جعفر حمزة*
التجارية ٢٧ أغسطس ٢٠٠٨م
كان بانتظار مكالمة تهمه من أحد الأخوة، وإذا بصوت الهاتف النقال يعلن وصول رسالة "مسج"، فأسرع بفتحها ظاناً بأنها متعلقة بما ينتظره، وكانت "المسج" تتغنّج له وتُغريه بدخول في مزاد علني للظفر بهاتف نقال جديد "آخر موديل"، ولم يكن منه إلا حذفها على الفور، وقد اغتاظ من ذلك، فمن لديه الحق بأن يأخذ رقم هاتفي ويضعه في يد هذه الجهة أو تلك الجهة لتكون مثل "السبيل" لكل من هب ودب ليرسل ما يريد
كان ذلك لسان حال صاحبنا الذي ما زال منتظراً لخبر هاتفي قادم يهمه، وما هي إلا دقائق معدودات فإذا برسالة ثانية أعلنت وصولها، فأسرع بفتحها مستبشراً أو وجلاً فإذا هي تعلن عن "طبق عشاء خاص" من إحدى المطاعم وبأسعار تفضيلية، فإذا شكه تحول إلى يقين فيما يتعلق ب"استغلال" منظم لخصوصية فردية تقوم بها بعض الجهات، حيث أصبح هاتفه "لوحة إعلانات" تستقبل هذا الإعلان وذاك دون "دق باب" صاحب الهاتف। فكم واحد منا يتلقّى هاتفه العديد من الرسائل النصية الترويجية في اليوم الواحد؟ وهل تم أخذ أذنه في استقبال ذلك أصلاً؟ بالطبع لا।
لقد أخذ التطور في المجتمعات في الجانب الرقمي بتشكيل العديد من العلاقات بين الأفراد فيما بينهم من جهة، وما بينهم والشركات من جهة ثانية، وبينهم والحكومات من جهة ثالثة، ليصبح ذلك الجانب المتمثل في وسائل الاتصال والتفاعل المختلفة وسيطاً يتم تقديم من خلاله العديد من الرسائل -بغض النظر عن محتواها وهدفها-، وكانت من أولويات تلك العلاقة تقنينها ووضعها في أطر عملية حيث لا يكون هناك تداخل بين موضوع الحصوصية الفردية وبين حق الوصول للمعلومات
। (ومنذ مطلع السبعينيات بدأت دول العالم تتبنى قوانين حماية الخصوصية إما عن طريق القوانين الشمولية التي تعترف بالحق وتقر المبادىء الأساسية وتقدم الإطار القانوني الموضوعي والإجرائي لحماية خصوصية المعلومات أو حماية البيانات التي تتصل بالأفراد وحياتهم الخاصة (البيانات الشخصية)، أو عن طريق حزمة قوانين قطاعية تتعلق بالبيانات في قطاعات معينة، كالبيانات الصحية أو المالية أو بيانات الأحوال المدنية أو غيرها)। (١)
إنّ مفهوم الخصوصية يتعدى التعريف المتداول والمتمثل في الخصوصية المادية أو المعنوية، حيث تتمثل الأولى في الأشياء المادية التي يمتلكها الفرد ويحميها عنها القانون بحكم ملكيته لها، وأما الجانب النعنوي فيتمثل في حماية القيم والعناصر المعنوية للشخص، ومع تطور وسائل الاتصال المختلفة أصبح مفهوم الخصوصية ملحاً في إبعاد الفرد وحمايته من استغلال جهات وشركات ومؤسسات لمعلوماته الشخصية من أجل الترويج ونشر ما تريد من قيم ورسائل وخدمات ومنتجات وإلى غير ذلك. لقد تم تحويل الفرد بطريقة أو بأخرى عبر وسائل الاتصال الحديثة إلى ما يشبه "لوحة الإعلانات" ولكي يثبت أي إعلان لا بد من وضع "دبوس" عليه ليركز في الذاكرة أو السلوك اليومي، ولكي نثبت ما ندعيه إليكم "الدبابيس" التالية، أقصد الأمثلة التالية :
الدبوس الأول: الرسائل النصية القصيرة "المسجات": أصبح الهاتف النقال للفرد "مرتعاً خصباً" للإعلانات والترويج للبضائع والخدمات، وذلك دون إذن من صاحبه، فهل يحق لشركات الاتصال "وضع" أرقام مشتركيها في يد شركات أو مؤسسات أو جهات أخرى لتقوم الأخيرة بإرسال ما تشاء إلى الأفراد دون أذن منهم؟ وهو سؤال جوهري يدخل في صميم انتهاك حق أصيل للفرد بالخصوصية وعدم الإزعاج، فما الفرق بين من يزعجك بدق جرس منزلك كل مرة وبين من يرسل "مسجات" إليك لا تريدها أصلاً؟ ولا أذكر عندما اشتريت رقم هاتفي أن من ضمن بنود الاتفاقية بيني وبين شركة الاتصال أن يكون رقم هاتفي "سبيلاً" لمن أراد أن يعرض بضاعته وخدماته علي. حالها كحال ذلك البائع لذي يدخل في وسط بيتك ليعرض بضاعته عليك، ليقول لك إذا لم ترد سأخرج من البيت حالاً. والأمر سيان حيث يرد أولئك "المروجون" بأن ما يلزمك هو "ضغطة زر الإلغاء" للرسالة وكفى، ولا داعي لتكبير الموضوع।
فإذا دخل بيتك بائع جوال دون إذنك وعرض بضاعته هل ستكتفي بعدم رغبتك في الشراء؟
تلك هي عين الخصوصية التي تتمثل في بيتي، سجلي الصحي، بياناتي الوظيفية، سجلي الأمني، ورقم هاتفي أيضاً، لا يحق لأحد أن يستعملها دون إذن مني، إلا في حالة أمنية طبعاً على سبيل المثال لا الحصر. واعتقد أن من حق أي مواطن أن يرفع قضية على شركة الاتصال التي اشترى منها رقم هاتفه، حيث تعدّت على خصوصيتك الرقمية، والتي تم إقرارها في العالم منذ الستينيات وتأصلت بعد عقد من الزمن، في حين يتم تداولها كأوراق اليانصيب بين شركات الاتصال وشركات ومؤسسات مختلفة.
وسؤال "برىء" لهيئة تنظيم الاتصالات في البحرين، أين موقعها من الإعراب من هذه القضية؟ ألا يمثل ذلك "استغلالاً" لقاعدة بيانات شخصية ومعلومات فردية ووضعها في يد الغير دون موافقة الزبون "صاحب الرقم"؟
الدبوس الثاني: إعلانات الطرق يكفيك أن ترى بعض شوارع البحرين، لتظن أنها معرضٌ للإعلانات -بغض النظر عن مستواها الإبداعي-، حيث أصبحت مصدراً لتزاحم بصري غير مريح، فبعضها يفتقد التثبيت الآمن لها، لتسقط إن هبّت رياح عليها، وقد تسبب في أضرار مادية أو حوادث مرورية، والبعض الآخر يتم وضعها لتحجب الرؤية في دوار أو منعطف. لقد أصبح الكثير من إعلانات الطرق تفتقد لعنصر السلامة، فأين وزارة البلديات عن هذا الموضوع؟ أصبحت تلك الإعلانات تزاحم المدى البصري للأفراد في السياقة والانتباه، وتحولت الشوارع إلى "دبوس" آخر ليتم تركيز هذه الماركة أو تلك الرسالة للفرد، وقليل ما هو مريح للبصر। وباتت الطرق سبيلاً آخر للتعدي على خصوصية الفرد في التحرك البصري الحر، بل تكالبت عليه تلك الصور واللافتات لتصغر من مداه البصري المريح।
وإن كانت تلك دلالة على التطور في السوق ودخول سوق إعلانات الطرق بقوة في إيصال الرسائل للفرد، إلا أنه ما زالت هناك العديد من الفرص والأفكار التي يمكن أن "يتفاعل" معها الفرد عوض أن "تزاحمه". وتلك مهمة ثلاث جهات" الشركات المعلنة ووكالات الإعلان ووزارة البلديات".
الدبوس الثالث: القصاصات وهذا الدبوس آتٍ من رحم المجتمع نفسه।حيث بات البعض يضع إعلانات "الحملات الدينية" على الواجهة الأمامية للسيارة، وتوزع بالمئات إن لم تكن بالآلاف في مناسبات معينة "كصلاة الجمعة" أو الاحتفالات الدينية، ويتم وضع تلك القصاصات الإعلانية على السيارات دون إذن من أصحابها، وهذا تعدٍ على خصوصية لا يمكن إنكارها، و النتيجة مئات القصاصات تُرمى في الشارع।ويمكن وضع تلك القصاصات في مكان معين بحيث يمكن للفرد أخذها إذا أراد. فليضع أصحاب الحملات ذلك في عين الاعتبار، ومن أراد الترويج لحملته، فهناك أكثر من طريقة ليس من بينها وضع الإعلانات على السيارات دون إذن من أصحابها.
الدبوس الرابع:صناديق البريد وهذه التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، فدفع الشخص لرسوم سنوية أو نصف سنوية لاستئجار صندوق بريد، لا يعني أن يكون صندوقاً للترويج ووضع الإعلانات والعروض فيه. ولا أعتقد بوجود بند في الاستئجار يعطي الأحقية لمن أراد الترويج في وضع إعلاناته في صندوقي البريدي. تلك خصوصية لا يمكن التفاوض فيها وتأويلها على "المزاج"، فأين وزارة المواصلات عن ذلك؟ إلا إذا ظن القائمون على ذلك بأن صندوق البريد حاله كحال صندوق البريد الإلكتروني "الإيميل"، حيث يمكن إرسال الإعلانات إليه كما يشاء المعلنون!!
وهناك الكثير من "الدبابيس" التي لا يسعنا "وضعها"، إلا أنه من المهم هو منح الخصوصية الفردية حقها الطبيعي في ظل ظروف تصاعدية ترسمها التطورات العمرانية والتحديات التقنية، فضلاً عن "التصارع" في السوق والمنافسة الشديدة والتي أفضت إلى أساليب تتعدى على "الخصوصية الفردية" وكأنها تضرب "تحت الحزام" في الكثير من المجتمعات، وتغض الطرف عن مكون أساسي في المجتمعات الديمقراطية وهي (خصوصية الاتصالات، والتي تغطي في تطورها الراهن سرية وخصوصية المراسلات الإلكترونية والبريد الإلكتروني وغيرها من وسائل الاتصال والتحادث في البيئة الرقمية الى جانب ما تغطيه وفق مفهومها التقليدي من خصوصية كافة أنواع المراسلات والاتصالات العادية ، كالبريد والهاتف وغيرها ।( )٢(
يقول "آلان ويستن" مؤلف كتاب "الخصوصية والحرية" عام ١٩٦٧م بشأن خصوصية المعلومات بأنها تعني " حق الافراد في تحديد متى وكيف والى أي مدى تصل المعلومات عنهم للآخرين"، ويقول "ميلر" مؤلف كتاب "الإعتداء على الخصوصية"، بشأن تعريفه خصوصية المعلومات بأنها "قدرة الأفراد على التحكم بدورة المعلومات التي تتعلق بهم". وفضلاً عن كل تلك التعريفات، يبدو الأمر منطقياً عندما نتحدث عن الخصوصية وهي حق طبيعي للأفراد، فهل تستمر تلك الدبابيس في "الغرز" اليومي، حيث يتم استغلال المعلومات الخاصة للفرد للترويج واستهدافه أينما كان "الهاتف، صندوق البريد، السيارة، الطريق، المنزل"؟ أم أن الدائرة الشخصية الصغيرة والتي بدأت تتقلص شيئاً فشيئاً أصبحت بمثابة "منتجاً" يمكن بيعه لأطراف أخرى؟
مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
( ٢،١)
دور حماية الخصوصية في تشجيع الاندماج بالمجتمع الرقمي، المحامي يونس عرب.