لا يمكن للإبداع أن ينمو إن لم تكن للنبتة قابلية للنمو أصلاً.


لقد حولت الحاجة العدسة الإيرانية إلى فن إنساني ملتزم وجعلها مدرسة عالمية في السينما، وحولت الحاجة شركات الرسوم الثري دي بماليزيا إلى فن إسلامي وجعلتها منتجة لأفلام الأنيميشن، وباتت تنافس كبرى الشركات العالمية في هذه الصناعة।

فأي حاجة نريد لنكون؟


ثالثاً: من الحقل للمخبز


بعد أن يتحول الإبداع إلى حاجة، لتكون الأخيرة صانعة له، علينا تحويل تلك الحاجة إلى الخطاب الذي يعيشه المجتمع، وذلك عبر التالي:

أ. تشجيع الكوادر الموهوبة بشقيها المُعلن والمخفي لضرورة إخراج نفسها من دائرة "الخوف" أو "العيش في جزيرتهم الخاصة"، وتسخير إبداعهم لأجل رفع العديد من المشاكل والعقبات وإيجاد الحلول عبر تشجيعهم مادياً ومعنوياً، وإفساح المجال لهم لتقديم إبداعهم بما يخدم المجتمع وقبله أنفسهم مادياً ومجتمعياً.

ب. عندما يكون المخبز مغلقاً فلا فائدة في الخبز الموجود بداخله، وكذا الأمر بالنسبة للمبدعين، فإن وُجدوا ينبغي أن يكونوا في مواقع التغيير، وأن لا يتم تحجيم تحركاتهم بـ"تابوات" يصنعها البعض، مرة بغطاء ديني وآخر بغطاء سياسي، وهكذا تتعدد الأغطية ليتم حجب "المخبز" عن الناس. وهنا تحتاج شجاعة دينية من لدن العلماء ونزولهم من "مكانتهم" إلى المبدعين الذين تمثل لهم موقف العالم لهم دعماً وقوة. وتحتاج شجاعة سياسية من لدن السياسيين عندما يتم توجيه الدفة للمبدعين لينتجوا.


ج، اقتناص المواهب الموجودة، والتي لها القابلية للاحتراف، وتطويرها لتكون منتجة مغيرة في المجتمع، ويمكن ذلك عبر ابتعاث موهوبين في مجالات مختلفة، وبالتالي يمكن الحصول على مبدع محترف بعد أن كان مبدعاً هاوياً، فالأول يُنتج على نطاق ضيق وقد يكون على نطاق شخصي وينقصه الاحتراف، في حين ينتج الآخر على نطاق مجتمع وتكون نظرته أوسع. وشتان بين الاثنين.


د. تزويد المجتمع بمعاهد متخصصة في مجالات الإبداع المختلفة، وتغيير أسلوب البذل المجتمعي، والذي بات حكراً على اتجاهات عبادية بحتة، ولم يعِ بعد قيمة الإبداع في التغيير الإيجابي، والذي يمثل الترجمة الحقيقية للعبادة، وهي الخلافة في الأرض لإعمارها.

فالدعم الحقيقي للإبداع لن يأتي من خلال "تعليق" الحجج على الدولة وإن كانت ساحتها ليست ببريئة عن التقصير الكبير في هذا المجال. إلا أننا نؤمن بأن قدرة المجتمع على التغيير ليست بأقل من قدرة الدولة. وما دام المجتمع لا يؤمن بأهمية الإبداع في الفن -على سبيل المثال- من جهة، وتتجاهل الدولة بطريقة أو بأخرى المبدعين من جهة أخرى، فسيكون نمط التصدي للأفكار الجديدة والغريبة عن المجتمع ضعيفاً، وبالتالي وإن كان اللوم جاهزاً والخطب العصماء معدة مسبقاً، عندها لن ينفع البكاء على اللبن المسكوب.

ويمكن أن تكون المعاهد المذكورة متعاونة مع أخرى متخصصة خارج البلاد أو الاستعانة بالمحترفين في البلد، منها على سبيل المثال لا الحصر: في مجال الرسوم ثلاثية الأبعاد، التصميم المحترف، كتابة السيناريو، الإخراج السينمائي، تصميم الملابس، والقائمة تطول.

هـ. تعزيز الاتجاه في الاستثمار البشري للأفراد المبدعين، حيث سيكون ذلك بمثابة التعاون الثنائي بين المستثمر "جهة أو مؤسسة" والكادر المبدع، إذ يدعم المستثمر المبدع مادياً، ويقوم الأخير بتقديم إبداعه من أجل المستثمر ضمن اتفاقية لا يتم احتكار المبدع فيها، ولا يتم صرف مال المستثمر فيها دون عائد.

وإذا ما زالت القدرة المالية والتقنية موجودة الآن ولم تتم الاستفادة منها، فسيكون اللحاق بركب التطورات فضلاً عن التحصين والظهور الإبداعي سواء على مستوى الدولة أو المجتمع أصعب.
وبالتالي لن يكون هناك لا خبز ولا سلطة ولا هم يحزنون..


ملخص ورقة تم تقديمها في مؤتمر الشباب والإبداع الذي نظمه مركز الشباب التابع لجمعية الوفاق البحرينية السياسية بتاريخ ٨ نوفمبر ٢٠٠٨م صمن عنوان "معوقات الإبداع في البحرين".

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

صندوق وبالونين




جعفر حمزة*

التجارية ٥ نوفمبر ٢٠٠٨م



بعد تناولنا لأطراف حديث شائك عن مدى ثقة الناس بما يسمعون أو يقرؤون على أرض هذه الجزيرة-ولم تعد كذلك-، خصوصاً فيما يتعلق بالمشاريع "المستقبلية" والرؤى "الطموحة"، بل والصورة المقدمة عن وطني البحرين في الخارج. بعد أن أوشكنا على رسم "خارطة الطريق" التي نحلم بها، بعد كل ذلك انقدح في ذهني سؤال لم أشأ أن أخفيه عن صاحبي الآتي من بريطانيا "العظمى"، فبادرته بالسؤال: مستر (إكس)(1)، ما هي مشكلتنا هنا؟

سؤال أردت الإجابة عليه ببساطة السؤال نفسه –لغوياً طبعاً-، فقالها "ببساطة" لم أتوقعها منه: لديكم مشكلة غياب ثقة.

وقد شكلت إجابته "مفاجئة" لي، لا لأني لا أعرف الإجابة بقدر أنها تأتي من شخص مثقف ومحترف يعرف "دهاليز" السياسة كما يعرف كل شبر من لعبة الاقتصاد في المنطقة.

ولم أكتفِ بهذه الإجابة، وكيف يكون ذلك، وقد سنحت لي الفرصة بالحديث مع شخص قد وضع يده على الجرح مباشرة ودون خوف أو وجل -ولا مجال لمساءلته بالمرة-، فقلت له وما الذي يجعل الثقة غائبة؟

فأكمل إجابته بصراحته الأولى قائلاً: عندما توعد ابنك بشيء وتكرر إخلافك بوعدك، فلا تتوقع أن يصدقك ابنك مرة أخرى.

واعتقد أن المشكلة الخاصة بالثقة تتفاقم إذا دارت حول أساسيات معيشية لا غنى لأحد عنها، بل حتى الحيوان لا يمكنه الاستغناء عنه، وهو السكن.

وليس بهرم "ماسلو" ببعيد عن ذاكرتي عندما يخطرني هذا الحديث، ففي هرم "ماسلو" يمثل الأمان والسكن قاعدته الأساسية، والتي تمثل احتياجات الإنسان الفسيولوجية. في حين يتم الحديث هنا عن قمة الهرم من "تحقيق للذات " على مستوى الدولة.

ويقع في الصميم المثل الشعبي القائل "ما عنده ياكل، عنده يغرم". حيث يتم الحديث عن العتبة العاشرة من سلم الدول التي تريد أن تترك بصمتها في العالم، في حين أن العتبات الأولى لم يتم وضع القدم عليها بثبات بعد.

لقد أصبح الحديث عن السكن، وهو أمر معيشي إنساني دستوري أساسي، أصبح الحديث عنه "هماً" في حين يجب أن يتحول إلى مرحلة "نحصيل حاصل"، ليتم الحديث بعدها عن بقية العتبات القادمة ضمن سياق التطورات والتحديات التي تواجه العالم يوماً بعد يوم في العديد من المجالات.

ولم تكن "مطالبات القرى الأربع" بالمشروع السكني "لها"، ولم يكن المدينة الشمالية والمطالبات بتحقيق حلم قد "تلاشى"، ولا العديد من الطلبات ورفع الأصوات هنا وهناك للحصول على "قُطيعة" أرض للسكن فيها، لم يكن كل ذلك "مُسيساً" أو "موجهاً من الخارج" أو تم تحريض أولئك المواطنين من قبل جهات تريد سوءً للبلد.

بل هي مطالبات أساسية أصبحت تستنزف من وقت الناس وتفكيرهم وجهدهم ما لا يوازيه "صرف" ميزانية يستحق المواطن أن يوجه اهتمامه للتطوير والإبداع والإنتاج، بدلاً من البحث عن مصادر دخل إضافية لعل وعسى أن يسدد دينه، ليدخل في حلقة جديدة من الديون دون اقترابه من احتمالات الحصول على أرض أو منزل، واللذين باتا كسراب يحسبه المواطن ماء.

فهل تستطيع نفخ بالونين معاً وهما في صندوق صغير؟ مع ضمان أن لا ينفجر أحدهما أو كليهما؟

ليست هذه بأحجية أو تجربة علمية، بل هي واقع نشهد "انتفاخ" بالونيه معاً، فمع تصاعد موجة الغلاء وبطأ –إن لم يكن توقف- في حل مشكلة الإسكان، ستتهاوى الطبقة المتوسطة لتنضم إلى الطبقة الفقيرة لتتوسع تلك الطبقة "أفقياً"، في قبال "انتفاخ" الطبقة الغنية وتوسعها "عمودياً"، ومع ذينك "الانتفاخين" في "صندوق" السكن، ستكون الاحتمالات التالية:

أولاً: إما أن "تنفجر" إحدى الطبقتين وتتناثر.

ثانياً: أو "تنفجر" الطبقتين معاً، نتيجة الاحتكاك الشديد.

وللحد من أي "انفجار" قد يحصل، لا بد من تحقيق أحد أمرين:

أولاً: وقف "النفخ" في البالونين.

ثانياً: وضع صندوق أكبر، ليأخذ كل بالون مكانه و"راحته".

لقد وقعت الدولة في أخطاء جمّة لن تكون نتائجها "صورية" متمثلة في اعتصام هنا أو ندوة هناك، بل ستساهم تلك الأخطاء في تكوين سلوكيات اجتماعية جديدة "ستنفجر" نتيجة "الصندوق الضيق".

فما تلك الأخطاء التي ندعي وقوع الدولة فيها، وهل يمكنها وضع حل لها:

أولاً: استملاك غير قانوني للكثير من المتنفذين لمساحات شاسعة، وغياب الآلية القانونية للحد من "انتفاخهم".

ثانياً: الاستملاك الحر للأجانب، دون تحديد المناطق التي يمكنهم استملاكها، مما سمح لهم بالانتفاخ في كل اتجاه، ومضايقة المواطنين في "بالوناتهم" الصغيرة.

ثالثاً: غياب "الهواء" لبالونات المواطنين، عبر "فتات" الموازنة المرصودة للإسكان، بالرغم من فائض الميزانية نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الآونة الأخيرة.

رابعاً: التجنيس خارج إطار القانون والدستور، وغياب الأرقام الحقيقية لذلك، وتبعات ذلك بالاستمرار في "نفخ" أزمة الإسكان بالبحرين.

خامساً: غياب التطبيق العملي لأي خطة "طموحة" قد يتم طرحها للحل من مشكلة الإسكان أو على الأقل التخفيف منها عبر مراحل معلنة بشفافية.

وما يتبع كل ذلك من آثار لا تخفي على مواطن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أ‌- تكدس سكاني كثيف، وتبعات ذلك في تشكيل الهوية البحرينية وتغيرها مع نمط المعيشة السكني، فضلاً عن السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، والتي لا تعبر بالضرورة عن هوية "الإنسان البحريني"، فضلاً عن دخول الكثير من "المعاملات" غير القانونية في تلك السلوكيات لتأمين مستوى دخل "محترم" لدى الأفراد.

ب‌- ترهّل في الطبقة الوسطى، مما يعني وضع ميزان استقرار المجتمع في ظرف حرج.

ت‌- حركة البنوك "الشرهة"، والتي تستغل "الحاجة إلى السكن" في عروضها وسياستها وإعلانها. حتى باتت تلك البنوك تتجه للنفخ في إحدى البالونين، فبنوك "تنفخ" في بالون الطبقة المتوسط عبر عروضها "الوردية". وبنوك تنفخ في بالون الطبقة الغنية عبر مشاريع وتجمعات سكنية للصفوة الذين لا يُساوون مع أحد أبداً. وبين ذلك النفخين تتفاقم مشكلة الأرض والقرض.

وعوداً إلى أحجية الصندوق والبالونين، فالحل ذكرناه، وتطبيقه يتمثل إما في دعم "واقعي" لحل مشكلة الإسكان عبر خطة عملية يلمسها المواطن. أو من خلال الحفاظ على الطبقة الوسطى في البقاء في "وسطيتهم" المادية.

وهناك حل آخر، وهو "توسيع" الرقعة السكنية، وفتح "الأسوار العالية المغلقة" للناس، وما أكثرها، لا ليعيش الناس في "بلاد العجائب" كما كانت "أليس"، وإنما ليعيشوا في بلد يمكنهم أن يناموا ويفكروا كيف نبني بلداً قوياً ومميزاً، بدل التفكير، هل سآخذ القرض أو اعتصم للحصول على "منزل" أو قطعة أرض؟

ففي حين يتم السباق على الأدمغة والتطوير، يكون السباق والهم هنا هو القروض والحصول على أرض، وهي في الحقيقة حق كفله الدستور والعقل والمنطق والواقع.

فهل يستمر النفخ أو يتم تكبير الصندوق لتتم "الثقة" الغائبة التي حدثني عنها صاحبي البريطاني؟


مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

(1) لا أتذكر اسمه، فضلاً عن الاحتفاظ بخصوصيته.