جعفر حمزة
التجارية السادس والعشرين من نوفمبر 2008م
لم يطل صاحبي في النظر لها حتى أشاح بوجهه عنها لا منجذباً ولا مستأنساً، ولم يكن مني إلا السؤال عن السبب في غض نظره عن الإعلان المرفوع على الرؤوس في الشارع। فكان رده البديهي السريع جواباً: (الإعلانات مثل بعض، ما فيه شي جديد، وما تشدني أصلاً)।فتولد إثر تلك الإجابة اسئلة لا تستطيع حملها هذه المساحة المخصصة للكتابة،وأهم تلك الأسئلة هي أين العلاقة المفترضة بين العلامة التجارية والفرد؟
أين "حرارة" تلك العلاقة التي على الإعلان "إذكائها" وضمان استمرارية وجودها؟ لتصل الأسئلة إلى "عين" السبب। بل أين وكالات الإعلان الكفيلة بتوطيد العلاقة بين العلامة التجارية والفرد؟ لتكون "مميزة" لتٌضفي عليها مسحة من "ود" و"قرب" يشعر معها الفرد قولاً وفعلاً وصورة؟
فالإعلان هو الصورة التفاعلية بين الفرد والعلامة التجارية، سواء كانت منتجاً أو خدمة، وألف باء الإعلان هو تقديم العلامة التجارية للفرد لتكون بينهما علاقة ود وارتباط قوي، لتصل العلاقة في أوجها عندما تتحول إلى حاملة لصفات يميل لها الفرد ويتبناها جزء من سلوكه، ليقع في "غرامها" حباً ووداً। والعلامة التجارية الناجحة هي تلك التي تحتفظ بمكانة خاصة في قلب وعقل الفرد، ليرتبط بها سلوكاً وتفاعلاً।
ويبدو أن تلك العلاقة المفترضة كالبحث عن الحب العذري في زمننا هذا، فهل هناك حب "قيس وليلى"؟ بل هل توجد علاقة "روميو وجوليت"؟
قد يوجد، لكن ما نراه في واقع الإعلان في المنطقة، وخصوصاً على أرض جزيرتنا هو خلاف ذلك تماماً، وذلك لأسباب لا يعلمها صاحبي، بل وقد لا يدرك نتائجها الكثيرون। فالإعلان الفاقد للجاذبية والإبداع يؤثر في مستوى الرواتب للعاملين مباشرة-دون كبار القوم في تلك الصناعة بالطبع- في صناعة الإعلان ويؤصل ثقافة "مافيا" العلاقات الشخصية، وبالتالي انتشار الإعلانات "المستهلكة" كالفطر، ولا يمكن تناول ذلك الفطر أو الاستفادة منه حتى للزينة।فما هو "المغيب" من وراء تلك الإعلانات؟
الخدع البصرية، هي من وراء صناعة الإعلان في المجتمع، وأتحدث هنا خصوصاً عن تلك الصناعة في البحرين। وتتمثل تلك الخدع في الإيهام بوجود شيء لا أساس له। وهو الإيهام بوجود إعلان وإبداع وصناعة إعلان قائمة على الحرفية والإبداع। وكما تكون مهمة الخداع البصري بإرسال معلومات إلى الدماغ لتكون النتيجة في النهاية لا تتطابق مع المعلومات المقدمة في العنصر المرئي، فالأمر لا يبدو مختلفاً عند الحديث عن مستوى الإعلان في السوق المحلية। فما هو الموجود، وما هي الأسباب، وكيف تكون النتيجة؟ وهل من حل؟
هل الخدع البصرية موجودة في صناعة الإعلان المحلية؟هي موجودة بنسب متفاوته وواضحة، ويتمثل خداعها البصري في التالي:
أولاً: لقد أخذ الإبداع إجازته في الإعلانات، حيث أن التكرار في الفكرة، والقيام في الكثير منها بعملية "قص ولصق" من إعلانات أجنبية، بل حتى محلية أصبح "العملة الرائجة" في الكثير من الإعلانات (١)
ثانياً: ضعف في لغة التواصل مع الفئة المستهدفة من الإعلان، سواء بصرياً أو لغوياً। وبالتالي فقدان الإعلان هدفه ورسالته। حيث يلحظ في الكثير من الإعلانات "الزحمة البصرية" في وضع الصورة أو تركيبها، وخصوصاً تلك الموضوعة في أماكن يجب أن يتمتع الإعلان فيها بالبساطة والقدرة على لفت الإنتباه في لحظات، ونقصد بها إعلانات الطرق। فضلاً عن التواصل اللغوي الضعيف الذي يأتي من ترجمة مباشرة من اللغة الأم للإعلان دون "تعريبها"، وفرق بين الإثنين في الخطاب। (٢)
ثالثاً: فتور في الإعلانات الموجودة، حيث تغيب عنها كا يسمونه ب"الفكرة الكبرى" أو "الفكرة الأم"، والتي تكون مصدر التواصل مع الفئات المستهدفة للإعلان، وتضمن تفاعلهم ومعايشتهم للعلامة التجارية لفترة أطول
।
وما الأسباب التي تجعل من تلك الخدع البصرية تأخذ مفعولها في الواقع؟
أولاً: مافيا العلاقات بين الجهة المعلنة ووكالات الإعلان، والتي تستند على العلاقات الشخصية بغض النظر عن الكفاءة وأهمية التقدم وتوطيد قاعدة "العلامة التجارية-البراند"، وذلك باتباع سياسة ما هو موجود "يفي بالغرض" ولا حاجة للبحث والجد في البحث عن مخرجات رفيعة المستوى في الإبداع بالإعلان।
والعامل في هذه الصناعة يرى ويسمع ويلمس هذا الأمر। ليكون ترويج وتثبيت العلامة التجارية رهين بالعلاقات الشخصية، بعيداً عن الكفاءة وهدف العلامة التجارية في ارتباطها "الوثيق" بالفرد المتعامل معها।
ثانياً: غياب أهل البيت من البيت، بمعنى غياب الكوادر المحلية بصورة ملحوظة في هذه الصناعة، وإن وجدوا فهم تابعين لرؤية المدير الأجنبي أو العربي "الخبير" بالثقافة البحرينية المحلية أكثر من البحريني نفسه، وبالتالي تكون لغة الخطاب البصرية واللغوية ركيكة وبعيدة عن ملامسة قلب "قيس" في الإعلان।
ثالثاً:الخوف الذي يعتري وكالات الإعلان، وهم طوع أمر "من يدفع" أي الشركات صاحبة العلامات التجارية। ويحدد السيد " Kevin Roberts" وهو المدير التنفيذي الرئيسي لشركة " Saatchi and Saatchi" هذا السبب بالقول بأن مستوى الإعلان في مجال العقارات أصبح متدنيا وفقيراً في الإبداع। "انظر فقط إلى كل تلك الأموال التي يتم إنفاقها في مجال العقارات। ومن ثم انظر إلى كل تلك الإعلانات، فهي تبدو متشابه। هل تمزح معي؟ فهي تدفعني للضحك"।
ويرجع السيد " Roberts" السبب في ذلك إلى الخوف الذي يعتري وكالات الإعلان في هذه المنطقة من أخذ المخاطرة في تقديم الجديد، وهو ما يشكل عائقاً في جودة العمل الذي يتم تقديمه।(٣)
وما هي نتيجة تلك "السيطرة" التي تتمتع بها الخدع البصرية، لتكون هي ما نعيشه يومياً؟
أولاً: إنتشار الإعلانات التي تفتقد الإبداع والتواصل العملي مع الفرد المستهدف، كانتشار النار في الهشيم، وهي نتيجة انتشار "أكشاك الإعلان"، سواء كانت "دكاكين الإعلانات" أو "وكالات الإعلان العالمية" والتي تتخد من اسمها "مركباً" للظفر بإعلانات هذه الشركة أو تلك، دون تقديم حقيقي لمستوى تلك الوكالات كما هو في خارج المنطقة। والنتيجة مستوى "مستهلك" و"ممل" من الإعلانات، لتكون مباشرة مع غياب الإبداع فيها كتلك التي تنشر في المجلات الدعائية المجانية.
ثانياً: نتيجة لمافيا العلاقات الشخصية، وتدني مستوى الأفكار المقدمة، تصبح الكوادر المطلوبة في هذه الصناعة ليست بالضرورة موهوبة، بل سيكون المطلوب "ماكنة إنتاج"، حالها كحال من يعمل في خط سير الإنتاج والتركيب "إسمبلي لاين"। والنتيجة توظيف كوادر "تمشي الحال"، وتوفر في "الميزانية"، قكلما كانت الكوادر أقل إبداعاً كانت أفل تكلفة.وبالتالي يكفي لوكالات الإعلان كوادر أن تكون قادرة على عمل "التصميم" و"الكتابة"، وكفى، ويتم نسيان الحرفية والإبداع من ضمن المعادلة.
ثالثاً: تعزيز المستوى المتدني من الإبداع المقدم في الإعلانات، نتيجة التدفق المالي "السخي" من لدن الكثير من الشركات، وخصوصاً الشركات العقارية التي أصبحت إعلاناتها "إجتراراً" لنفس الأفكار دون تقديم شيء جديد في الإعلان। ويكفي أن تنظر للمشاريع الكبيرة في البلد لترى أن "العنوان الأفضل والمفضل وعنواني و..." هو ما خرجت به قريحة "المبدعين" في وكالات الإعلان، وهو الذي توافقت عليه الشركات العقارية واقتنعت به. هذا فضلاً عن بقية الشركات والوزارات، فحدث ولا حرج.
بعد كل هذا، هل من سبيل لاستبدال تلك الخدع بصور حقيقية؟
أولاً: السعي نحو الحرفية والإبداع بعيداً عن حسابات "العلاقات الشخصية"، والذي سيعزز هذا الاتجاه، طبيعة المنافسة في السوق، والتحرك الجاد نحو "المختلف" للتميز عن بقية المنافسين، والوصول إلى ذلك لن يأتي إلا من خلال خلع "رداء" العلاقات الشخصية و"الواسطات"، وإن كان الأمر صعباً إلا أن شدة المنافسة وانفتاح السوق ستفرض معادلة جديدة।نأمل ذلك।
ثانياً:تهيئة الكوادر المحلية، لتكون مؤهلة لدخولها بقوة في سوق صناعة الإعلان وإثراء هذه الصناعة بما هو مفقود فيها الآن، من لمسة محلية محترفة، وخطاب قريب من الفرد فكرة وصورة وكلاماً
।ثالثاً: ارتفاع وعي واطلاع الفرد، من خلال "عيونه" المتعددة عبر الفضاءات المفتوحة له، وذلك عبر الإنترنت والفضائيات وغيرها، وبالتالي لم يعد الفرد المتلقي أقل إبداعاً ممن يصنع الإعلان। وهذا يحتم العمل الجاد على التعامل مع الفرد بكونه مدركاً، وليس فرداً يعيش في جزيرة نائية عن العالم الحديث في صناعته وتقنيته وإبداعه।
رابعاً: إدراك الكثير من أصحاب الأعمال إلى نوع الخطاب المقدم للفرد، وبالتالي سعيهم إلى التعاون والعمل مع من يتقن لغة أهل البيت، فأهل البيت أدرى بما فيه। ولن تنفع أفضل الإعلانات في العالم إن أٌخذت كما هي ووضعت في مجتمع يختلف ثقافة وفكراً عن أساس وضع الإعلان لمجتمع آخر।
خامساً: إقامة فعاليات تبرز القيم المغيبة في الإعلان، ورفع مستوى كفاءتها، والطرح الجاد للمواضيع ذات العلاقة بالعلامات التجارية ودور وكالات الإعلان في رفد هذا المضمار। على الأقل للتقليل من حدة سيطرة الإيهام البصري.وإلى حين وقت "اليقظة" يبدو أن ما سنشاهده هو تكملة لمسلسل المافيا والقص واللصق. أتمنى أن أكون مخطئاً وأرى ما ليس بخدعة بصرية. أتمنى!
(١) من مقال للكاتب بعنوان " Copy & Paste" بتاريخ ١٦ أبريل ٢٠٠٨م।(٢) من مقال للكاتب بعنوان "على الطاير" بتاريخ ١٧ يوليو ٢٠٠٨م।(٣) من مقال للكاتب بعنوان" ضحكة Kevin Roberts" بتاريخ ٧ مايو ٢٠٠٨م
।* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي।