جعفر حمزة*
أينما ولّيتَ وجهك تراها ماثلة في هذه الفعالية أو ذلك المعرض، في هذه المحاضرة أو تلك المبادرة. فتحسب أنّ لها القدرة على التشعب والانتشار دون أن ينفرط عقدها أو تخبو هيبتها. ويحسبها آخرون أنّ لديها من المال ما لا تعرف كيف وأين تُنفقه، وهو ما يجعلها ذات الحضور الأبرز في كثير من الفعاليات والمبادرات في المملكة، مما يرونه أنها غير ذات علاقة ببعض منها أو كثيره.
وما بين قدرتها على الحضور الفاعل واتهامها في إنفاقها غير المخطط -كما يراه البعض-، مساحة كبيرة من البحث يمكن الوصول عبرها إلى إيصال رسالتها بالتمكين بما لديها من أدوات في دعم ذلك.
هي “تمكين”، والتي تبدو الأنشط والأقرب للمجتمع كجهة شبه حكومية، تتخذ آلية فعّالة في دعم شرائح متنوعة من البحرينيين بضخ وسائل المعرفة لهم “الشهادات الاحترافية” أو من خلال تزويد المُكنة لديهم “برامج دعم المؤسسات”، مما يحفّز الباحث المنصف على التوقف والتأمل كثيراً فيما تفعله “تمكين” وما يمكنها أن “تفعله” في تكوين مجتمع معتمد على المعرفة، مُزوّدٌ بأدوات تأتيه ذات اليمين وذات الشمال من خبرات خلف البحار عبر ندوات ومحاضرات وورش عمل تخصصية أو من خلال دعم يرفع من مستوى الإنتاج لهذا الباديء في مشروعه، أو لذلك الآمل في تطوير مؤسسته.
ما لدى تمكين أكبر بكثير مما يمكن أن يتخيله الظانّ بتشعبها أو المشكك بقدرتها.
تمكين وكرة الثلج!
لتمكين القدرة في تقديم ”المعرفة المُنتجة The Knowelage Circulation” والتي من خلالها نضمن تدفق المعرفة من المصدر إلى المستفيد، وتواصل مسيرتها من المستفيد إلى مستفيد آخر مع إضافة اللمسة المحلية والشخصية لتلك المعرفة، لتتراكم بعد حين مزيج من معرفة عالمية ذات نكهة ودراية محلية. وتكتمل دائرة مهمة في التدوير المعرفي . فالحاصل الآن هو تمدد معرفي متفرّق يتوزع على الأفراد والمؤسسات، وكل يعمل في سبيله، وطبعاً يصب كل ذلك في الاقتصاد المحلي صنعاً ومعرفة بطريقة عامة، إلا أن ذلك يلزمه عنصران مهمان إذا ما أردنا بناء ذكي للتدوير المعرفي، وهما:
أ. الامتداد الرأسي Vertical Knoweldge المبني عليها الخبرة في المجال الواحد .
ب. الامتداد الأفقي Horizntal Knoweldge، وهو وصل أولي الاهتمام الواحد ببعضهم، وتوسعة مساحتهم بصورة أكثر فعالية.
والهدف من طرح هذه النقطة هو تكوين مصدر حيوي قوامه المستفيدون من برامج تمكين، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، لتأسيس مصدر معرفي متجدد Think Tank يضم أصحاب الشهادات الاحترافية ورواد الأعمال وأولي المشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر. وبتبادل الخبرات وتكوين شبكة معرفية بينهم جميعاً، لتبدأ كرة الثلج Snow Ball، تتدحرج من قرية إلى أخرى ومن منطقة إلى سواها لتشمل كل البحرين، ويكون هذا المصدر حيوياً ومتجدداً لأطراف رئيسة ثلاث:
١. تمكين: حيث يمكن اعتماد هذه الخطوة مؤشراً ديناميكياً وقياساً للتغذية الراجعة من المستفيدين من برامج تمكين ومبادراتها وبطريقة قريبة جداً وواقعية.
٢. المستفيدون الحاليون: حيث لا يقتصر الأمر عندهم على اكتساب المعرفة أو الدعم من تمكين، بل سيكون بين يديهم مصدر متجدد من الخبرات ممن هم في نفس تخصصهم واهتماماتهم، مما يقدم لهم طرقاً إبداعية ومتنوعة، بحيث يكون هناك تكاملاً في المشاريع، وتكون هذه الخطوة عبارة عن “حاضنة تلاقي الأفكار” في شتى المجالات للمستفيدين من برامج تمكين.
