بالرغم من قربهما الذي جمعهما كراسي الدراسة، إلا أن المسافة كانت أكبر من مد اليد بين طاولتيهما، فكانت إحداهما في سباق مع الزمن والظروف التي حاكت حولها خيوط من مسؤوليات وتبعات ثقال من بيت وعائلة ووظيفة معلمة احتياط، تتحرّك كابن بطوطة من بقعة إلى أخرى، وكانت الأخرى ذات بيت وعائلة أيضاً إلا أنها قد ظفرت بوظيفة قبل أن يجف حبر شهادة تخرجها، لأن "مغناطيس" اسم عائلتها يكفيها لتبوء تلك الوظيفة في تلك الوزارة الفلانية. وهكذا بدأت كلاً منهما بالكشف عن معدنهما تجاه الدراسة والتحصيل، وبالتالي مقدار عطائه للوطن الذي يحب، وبأي مقدار؟
وهل ستعطي أم تأخذ؟ ومن تلك العقلية يبدأ التآكل في الهيكل العظمي للوطن، فمع وجود كوادر غير مؤهلة، ويُراد لها أن تحصل على "الشهادة" بأي ثمن وبسرعة، سيكون الناتج سيئاً، وسيُلقي بظلاله على العديد من الملفات التي ننتظر أن يتم تجاوزها في البعض، وحلها بطريقة استراتيجية في البعض الآخر، وتفعيل ما هو منصوص عليه في البعض الثالث، وهكذا، تكون كل الملفات في عروق ومفاصل الدولة بحاجة إلى كوادر مؤهلة وبجدارة لتحمل على عاتقها المسوؤلية وتسعى لجعل البحرين وطن للجميع بدلاً من العمل لجعل البحرين "كانتونات" فئوية وعائلية ومذهبية، وبالتالي تتحوّل البحرين إلى أكثر من ٣٣ جزيرة فئوية وعائلية، ويصبح لدينا أكثر من ٣٣ حكومة مستقلة بذاتها!
ونتيجة للدفع باتجاه تحصيل بعض الكوادر غير المؤهلة وغير ذات بال في العمل -حيث تسعى صاحبتنا "الدارسة"- إلى الحصول على الشهادة العُليا من تعب الآخرين، وعبر تكاسل واتكال دسمين، يُوقف شريان العمل والدراسة في ذلك الصف، وقِس على ذلك المثال الكثير من النماذج "الآكلة" من وقت الوطن وماله ليأخذوا منه كرسياً وفيراً دون تقديم خدمة عملية له، في قبال النماذج "المُعطية" والتي تحفر نفسها بالعلم والعمل لتقدم العطاء للوطن، وأين الآكل من المُعطي؟ وما الذي سنجنيه من تلك "الطبخات" السريعة والتي لا تُراعي "المقادير"، ولا "البهارات" ولا كمية "الإدام"، فضلاً عن غفلتها عن "هدوء النار" لتكون الطبخة مميزة ومحل إطراء وإشادة؟ ما سنجنيه هو "طبخة فاشلة" تؤذي البطون كما تُزكم الأنوف। عندما تكون تلك الطبخة مقتصرة على "قدر" واحد، فلا بأس، إلا أن تتحول إلى "طبخ جماعي" يجهد البعض لوضعه على مائدة الطعام، ويحاول أن يُقنع الآخرين بلذتها وجودة مذاقها، عندئذ سنصل إلى “فقدان الشهية". ونعتقد أن استمرار نار هذه الطبخة وعددها سيُضعف الكثير من الأضلع الرئيسية في الرؤية الاقتصادية للمملكة ٢٠٣٠، فالاستدامة والتنافسية والعدالة مُهددة بالكسر، في حال استمرار ذلك "النفخ" على نار طبخة غير مكتملة المقادير، والتي أشارت إليها بوضوح منظمة "كرايسز غروب" في تقريرها المتعلق بالتمييز الوظيفي في البحرين. والقارىء للرؤية يبصر من خلالها نية جادة وطريق يُراد للبحرين أن تسير فيه بالرغم من عدم اكتمال صورة الرؤية في تطبيقها من خلال وجود خطة استراتيجية، ونعتقد بأن هذا الأمر جار البحث والحديث والعمل به مع الوزارات والجهات والهيئات المعنية، وليس الأمر بالسهولة التي نتصورها، فمع "جمالية" الرؤية في طرحها بصورة عامة بالرغم من بعض الملاحظات المتعلقة بالوصول إلى ضعف راتب الفرد البحريني بحلول ٢٠٣٠-وهو أمر غير واقعي، ولم يكن له داعٍ للذكر-، مع ذلك هناك مهمة صعبة بانتظار الجميع من أعلى قمة الهرم في التغيير إلى الموظف البسيط الذي يكنس المكتب ويقدّم الشاي. وتتمثل تلك المهمة في المحافظة على صمود الضلع الثالث في العملية الإصلاحية والتغييرية، وخصوصاً ما يتعلق بالرؤية ٢٠٣٠، فالضلع المطلوب العناية به والإهتمام بقوته هو ضلع الكوادر، من أصل الضلعين الآخرين، وهما ضلعا الرؤية والآليات. فما حققته "سنغافورة" -وهي الأنموذج المتغنّى به للوصول إليه كلاً أو جزءً-، وما وصلت إليه "إيرلندا" -وهي الأنموذج الثاني المُشار له بالبنان مقارنة ومثالاً-، كان هو الحفاظ على قوة الضلع الثالث، فما هو مشترك بين الأنموذجين والبحرين، هو في الرؤية العامة ووجود الآليات। مع اختلاف نمط ونكهة تطبيق كل آلية بحسب الظروف الموضوعية والخصوصية لكل بلد، إلا أن المعادلة تصبح ناقصة ولا تصل للنتيجة المطلوبة بسبب "تخلخل" أو "تضعضع" في الكوادر البشرية، ليس في تأهليها فحسب، بل في مجال تمكينها بطريقة حيادية تضمن الجودة والعمل باحترافية। ويبدو أن مهمتنا هو الإبحار في موج لجّي من خلفية اجتماعية ما زالت تقود دفتها عقلية "الفئوية" و"المذهبية"। والنتيجة هو أننا لن نبرح مكاننا، وستكون الطاقة المُستهلكة هو في الحفاظ على ثبات أقدامنا بدلاً من التحرّك للأمام। وكما يُلقى اللوم على بعض الأطراف في الجسم الحكومي للدولة عبر إضعافها للضلع الثالث، وذلك من خلال "المحسوبية" و"القفز على الكوادر المؤهلة من أجل الأخرى المقربة" ، فإن اللوم لا يُخطأ بعض المساحات في العقلية الاجتماعية المؤسسة للفئوية عبر سلوكها الاجتماعي، وتوجيه بوصلتها دائماً إلى "ربعها". وللوصول إلى تلك الرؤية المشرقة للبحرين وشعبها، لا بد من “عزل” الفيروس وإبعاده عن الجسم الحكومي كما الخاص، ليمكن بعد ذلك الحديث عن تغيير حقيقي يمكن رؤيته ولمسه وشمه وتذوقه في مجريات حياة الإنسان البحريني، بعيداً عن أي بهرجة أو “مكياج”ستسيح مع الزمن وفي اللحظة الأولى لمواجهة أي تحد داخلي للتغيير أو خارجي لمسايرة السلوك الجمعي لدول العالم، والتي تسعى عبر أكبر من وسيلة للاستفادة المثلى من كوادرها البشرية وبطريقة تبتعد عن كل الخلفيات الذهنية التي تؤثر في الحيادية والاحترافية، لأنها ببساطة تعتقد بأن “تصنيف” الكوادر البشرية حسب خلفياتها الاجتماعية أو السياسية أو المذهبية هو “الداء العضال” لتقدّم أي مجتمع يريد أن يُحدث تغييراً إيجابياً معتمداً على ذاته.. وفي حال استمرار "مغناطيس" الفئوية فإن الوهن سينتقل من الضلع الثالث المكسور "الكوادر" إلى الضلعين الآخرين "الآليات والرؤية"، وبالتالي سيكون حالنا كالمريض المكسورة رجله، والذي اتخذ منه الطبيب المحتال كنزاً لشفط المال من جيبه، وذلك عبر وضع قطعة في الرجل المكسورة ليضطر المريض في كل مرة العودة إلى الطبيب لتطهير الجرح. ويبدو أن صاحبتنا “ذات الظهر” -كما يقولون- لن يهمها ما نقول ما دام همها الحصول على الشهادة -كيفما كان- للتحوّل بقدرة قادر إلى مسؤولة قسم أو مشرفة إدارية أو من تلك الوظائف “الدسمة” المزايا. فمتى يتوقف الضرب على هذا الضلع الثالث “الكوادر” حتى لا ينكسر؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق