تأملات قرآنية من رحم الأزمة ... خارطة الطريق للانتصار الداخلي


تأملات قرآنية من رحم الأزمة

خارطة الطريق للانتصار الداخلي



جعفر حمزة

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
النساء 104

تمتد آيات القرآن الكريم التي تسرد الحدث أو تطرح المبدأ من مكان وزمان الفعل لترسم حينها خطاً يُولد من حادثة نزول الآية ويمتد في اتجاهين متقابلين أحدهما للخلف تأكيداً لسيرة الأولين ولأخذ العبرة والآخر للأمام تثبيتاً لخارطة طريق للاحقين وتقديم الفكرة. فآيات الله عرض فعلي للفطرة وطرح ميزان القوى الكونية والسنُن الطبيعية في الإنسان وما حوله.

وتلك هي إحدى نوافذ القراءة الحركية لكلام الله، لتُشرق الآيات على كل غُرف الحياة بكل مساحاتها وأثاثها، ونتلمّس منها الطريق ويكون سبيلنا معها بيّناً لما نريد وكيف نريد ولمن نريد.


تقدّم هذه الآية الكريمة صورةٌ يجتمع فيها السبب العلمي الأرضي مع الارتباط الروحي السماوي. إذ تدعو الآية للمرابطة المعنوية من خلال عدم الترهّل في كل صور “الابتغاء” للطرف الآخر المُراد مواجهته، فلا مجال للضعف ولا الوهن ولا أي مفردة كلامية أو عملية في ذلك، وليس للتلميج أو التصريح من سبيل للظهور، فيكون النهي عن التهاون بداية السبيل وهو الراسمُ بقوة للتحرّك والمُضي للظفر من “القوم”.
فعدم الوهنُ هو ضمان الاستمرار في إكمال خارطة طريق “ابتغاء القوم”، ونتيجة للمواجهة سيقع الضرر نتيجة الإحتكاك، ولا يقتصر وقوع ”الألم” عليكم فقط، فهو واقع في الطرف الآخر كنتيجة طبيعية وحتمية، فالضرر متبادل و”الألم” في الطرف الآخر كما هو لكم “إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله”، والتبادل في “القرح” كما “الألم” معادلة طبيعية وسُنّة كونية ، تحكمها قوانين التوازن في الكون كما قوانين الفيزياء في الفعل وردة الفعل، فمُحال أن يكون رد الفعل غائباً حتى مع بطش الفعل وقوته، فهذا لا يكون، فردة الفعل إما تكون في لحظة وقوع الفعل أو تكون مؤجلة، وما يجمعها في كلتا الحالتين هو حاصل جمع إحداث الفعل مع الزمن.

فوقوع الضرر أو الألم في أحد طرفي المعادلة ينتقل حتماً ولو بصور مختلفة في الطرف الآخر، لأن الكون من طبيعته التوازن ، وعند انحراف كفتي الميزان تتأثر الأخرى، ليكون المجموع الكلي للكفتين واحدة بحكم سُنة التوازن الكوني.
ومع واقعية الضرر المتبادل تطرحه الآية علناً وتُخبره تذكيراً وتأكيداً، كما هو في قانون نيوتن الثالث
"لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوي له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه يعملان في نفس الخط".
وردة الفعل ليست بالضرورة تكون من نفس نوع مُحدث الفعل، فعند ضربك بقبضتك على الطاولة فهو الفعل، وترد عليك الطاولة بصوت وألم، قد تكسر الطاولة وهو الفعل، إلا أنها ستترك الألم وربما الكسر في يديك وهو رد الفعل.

واستيعاب هذا الأمر ضروري للجبهة التي تنشد التغيير في أي مجتمع يعيش أي نوع من الحراك أكان سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو دينياً أو اقتصادياً، وهذا الاستيعاب مُهم في جانبين:
الأول: جانب صناعة الفعل
الثاني: جانب رفع المعنويات
فعند إدراك أن الطرف الآخر يتأثر بدرجة أو بأخرى بمقدار نوع الفعل المطروح، عندها يُعمل الفكر في الإبداع في صناعة الفعل والجديد منه وطرحه، وأما الحالة النفسية من معرفة هذا الأمر فهو يمثّل تغذية راجعة داعمة لمواصلة إحداث الفعل تلو الفعل، فما دام “الألم” موجوداً في ساحتي الطرفين، فهذا دافع لبرمجة الألم والألم المتوقع حدوثه، ومن ثم التعامل معه على أساس هذه المعادلة الكونية في ساح التغيير والأزمات، بما يضمن التحمّل ودراسة “الألم”.
وتلك المعادلة القرآنية في وقوع “القرح” و”الألم” تسري على غير ميادين الحرب، بل في أي مواجهة من أي نوع، وعندما نتحدث عن طرفين أحدهما بيده السلطة والآخر تمثله الرعيّة فإن حجم “القرح” كبير ومقدار “الألم” غير مُتوقّع.

وإلى جانب أهمية ذلك الإدراك العملي، هناك عامل مُضاف لجبهة التغيير التي تبتغي العدالة والإنصاف
تفتقدها جبهة التسلط والطغيان والعدوان وهو الإرتباط بالسماء “وترجون من الله ما لا يرجون”، وفعلُ الرجاء هذا يُضيف رصيداً في جبهة المؤمنين، ويُعتبر مدداً مستمراً لها من السماء، فبالتالي تكون الحركة ذات بُعدين، بعدٌ عملي واقعي يقرأ متغيرات الأرض وبعدٌ يستمد من السماء قوّة. وبهذين البُعدين تكون معادلة النصر من صبر.

لذا يكون الاستيعاب الحركي لمعادلة “قانون الأثر المتبادل” ضرورياً في توجيه دفّة الحِراك في التركيز بدقة على أمور ثلاث طرحتها الآية الكريمة، وتمثّل بحق مثلث التغيير وامتصاص الصدمات وتحقيق النصر، وأضلاع المثلث هي:

الضلع الأول: التركيز على الهدف بشدّة والاستمرار فيه والتخطيط له “ولا تهنوا في ابتغاء القوم”.
الضلع الثاني: إدراك أسلوب الفعل ورد الفعل والألم المتبادل بين الطرفين، وهو الدافع لدراسة الأثر وصداه “فإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون”.
الضلع الثالث: الركون إلى المدد المعنوي في الارتباط بالله، وهو رصيد إضافي لفريق التغيير وإحداث التوازن الطبيعي في المجتمع، وهذا الرصيد لا يملكه الفريق الثاني الذي يفتقد هذا النوع من الارتباط، حيث يسقط في يديه كل معاني الصبر والنصر المختزن مع مرور الوقت، والنتيجة أن فريق التغيير يتفوق على فريق الجمود بخطوة مهمة وإضافية وهو -الرجاء الداعم-، الرجاء المفتوح على كل أسباب النصر والتفوق والتقدم في سوح المقابلة “وترجون من الله ما لا يرجون”.



ولئن كانا الضلعين الأولين ضمن حسابات الواقع والمنطق والمتوقع أو المخطط له في أي حركة تجابه مقاومة من طرف آخر، فإن الضلع الثالث هو عنصر لا يمتلكه كثيرون، وبالتالي ميزة الثبات على الموقف والمتابعة لها مدد معنوي كبير عبر “الرجاء” الباني والمُعطي لقوة التحرك للأمام، وهو الوقود الإحتياطي لحركة الفرد الذي يستنفذ قواه الظاهرية في المواجهة، والتي لا تكون كافية، إذ لا بد من مدد معنوي يُكمل معادلة القوة والنصر، عبر الارتباط بالله تعالى بما يكون الارتباط دافعاً لاستخراج كل القوى الداخلية في الفرد وتقديمها في الواقع المادية منها والمعنوية، فتسميها بعض الرياضات بالطاقة الداخلية الكامنة، فهي “التشي” الصينية أو “الكي” اليابانية، هي بلغتنا ثنائية “اعقلها وتوكل” ، الجمع بين حركة الأرض ومدد السماء. وللارتباط هذا ينابيع عدّة من شواهد تاريخية يكونُ المدد الإلهي فيها من صُلب الأسباب الأرضية أو عبر فيوضات إلهية تتخذ أكثر من شكل ولون.

وبتلك الثلاثية يكون المضي قدماً في ابتغاء القوم وتحمّل الألم والمدد من السماء، في تحقيق النصر للمبدأ في كل موقف، هي الآلة والآية بين يدي كل مؤمن يسير على خارطة طريق الانتصارين الداخلي والخارجي. وبتلك الثلاثية يكون محرّك البحث عن النصر في كل ميدان وزمان.

لذا، وإن تحركّت كل الأحاسيس الطبيعية للإنسان في خضم أي مواجهة أو مقابلة، والتي قد تدفعه لليأس تارة أو لحسابات أرضية قد تحد طموحه تارة أخرى، ومع ذلك فإن الاستعراض القرآني يقدّم واقعية المواجهة مع إنارة الجنبة الخفية في معادلة تلك المواجهة، وهي سر نصر كل المؤمنين في التاريخ، أكان النصر بمعجزة أو كرامة أو بتسبيب سبب غير متوقع البتّة.

وبهذا الجمع بين أضلع مثلث النصر، فإن اليأس مفقود فيه، والتباطؤ ليس ضمن قاموسه، والمعنويات العالية سِمَتُه، والارتباط بالله ديدنه.
لذا يتحول هذا المثلث إلى رأس سهم النصر، ويفتك بكل من يقاومه. وهذا السهم بحاجة إلى قوس الفهم والإدراك والنية الصادقة.
وتكون الرسالة الكبرى لهذه الآية أن لا تيأسوا، لأن اليأس لا يكون في شخص الإنسان الحركي لله في إعمال العدل والإنصاف في الأرض، لذا يكون هذا الإنسان قوياً صلباً متماسكاً، لأن لديه ارتباط بعالم علوي، ولا تقتصر معرفته بالأسباب الأرضية، وإلا فستكون شكيمته معرضة للكسر والضعف بسرعة.
فاليأس سرطان كل حركة تغيير، والصبر إكسيرها.

بين خد المسيح وصدر محمد, تبصّر في التعاطي السلمي مع التوترات الطائفية بالبحرين





بين خد المسيح وصدر محمد
تبصّر في التعاطي السلمي مع التوترات الطائفية بالبحرين

جعفر حمزة

ما إنْ دخلَ معه في "حِوار" هادىء متلمسّين الجُرح لما يعتريه هذا الوطن حتى دخلا "لا شعورياً" في منطقة الإصطفافات لمرجعية فكر كل منهما، وأدارا ظهريهما لما ابتدءا به من حُسن الحوار والمناقشة إلى حدّة الخوار والمُرافسة.
هذا يقدّم حُجتّه وتبريره، وذاك يرد بما في جُعبته من حُججٍ وتبرير، وهكذا يتحولان من كرسي المشاهد المنصف والمحلل الحصيف إلى حَلَبة المصارعة فيما بينهما، وكلما زاد تعلقهما بمرجعيتهما الفكرية وبخلفية متراكمة لما لديهما زاد اقترابهما من الحَلبَة ليكونا "متصارعين" ، وليس بالأمر الهيّن أبداً أن تُعمل العقل عند الخوف والشحن والكراهية والتراكمات السلبية عن الطرف الآخر. ما هي إلا كُويلمات-تصغير كلمات- حتى يخرج ذلك المارد من قمقمه المكهرب فيُطيح بكل مبدأ إنساني لتقبّل الآخر والتواصل معه، ويخرج المستر هايد ويختفي الدكتور جايكل.(١)

إنْ كان ذاك سيناريو حقيقي ما بين مثقفَين إثنين، فما عسى يكونُ حال البقيّة ممّن تحكمه بساطة الحياة على التعامل بعفوية تارة، وبشحن مُسبق تارة أخرى، ويكون نتاج تلك الشحنات حتّى ينتظر التفريغ عبر قول وفعل وموقف، يُدعمه خطاب مُفتن مؤجج يُخيف المرء من جاره؟

ونِتاج ما ذكرناه آنفاً وكثير غيره آتٍ من مولدّات الشحن الفكري السلبي لأفراد المجتمع، وبدا ذلك بيّناً بعد تسطير شباب البحرين الشجاع موقفه باستقباله الرصاص الحي من السلطة بقلوب عارية إلا من كرامة وعزّة وأَنَفَة.
تلك المواقف الشجاعة التي رسمها الشباب البحريني أسّست بطريقة سريعة ولا شعورية إلى مبدأ "سلمية..سلمية" الذي اُتخذ من شعارات الثورة في بلد عربي عريق وهو مصر في حركته الإحتجاجية لإزالة النظام الجائر الجاثم على صدره لعقود عِجَاف.

لقد شكلّت سلمية الحراك الشعبي في البحرين لوحة واقعية فرضت نفسها على كل العالم، ليلتفت إلى شعب يتعامل بطريقة مختلفة في ثورته أو حركته عن بقية الإحتجاجات في العالم، وخصوصاً العالم العربي.
وبعد سقوط كل الرصاص والجيش والعنف من قبل السلطة بأجهزتها الأمنية أمام بسالة وشجاعة هذا الشعب المسالم، والذي طالما حِيكت وما تزال التُهم الجاهزة في مطبخ السياسة ليتم إلباسه ما تود السلطة من خزانة التُهم الجاهزة لديها ضده، عندما يتحرّك أو يمد رجليه ليشعر بأن الوطن له فحسب.

تلك النقلة النوعية في الفعل والفكر والإيمان في غضون أشهر معدودات مما كان يستخدمه البعض من زجاجات حارقة وحرق إطارات ومواجهات في بعض الأحيان مع القوات الأمنية، تلك النقلة من حرق الإطار إلى حمل الأزهار أربك السلطة في تعاملها مع هذه الحركة الشبابية المولد، وجعلها تتخبّط في اتخاذ قرارات أمنية انسحبت بعد علمها بسقوط هذا الخيار بهذه الحدّة، وتبع ذلك رسم هذا الشعب لوحة بعد لوحة بسلمية وحضارية يتوقف عندها المرء إعجاباً، فمقابل القمع ورد، ومقابل الرصاص صدر مفتوح، ومقابل الرشاش رفع علم، تلك الصور المتناقضة بين حركة الشارع وتداول السلطة للأزمة في بداياتها هزّ العالم لينظر لشعب في جزيرة صغيرة يرسم لوحة جديدة في العالم العربي من أجل تحقيق مطالب مشروعة له لا غير.

وبعد وسام السلمية في مقابل البربرية، كان لا بد ممّن لا زال يؤمن بتهميش شريحة من المجتمع أو بالحشود الغفيرة المطالبة بإصلاحات حقيقية وليست شكلية للبهرجة الإعلامية الإقليمية والدولية فقط، كان لا بد لأولئك أن يمزقّوا تلك الصورة الغالبة على البندقية بسلميتها، عبر دس السم فيها لتتعفّن داخلياً ولتتآكل دون شعور، وبالتالي يتحوّل المشهد من سلمية الحركة وعدالة المطلب إلى مشهد آخر يكون لبسط العضلات فيها مكاناً ولفرض القوة حلاً لا بد منه واستنجاداً.

وما تصاعد نبرة التجييش الطائفي من قبل رجال دين وإلقاء الهلع والخوف في قلوب أُناس من هذا الوطن الطيب، فضلاً عن تصوير دراماتيكي لما سيؤول عليه الوضع في حال تم التغيير الذي يطالب به المحتجون -وما هو إلا منصوص في الميثاق والدستور-، ويتم ذلك عبر تهويل من شعارات مرفوعة ضمن عقل جمعي غاضب مما يجري عليه، فتتخذها بعض الجهات باستخدامها لعدسة التكبير وكثير من مساحيق التجميل السوداء، لتتم بعدها عرض المسرحيات والتأويلات البعيدة عن الواقع لأفراد ومجموعات لها خلفية ذهنية سلبية مُسبقة عن مواطنين من بني جلدتهم جرّاء شحن طائفي مستمر ساهم فيه كثير من رموز وإعلام رسمي وصحف ومواقع ومواقف، مما جعل بيئة انعدام الثقة في الآخر واردة لا تنفكُ عنه.


وتتم الاستفادة مؤخراً من بعض الشعارات المرفوعة والمُبالغ فيها حسب المنظرين السياسيين، في تعزيز ذلك الخوف وتغذية ذلك الهلع، وبالتالي تتعزّز الأساليب الدفاعية عندهم بالهجوم والتعدّي على الآخر، والحديث هنا يدورُ بالأخص على الحلقة الأضعف في التأثر نتيجة قصر تجربتها الزمنية في التمازج مع المجتمع البحريني، ونقصد به المُجنسون حديثاً، ممن يمكن الإعتماد عليهم في الإستجابة السريعة في التوتير الطائفي بل واتخاذ الفعل على الشارع، وذلك نتيجة الخلفية الاجتماعية لدى الكثيرين منهم ممن تم جلبهم من مناطق تكون المدنية فيها والتعليم متدنٍ جداً، فضلاً عن استقوائهم بمن هم من بني جلدتهم العاملون في “حفظ الأمن” لهذه البلاد، ومع خطاب تصعيدي مشحون، يكتمل مثلث العنف ونشر “البلطجة”، هذا مع لحاظ ما تم رصده ومشاهدته من تواطىء من قوات الأمن مع تلك “العنترية”.
وما عدى هذه الجماعة ممن أكل وشرب وصاهر وفرح وحزن مع أخيه البحريني ببعيد جداً عن هكذا أفعال إلا من شذ.

ومع تصاعد وتيرة إفتعال العنف، وكأنها شوكة تلو شوكة في خاصرة “سلمية .. سلمية”، والتي هي الرهان الأكبر في تحقيق المطالب بالضغط المتواصل بحضارية وابتكار في التعبير، والتي يهدف منا حرف مؤشر البوصلة إلى مسألة تم اختلاقها لأمرين:
الأول: لإخافة كل التيارات من بُعبع “العنف الأهلي” واهتزاز الأمن برمته في البلد، فبالتالي يكون تدخّل السلطة مبرراً ويتم قطع الإحتجاجات كونها مُنتجة لتوترات تُدخل البلاد والعباد في أتون عنف وعنف متبادل، ليكون الكف (٢) من أجل الكف (٣).

الثاني: لإنزال سقف المطالب القانونية الواقعية التي رفعتها الجميعات وبعض قوى المعارضة للخروج من الأزمة، وفي معظم تلك المطالب سندٌ من ميثاق أو دستور أو حقٌ مطلوب.

الثالث: إدخال أطراف ضمن “الطبخة” المطالبة بالتغيير، وتلك “الطبخة” ستكون لكل مواطن، إلا أن البعض له “بهاراته” الخاصة التي ستُفسد النكهة، ويتلفظّها آكلها.

وربما هناك أسباب أُخر لم نحط بها علماً بعد، فبسقوط راية السلمية تسقط تباعاً رايات سجلها العالم لشعب البحرين تقديراً وإعجاباً، وما التقارير المحايدة من صحفيين وإعلاميين دوليين إلا شاهدة على ذلك.

المهم الآن وليس بعد حين، في قطار الحركة الإحتجاجية هو “خدُّ المسيح”، “فإنْ صفعك أحدٌ على خدّك الأيمن، فاعطه الأيسر”، لا من منطلق ضعف وهوان، بل من منطلق القوّة التي تدفعك لأن تقول له “لئن بسطت الي يدك لتقتلني ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك أني أخاف الله”
تلك هي المعادلة التي تجعلك منتصراً حتى في قمة الضعف الظاهري بعدم الرد، مما يجعل الطرف الآخر المباشر بالأذية أو من يعلم تتوقف عجلة الشيطنة لديه بهذا السلوك، ويعود لإنسانيته طالباً السماح أو رافعاً الصوت لنصرتك. فذاك المسيح في قولته وهذا الحسين في فعلته مع الحر الذي حاصره وقدم له الماء وبكاءه على قوم أقدموا على قتله.

ذلك هو مبدأ القوة في التعامل مع المسيء “ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حميم”.

قرأتُ وسمعتُ ورأيتُ من ردود فعل عفوية تجذّر السلم فيها ليكون فعلاً طيباً، برمي الزهور في كل مواقع العنف والبطش والتسلط، وحتى من جيّش الأخ على أخيه.
وما نذكره هو خط مواز يجب أن لا نحيد عنه مع خط المطالبة بحقوق مشروعة لهذا الشعب الطيب بجميع أطيافه، والذي يتم استغلال تلك الطيبة إما بقمع أو تخوين أو تخويف أو إرهاب.

إنّ “خدُّ المسيح” بحاجة إلى “صدر محمد” في التسامح وتقبّل الرأي الآخر مهما كان سواء ضمن صفوف هذه الجماهير العريضة المرابطون في دوار اللؤلؤة -الشهداء- أو ممن احتشد في مركز الفاتح أو ممن غائب مكاناً عن هذا وذاك.

صدرُ محمد يتمتّع بالرأفة وتقبّل الرأي، فمن الرأفة “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضو من حولك”، فلا فظاظة في قول أو فعل أو حتى إشارة تُسيء للآخر برمزه أو معتقده أو قادته.
ومن تقبّل الرأي ”وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”، يقولها وهو نبي معصوم، ليفتح كل مساحات الحوار وينزع كل خطوطه المقيدة له، لتتم مقارعة الحجة بالحجة والمنطق بمثيله لا غير.

ما نمرّ به الآن هي آخر مرحلة من مخاض عسير لوطن جديد، بين حرف مسار الحركة وأخذها إلى دهاليز طائفية وأمنية ستكون شاهد قبر لذلك المولود-لا قدّر الله-، أو الإستعانة بيد هابيل القابضة وخد المسيح المُرسل وصدر محمد الواسع للوصول إلى رسم وطن بكرامة وحرية وعزّة، ولاستقبال مولود الغد والأمل والعمل

ولا تتأتّى اليد والخد والصدر إلا عبر تشذيب كل التوترات معاملة وحكمة نشر للسلمية في كل قول وفعل وفكر وثقافة، واحتضان الآخر فعلياً ليس بورد فقط، بل باجتماع وتحاور ودعوة محبة وإذابة هذا الجبل الجليدي الضخم فيما بين أطياف المجتمع، من خلال فعاليات مشتركة أياً كان مكانها وزمانها، وإلتقاء رموز مع حركة سلسلة لترجمة خطابات الوحدة والسلم الأهلي، وبهذا تسقط جدران برلين فيما بيننا، ويفتح الآخرُ عينيه على واقع ملموس غير مزوّر تعمل عليه قناة رسمية هنا أو عبر أقلام جفّ حبرها إلا من كتابة التأزيم والتحشيد والتأليب هناك.

وبذلك فقط، يتم التوجّه الصحيح نحو مطالب مشروعة تعامل معها هذا الشعب بحضارية بالغة وبسلمية عزّ أن تُوجد في العالم بمثل هذه الطريقة، لتكون “سلمية ..سلمية” هي القطار الآمن للوصول إلى بحرين الغد، ففي مقابل كل عنف سيكون ورد.



(١) رواية إنكليزية تقدم الصراع بين الخير والشر،تحكى عن طبيب طيب القلب اسمه دكتور جيكل توصل لعمل تركيبة كيمائية تجعل من يتعاطاها قويا معافا.
وقرر الدكتور جيكل أن يجرب هذا الدواء على نفسه إشفاقا من أن يجربه على أحد من البشر لاحتمال فشل هذا الدواء.
وبالفعل يتعاطى د جيكل الدواء الذى يضفى عليه شخصيه أخرى لرجل قوى ولكنه شرير عنيف سفاك للدماء..
فيصبح د. جيكل ذا شخصيتين... د. جيكل الطبيب الطيب نهارا ومستر هايد السفاح العنيف ليلا..
والقصة عبارة عن رمز لفكرة الشخصية ذات الوجهين.. أو من يظهر بمظهر طيب أمام الناس فى حين أو وجهه الأخر هو وجه الشر...
(٢) أي كف اليد.
(٣) أي الكف والصد.