٣. المستفيدون الجدد والمحتملون: ستكون هذه المبادرة عرض حي للمستفيدين من برامج تمكين، بل أكثر من ذلك، سيرى هؤلاء ما بعد الاستفادة، حيث ستكون الأفكار وتبادل العصف الذهني محفزاً أكثر على الإقدام بالاستفادة الذكية من برامج تمكين، بحيث يبدأ مما انتهى منه الآخرون، وبالتالي تكون الاستفادة مدروسة بعناية.
٤. أولوا الخبرة والتجارب الأخرى: ويكون هذا الأمر سارياً على أولي خبرة بحرينيين أو أجانب، ممن يمكنه الإضافة النوعية في هذه المبادرة وتكبير “كرة الثلج”، وتقديم معلومات ودفع جديد في هذا المسار. سواء على جانب التطوير الفردي أو المؤسساتي.
فهم محلي ومحاكاة عالمية
وهذه المبادرة توفّر نقاط المعرفة للمتلقّي، وعليه وصلها. كلهٌ بطريقته، أي توفير الأدوات التي يمكنه من خلالها تكوين ما يود.
Share Your Dots. Let them Connect them.
ويمكن ذكر تجربة TED.com أو PSFK.com، كأنموذجين مقاربين لما نتحدث عنه، ويكون باسم “تمكين”، وصورته هي “منتدىً تفاعلي” معتمد على المستفيدين من تمكين أو ممن لديه ما يثري المجتمع البحريني من خلال مساحة تحرك تمكين.
مكان يستضيف فيه متحدثون مع تجاربهم وأفكارهم ورؤاهم، وعرضها في هذه المبادرة،
بحيث يتم توثيق كل تلك المشاركات وعرضها في قناة يوتيوب خاصة أو عبر موقع إلكتروني يحوي كل تلك المشاركات، وليبدأ التراكم المعرفي حينها خطوة بخطوة، فكرة بفكرة، وعرض بعرض. لتتشكّل حينها قاعدة معلومات ثرية بها مزيج لا يمكن الحصول عليه من هارفارد أو اكسفورد أو من أي جهة مهما علا شأنها لوحدها فقط، ففي كل مجتمع “مفتاح”، وللمفتاح سنّان مهمّان، هما المحاكاة العالمية في التطوير والفهم المحلي للتغيير.
Global Updating & Local Understanding
وهذه “الخلطة” إذا ما توافرت، فسيكون لها عظيم الأثر في إحداث التغيير في كثير من المجالات وانعكاس ذلك على “العقلية العامة” للمجتمع المحلي، وتبدأ من صاحب المتجر الصغير الطموح المركون في نهاية الشارع بالقرية الفلانية أو ذلك الشاب المندفع نحو التحصيل المعرفي بتخصص يأمل أن يكون له قدم ذو أثر فيه بالبلد. أو رائد الأعمال العامل بكد في تقديم المميز في مجاله ، أو ربة المنزل التي لا تعرف الكلل أو الملل، فتحوّل الوقت إلى مركب تصنع فيه موهبتها وتروّج له وتكتسب منه مالاً.
إذا ما امتزجت كل تلك القدرات والطموح والرغبة والإرادة بتخطيط يكفل نموها، وتطورها وإبداعها، فإننا نقوم بعملية ضرب المعرفة Knoweladge Multiplication ، وهي جديرة بتشكيل عقلية مؤثرة في التفكير المجتمعي وتكوين Socio-Economic فعّال، مبني على فهم واعي للقدرات والإمكانيات المحلية وقاصدٌ للمستويات العالمية.
بهذه التركيبة الثنائية، بين الفهم المحلي والمحاكاة العالمية، نقّلل من الطاقة المهدورة في تقديم المعرفة دون متابعة أو تدوير، فعقد الندوات أو المؤتمرات وورش العمل جيدة عموماً، إلا أنها لن تؤتي ثمارها إذا ما تمت متابعتها وضمان وصول تغذية راجعة لا كتقييم للفعالية فقط، بل لمعرفة الأثر بعد ذلك على المشارك.
المعرفة كالماء، يجب أن يتحرّك، فإذا ما ركد فسُد.
وكذلك المعرفة، يجب أن تتمتع بالتدوير لتنمو وتكبر وتحدث الأثر. ولا يكون ذلك متحققاً إلا بوجود من ينقل المعرفة ومن يتقبلها وهكذا يكون التدوير والحركة.
تصنيع الصنّارة، وتعلّم الصيد!
ما تقوم به تمكين للمطلّع يُدرك حجم العبء والتوسع الذي تقوم به، وحجم المسؤلية التي تغيب ملامحها عند كثيرين، ويكفي للباحث المنصف أن يزور موقع تمكين الإلكتروني ويطلع على حجم البرامج والمبادرات والمشاريع التي تقوم بها، فضلاً عن عرضها لخطتها التشغيلية للملأ، وبتفاصيل تُوصل الباحث إلى قناعة بأن الدور الذي تقوم به هذه الجهة كبير جداً ومتشعب وطموح في ذات الوقت.
ما تقوم به تمكين للمطلّع يُدرك حجم العبء والتوسع الذي تقوم به، وحجم المسؤلية التي تغيب ملامحها عند كثيرين، ويكفي للباحث المنصف أن يزور موقع تمكين الإلكتروني ويطلع على حجم البرامج والمبادرات والمشاريع التي تقوم بها، فضلاً عن عرضها لخطتها التشغيلية للملأ، وبتفاصيل تُوصل الباحث إلى قناعة بأن الدور الذي تقوم به هذه الجهة كبير جداً ومتشعب وطموح في ذات الوقت.
واعتقد أن العلاقة الروتينية بين الفرد وأي جهة رسمية بالإمكان أن تتغير إلى دور تفاعلي ملموس ابتداء من “تمكين”، وذلك بحكم بعض مبادراتها التي تشكل فارقاً جوهرياً وجميلاً في أسلوب التعامل والتفاعل بينها وبين المجتمع، وأعني بذلك مثلاً مباردة التواصل المجتمعي، ووجود ممثلين لتمكين في مختلف المناطق بالمملكة، وما زالت قاعدة الممثلين تتوسّع.
ومع وجود وعي ملموس للتوجه نحو ريادة الأعمال أو البدء بالمشاريع الخاصة أو النَفَس الجميل في استحصال الشهادات الاحترافية من قبل العديد من الأفراد، ترتفع وتيرة الاهتمام بتدوير المعرفة وتوسعتها بطريقة أكثر فاعلية وإنتاجاً.
ومن يضع “بيضه” في سلّة واحدة، فقد جانب الحِكمة، وأهمية الوعي بريادة الأعمال والبدء بالمشاريع الخاصة ليس كافياً حتّى، ومقولة “علمنّي الصيد بدل أن تعطيني سمكة” باتت قديمة وغير عملية في زمن، تتسابق فيه الشركات لاستحصال الفكرة الإبداعية، والتصنيع الجديد والابتكار الذكي لكثير مما حولنا، ولو نلاحظ أن حجم الاختراعات يكاد يكون صغيراً جداً بمقابل حجم الابتكارات والتصاميم الصناعية التي لا تتوقف، وهذا عصر التدوير المعرفي، وزمن الفكرة الذكية والتقديم الأذكى. زمنٌ تجاوز الفاعلون فيه مقولة “علّمني الصيد” ليصبح مطلبهم “علمني كيف أصنع صنارة”، ليكون الفرد مصدر إنتاج لا استحصال فقط، ومصدر إبداع لا تشغيل دون سواه.
وإذا ما زلنا في المرحلة التشغيلية من دعم مادي وأساسيات ف تزويد المعرفة لطالبيها بالصورة الحالية، فهذا جيد لكن نطمح بالمزيد، وبرغم حجم السوق البحريني المتواضع مقارنة بأقرانه في دول المنطقة، فقد بات التركيز على الإنتاج المعرفي هو الرهان في تصدير مُنتج بحريني للداخل والخارج على حد سواء، منتج يتمتع بذراع المعرفة تسانده ذراع الدعم والإسناد.
ومن دون الأخذ بجدية على الأقل في التفكير بهذا الأمر ومن هذه الزاوية، سيكون لدينا قصص نجاح قد نعرضها لتبيان ما أنجزناه من دعم مشروع هنا أو هناك وهو جيد ومطلوب طبعاً، لكنها قصص نجاح تدور في فَلكِ اصطياد السمك، وليس في صناعة الصنارة وتلك خطوة متقدمة، فما دمتَ تملك صناعة الصنارة، فالأداة الفعّالة بين يديك، بها يُختصر الجهد والوقت، ولها يميل كل صياد محترف.
قد تكون مطالبة بنقلة متفائلة جداً أو مبالغ فيها لدى البعض أو سابقة جداً لأوانها، وهكذا ينبغي التفكير فيما بعد عشرات السنين وليس الآن، التفكير خارج إطار الزمن الذي نكتب فيه أو ننتقد أو نعمل أو نخطط له، بل علينا التفكير في الحلم، لأنه الوحيد الذي يثور عن عقال الزمن وحدوده.
ويحضرني قول آينشتاين “الخيال أهم من المعرفة”، فالمعرفة لها حدود وضوابط، أما الخيال فله القدرة على استنفار العقل وقدراته لاكشتاف معرفة جديدة.
قراءة المستقبل، ممكنة
ومن تلك التصورات والأحلام والتي يبدو أن “تمكين” لها القدرة على الاقتراب منها أو ملامستها، هو توفير “خرائط الخطط الزمنية للأفراد والمؤسسات
“The Map of Time Planning for Individuals and Enterprises”
MTP4IE
وقد تناولت ذلك الموضوع في مقال سابق بعنوان “الخروج من نفق الزمن. كيف نفهم الزمن بطريقة مغايرة؟”
http://jaafar-hamza.com/wp/?p=402
وخلاصته أن لو كان عندنا الخطة المتوقعة لعام كامل قادم من كل فرد أو مؤسسة على الأقل، فستكون عندنا كثير من التشابكات والمشتركات المتوقعة، والتي يمكن بناء عليها تأسيس تصورات وبذور مبادرات تُفيد تلك الخطط على أرض الواقع، فضلاً عن أهمية مقارنة تلك الخطط للأفراد والمؤسسات مع الخطة المتوقعة لنفس الفترة من “تمكين” واللاعبين الرئيسيين في القطاع الخاص، وكأننا نقارن أشعتي إكس عبر وضعهما فوق بعض، والاختلاف الحاصل بينهما يعطي مقدار الجهد المطلوب بذله لتجسير الهوة بينهما. ولئن كان هناك عمل سابق لردم الهوة في “فجوة المهارات Skills Gap”
وهو مطلوب إلاأنه في الزمن الحاضر فقط، وما أعنيه من الفكرة المذكورة أعلاه هي ردم الهوة المتوقعة في المستقبل، أي قبل أن تحدث.
تخيّل معي هذا السيناريو الذي يبدو صعباً، حيث يكون عندنا خارطة زمنية لكل فرد ومؤسسة في المجتمع، وهذا ما يجعلنا ننظر إلى كم هائل من التصورات والتوجهات، تتشابك في كثير من النقاط وتتباعد في أخرى، وبالتالي يمكن حساب نقاط الإلتقاء وما يلزمها، والعمل على توفير الممكن منها والتخطيط لتقديم ما يمكن في المستقبل لها. فإذا كان التوجه مثلاً لعدد معين من أفراد المجتمع هو بناء مطعم ضمن عام أو عامين، فهذا معناه تعدد خيارات المطاعم، وسهولة الوصول إليها إذا تنوع مكانها الجغرافي في المنطقة الواحدة، فضلاً عن رفع سقف المنافسة وزيادة العروض وغيرها من نتائج أخرى.
وتلك المعرفة تستلزم توفير المواد الخام للقادم، من مقاولين وتسويق وعمال نظافة وموظفين للمطعم وتدريب لهم، بحيث يمكن لذلك المجتمع أن يتبنى تدريب الموظفين في مجال المطاعم مثلاً. وهكذا الأمر على بقية القطاعات والأنشطة.
وهذا الأمر تقوم به بصورة ربما مختلفة الدول المتقدمة، التي تضع التخطيط العمراني وتلحقه بالتخطيط السكاني وتتبعه بالتخطيط المهني.
ولئن كان فيما قلت قفز في الزمن، ومستقبلي جداً، فالحاضر أفضل وقت لذكر المستقبل، وليس سواه.
وعوداً إلى فكرة “المعرفة المنتجة”، ومحاكاة تجربة TED بنكهة “تمكينية” إن صح التعبير، ففي هذه الفكرة مصدر معرفة متجدد سيكون له طويل الأثر مقارنة بالمطروح حالياً من استضافات لخبراء ومتحدثين من الخارج، وهي مهمة طبعاً، لكنها ذات أثر لحظي فقط.
العالم مر من مرحلة “علمني الصيد” إلى “علمني كيف أصنع صنارة”، فهل نحاكي هذا التقدم؟
اعتقد أنه بإمكاننا ذلك إذا ما عملنا للغد لا اليوم، وتكونت عقلية تدوير المعرفة مني ومنك، وننشر ذلك في أدبياتنا، كتاباتنا، حديث مجالسنا، تشجيع بعضنا على انتهاج ذلك.ومشاركة أي معرفة ذات نوعية لتكون محل اهتمامنا وذات وزن لدينا كحال كثير مما نتناوله سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً.
فعند وهب المعرفة وزناً، تُعطيك الجاذبية اللازمة لتكون مركز التغيير.
وما حديثي وطرحي السابق إلا ضمن عملية معرفية أكبر، من خلال استنهاض قدرات مكتنزة في جهة يمكن لها أن تحدث التغيير الفعلي في المجتمع. والحركة على طريق به الكثير من فرص النهوض بعقل جمعي SocioEconimic فعّال في المجتمع البحريني، مع وجود جهة يمكن أن تكون مصدراً لتصنيع الصنارات “تكوين المعرفة”.
* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي