جعفر حمزة
بين البلدوزر والمعول الخشبي
الفتنة هي الإمتحان والصبر والتجربة التي تهزّ أعماقك لتظهر ما في داخلها، وذلك عندما تتحدّى شهواتك ولذّتك وأطماعك وعلاقتك وعواطفك.
السيدفضل الله
لم أكُ حينها إلا نتاج قريّة -كبقية القرى- تشكّل خطوط طرقها الرئيسية (البلدوزرات العُرفية) من جهة، وبعض من معاول خشبية دينية أصيلة من جهة أخرى. وكثيرٌ ما تتكسّر الأخيرة ولا تستمر في تعبيد طريق واحد أو نصفه أو ثلثه، في قبال ما تبسطه تلك القوى العُرفية من طرق رئيسية وفرعية، لتسلكها-لا شعورياً-.
فما دام الطريق مُعبداً، فلم التفكير خارج الطريق؟ أو بالأصح، لم التفكير خارج القطيع؟
إلا أن صوتاً شدّني بقوّة الفطرة والتفكير إلى رؤية الأمور من زاوية أخرى، وباستخدام عضلة نسيناها أو تناسينها، فكان التعب والألم نصيب من يستخدمها بعد طول تخدير، وهو أمر متوقع، فعندما تُهمل عضلة لفترة وتريد استخدامها، فسيكون أول ثمن تدفعه هو الألم، لتتحرك من عِقال أركنتها أنت فيه.
ذلك الصوت الذي سمعته من أشرطة كاسيت وضعتها في مسجلة -عجنتها- بيدي من كثرة استخدامها والغوص في غمرات أحشائها تصليحاً وإعطاباً وابتكاراً، فخرج ذلك الصوت الجديد علي في نبرته وفكره ومنطقه وفطرته. فكانت الشرارة الأولى للتحول عن الطريق المعبد ببلدوزرات العُرف، إلى طرق أخرى فيها الكثير من نور الشمس وريح البر وصوت البحر.
لم تتركني حاسة بصري، فحفزتني للنظر إلى -رسالة- هذا السيد الجديد عليّ، فكما أعطيتُ سمعي جزءً منه، فلا بد من إنصاف البصر أيضاً. أليس السمع هي أول حاسة تنمو عند الإنسان قبل البصر؟ فسمعت ذلك السيد قبل النظر إليه عبر قلمه.
أخذني منطقه بعيداً جداً عن العقل الجمعي الذي كنتُ فيه، فصرت هائماً في منطقه ، ودلّني ذلك الهيام إلى بعض من -كتيباته- وأبرزها -من أجل الإسلام-، حيث كانت تتضمن محاضراته وفي ختامها أسئلة وأجوبة حولها. والتي كانت لي بمثابة -الفاست فود- والمقبلات الغنية بالفيتامين والمواد المغذية، فبتُّ اختلس وقت الظهيرة اللاهب حيث يكون من في المنزل نياماً أو يشاهد إخواني المسلسلات الكرتونية، والتي كانت مفضلة لدي حينها، لأحث الخطى إلى المسجد اللصيق ببيتنا، وألتهم تلك الكتيبات واحداً بعد آخر، وأقول هل من مزيد؟
قصاصة ورق وحب وأرق
السلام روحيّة تنطلق من الممارسة, فإذا كنت لا تعيش محبّة الناس ولا تحترم انسانيتهم ولا تتحسّس مسؤوليتك عن حياتهم, فإنك لا يمكن أن تكون انسان السلام!.
السيد فضل الله
لم أقرأ للسيد محمد حسين فضل الله كما كنت أقرأ لغيره، كنت أعيش في كلماته ومنطقه وسرده الذي يخاطب الوجدان كما العقل، ويُزيل الغبار من على العقل بيد لطيفة حانية، ذلك الحنو والتواضع الذي لم أسمع عنه بكلماته فقط، بل رأيتها رأي العين بخط يده لوالدتي الأميّة.
عندما طلبتُ والدتي من عائلة لبنانية كانت معنا في سفر بر طويل من إيران إلى سوريا أن يسألوا السيد ليكتب لنا نصيحة لوالدتي بخط يده. لم أتوقع رداً لانشغالات السيد وما أكثرها، فما هي إلا أيام قلائل حتى تصل تلك القصاصة بخط يده لوالدتي عبر الحاجة اللبنانية المسنة، وكان بعض ما فيها كما أذكر "ليكن منهج أهل البيت -عليهم السلام- هو الدرب الذي تربين فيه أبنائك وتسيرين عليه لرضا الله تعالى.
تلك هي الروح الحانية والمتواضعة التي تكتب لأم أمية نصيحة لتربية أولادها بخط يده وبعبارات ترى من خلالها بساطة اللغة وقوة الرسالة.
وكانت أمي تفتخر بتلك الوريقة وكأنها كنز عظيم قد ظفرت به، وما كنتُ إلا أسعد إنسان حينها، فقد أرضيتُ طلب ثلاث حواس، فقد سمعته ورأيت منطقه بكتبه ولمست ما خطه بيده، ولو أني لم أتشرّف باللقاء به، إلا أنه كان سهل المنال والوصال إليه.
لقد بعث في والدتي كما فيّ خصوصاً حباً من نوع آخر، هو حب الإنتاج والتغيير فيما يرضي الله، حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، ذلك الحب الذي شكّل أرقاً لمريديه، فلم يك مرتاديه بمرتاحي البال، بل كانوا كالنحل الباحث عن الرحيق أينما وُجد.
بعكس بعض مدّعي تقليده، الذين كانوا يرفعون اسمه كقميص عثمان إرضاءً لهواهم وشخصهم، دون إدراك حقيقي لمواقف السيد وآرائه، فأخذوا منه قراطيس يغلفّون بهامواقفهم الشخصية بنكهة دينية. ويذبحون بها القرابين من أجل أهوائهم مع ختم "حلال" عليها.
كان حب السيد هو حب الإسلام في حركته وقوته ومرونته،وليس هو بالحب السهل،بل كان حباً يدفع مريديه لشغف الاطلاع والقراءة والبحث والنقاش، وتلك مهمة -مؤرقة-جعلتنا ننشد نتاجه، ونتاج كل فكر لنضعه عند مشرط المنطق على طاولة القرآن الكريم، فكان "من وحي القرآن" نافذة أخرى فتحتها لأتنفّس الحياة بمعانيها الواسعة، وليكون الأرق الفاعل المحفز حاضراً وبقوة حينها. فكنت أتنقّل من جزء إلى آخر لا لمعرفة التفسير بقدر معرفة دلالات التفسير وربطه بالواقع، لتتحوّل كل آية قرأتها فيه إلى دليل عملي وتجربة ملموسة تمتد من صفة القرآن وتتحرك في الحياة اليومية للإنسان.
كيميائية السيد
كان علي -ع- يعيش قلق الدعوة إلى الله، وقلق الوعي الذي يحتاجه الناس...كان همّه أن يعلم الناس.
السيد فضل الله
لم أقرأ كتبه فقط، بل خضتُ في غمراتها، لدرجة تقمّص منطقه في الكثير من كتاباتي لحينها، ولا أرى نفسي إلا متبعاً لقواعد لغته ونحوه ومنطقه في حديثي وكتابتي -لا شعورياً-، ففي الكثير من كتاباته وكلماته ما يستفز إنسان الداخل ويخرجه من شرنقة التفكير النمطي الذي نسجه العُرف السلبي تارة، وصاغته المفاهيم الأحادية الجانب للشرع تارة أخرى، ومن بين هذا وذا يقدّم السيد الجليل "مشرط الحرية" للخروج من تلك الشرنقة، ويدفعك للتعلّق بـ "بالون التفكير" للارتفاع والنظر بصورة شمولية لما يجري حولنا، وبين المشرط والبالون تمكنّت كيميائية هذا الرجل الإبراهيمي-الذي اقترب من معبد المقدسات العرفية التي ولّدت أصناماً فكرية وسلوكية- من صناعة -فأس الفطرة والمنطق-، عبر أطروحاته التي شعر الكثير بهزات زلزال منطقه وتحليله، الذي كان يقترب من مساحات اعتبروها خط الهوية الأول لهم، في حين كانت مساحة حرة يمكن التفكير والنقد فيها، فما كان منهم إلا التهويل والتشويه والهجوم عليه، ورفع الرايات السود في وجهه بل والتشكيك في هويته . متناسين أكبر الدورس التي سطّرها القرآن الكريم على لسان نبي الإسلام العظيم “وإني أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين”، في درس إنساني للبحث عن الحقيقة والسؤال الفطري عن ما يدور حولنا. تلك عظمة الإسلام في فتح الذهن كما القلب للحوار مع الآخر.
تلك الكيميائية لم تكُ جديدة في مسيرة العلماء العاملين، إلا أن توسّع مدارك هذا السيد الحركي وتنوّع التواصل بين يديه وغزارة إنتاجه، حوّل ذلك الموقف الذي يطرحه إلى أدوات عملية ملموسة، وسلوك يتشكّل بقوة، وتلك هي بعضٌ من نقاط قوة التيار الجارف لفكر السيد.
ثلاثة فؤوس وثلاثة نماردة
لم يكتفِ السيد بفأس واحدة يحطّم بها الأصنام العرفية والتفكير النمطي السلبي ويظهر عجزها الحقيقي لمن يؤمن بها ويتبع نفسه عبرها، بل كان رابط الجأش ليحمل فأسين آخرين معه، أحدهما لتحطيم الأصنام المقدسة عند المسلمين قاطبة، ليوسّع قناة الوحدة بينهم، من خلال إحداث ثقب في السقف المظلم للمسلم ليرى الشيعي أنه يلتقي مع أخيه السني، ويرى السني أنه يلتقي مع أخيه الشيعي، وهكذا يتحركان بعيداً عن كل تلك الأسقف المظلمة التي نسجتها السياسة والعُرف السلبي ووعاظ السلاطين وجهلة المجتمع -وسامريو- الفرقة بينهما
فخرج للسني كما للشيعي، والتقى المسيحي كما العلماني، لتكون المحبة والمنطق رجلاه، ومنهج أهل البيت في التعاطي مع الآخر جواز سفره للقلوب.
والفأس الثالثة لهذا الإبراهيمي هو فأس مقارعة الاستكبار والطغيان الممنهج من قبل القوى الغربية وربيبتها الكيان الصهيوني، ليخبر المسلمين كل المسلمين بالخطر الحقيقي المتربع عند شرفات منازلهم والرابض عند عتبات منازلهم، والمتربص عند خفقات قلوبهم ووجدانهم كل يوم، وذلك من خلال السياسات التي ترسمها الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وبعض البلدان الغربية عموماً بالتخاذل والتعاون من بعض الأنظمة العربية المتآمرة على شعوبها بامتياز، وذلك لتمييع هوية هذا العالم الإسلامي، واستنزاف ثرواته، ودق إسفين الخلاف بين أهله.
أهي فأس واحدة؟ لا بل ثلاث، لثلاث أصنام، صنم العُرف البعيد عن روح الإسلام، والذي تحوّل بمثابة -مقدّس- عند المجتمعات المسلمة، وصنم الفرقة والخلاف بين المسلمين، وصنم الهيمنة الغربية.
لذا فهو واجه ثلاثة نماردة وليس نمروداً واحداً. ليس السيد بـ "دون كيشوت" يحارب طواحين الهواء لوحده، بل كان ابراهيمياً يدكُّ بكلتا يديه أصناماً عدّة، صنم العُرف الأعمى المقدس، وصنم الفرقة المُخيف، وصنم الهيمنة الاستكبارية الكبير.
ولئن ألقى نمرودٌ ابراهيمَ في النار، فلكل نمرود هنا ناره الخاصة، فلقى السيد الإبراهيمي من نمروده الأول التشويه والتمثيل بجسد كلماته ليُقال له أنه ليهجر، وأخذ من نمروده الثاني التهميش وركن منطقه على الرف، وتآمر بعض الساسة العرب عليه، أما نمروده الثالث، فكانت منه محاولات تغييب شخصه عبر محاولة اغتيال جسده، ووصمه بداعم الإرهاب.
ابراهيم العصر
كان منطق السيد منطق نبينا ابراهيم عليه السلام، فقد استفزّ ابراهيم العقل والفطرة عند قومه من عبدة الأصنام، وتركهم في جو التحليل المنطقي والعقلائي ليستنتجوا بأنفسهم الخطأ الذي هم فيه وباقون عليه، فمن سؤاله عن الشمس والقمر والنجم للبحث عن إله يعبده نثر بذور السؤال والتشكيك المنطقي فيما يقوم به في أرضية عقول قومه، ولم يكُ ذلك كافياً بالمنطق والكلام فقط، بل طبّق نبي الله ابراهيم الأثر المادي الملموس ليكمل حلقة الحجة على قومه، وذلك بتحطيم الأصنام، وإرجاع السؤال المنطقي الفطري لقومه عن أحقية عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع.
وكذا فعل السيد، لم يتوقف عند الحديث المنطقي ليستفز العقل للتفكير، بل نزل إلى الشارع من خلال الفكرة العملية، وليخرج ذاك المنطق من حيز الكلمات إلى فضاء المشروع الملموس، في كل زاوية من زوايا حياة الإنسان المسلم وغيره.
وذلك من خلال -المأسسة- التي عمل بها في تدشين المبرات والمؤسسات الخيرية، فضلاً عن مشاريع أخرى اعتمدت على التوظيف الفعال للقدرات والإمكانات المالية من أجل تخريج كوادر وعناصر تعطي للمجتمع، بدلاً من أن تكون عالة عليه ووبالاً.
تلك المأسسة الفكرية التي عمل عليها ألقمت الكثيرين حجراً ممن يتشدقون بجمود الإسلام في حركة التغيير والعطاء.
تَرِكة الفأس ومنطق الرأس
(لن يفهم القرآن الحرّْفيون، ولكن يفهمه الحركيون الذين يعيشون الاسلام حركة في الانسان وفي الواقع)
السيد فضل الله
عمل السيد من خلال رؤيته وإطروحاته على إخراج "سلمان المحمدي" فينا، لنبحث عن الحقيقة وننشدها ونجهد أنفسنا لأجلها بحثاً ونقاشاً ومنطقاً، برجلي الشجاعة والجرأة.
كان السيد عصيّاً عند البعض لأنه يستحث تحريك عضلة لم نستخدمها نتيجة العقل الجمعي تارة وسياسة المجتمع تارة أخرى وهيمنة الواقع المرسوم من قبل القوى الاستكبارية تارة ثالثة،
ولئن رحل هذا السيد الحامل لهمّ الأمة مذ تشكل عوده في النجف وما قبلها إلى آخر لحظة من حياته الخضراء، فإن -فأسه- ما زالت باقية لأن سامريون- جُدد يُولدون كل يوم، والعديد من النماردة يتربعون عروشهم في البيت والمجتمع والدولة والعالم، تبقى المسيرة الإبراهيمية مستمرة من نتاج هذا السيد الحركي المحفّز للفكر والعمل. وما تركه إرثاً معرفياً وعملياً لنا إلا مسؤولية وحجة ملموسة على كل من يريد أن يحرّك الإسلام في شرايين الحياة اليومية، ويجعله نابضاً بقوة في مسيرتنا اليومية، لا قرطاس هنا أو تعبّد جامد هناك، بل يكون الحر في فضاء الله الواسع، ليحوّل من كل تحدّ عبادة ويجعل من كل معضلة ثواباً وعملاً صالحاً، ليكون الإنسان للإنسان، إنسان الله عبر نبراس القرآن الحركي لا الجامد، ومن خلال سنة نبيه البانية للإنسان لا المذلة له والمنفرّة كما يقدمها وعاظ السلاطين وسدنة -البلدوزرات العُرفية-.
ليبقى الإنسان الفطري -فطرة الله-هو العامل والمفكر والمغيّر ليحول ما يلمسه بإذن الله إلى مفهوم حي يعيشه المجتمع ويستثمره ، وليكون فأس ابراهيم في عنق الصنم الكبير شاهداً على بطلان العبادة المصطنعة، وراية حق لا تنتكس أبداً.
2 التعليقات:
٥ يوليو ٢٠١٠ في ١٢:٢٧ م
تسلم يديك فلقد أثرت شجوننا ... نعم فقد كان السيد محمد حسين فضل الله ثورة علمائية، فبفكره الثوري استطاع جذب الحشود المسلمة وغير المسلمة. حقا شخصية انسانية سعت الى تقدم الفكر الانساني.
عظم الله لنا ولكم الأجر
٥ يوليو ٢٠١٠ في ١٢:٥٦ م
عظم الله أجوركم بفقيد الإنسانية السيد محمد حسين فضل الله، مثل هذا الانسان كالينبوع تماماً كما قال سماحته يتمثل في مجراه معطاء ساقياً للأرض الجديبة لا يسألها ولا يطلب منها إذناً، لأنه سر الإنسان العامل المدرك لحقيقة إنسانيته حراً من كل القيود ومن نمرود الذات، مترفعاً لأن هذا حقيقة المحبة في نفس كل حر، حراً من حقد كل من كاد له وبغضه ونصب له العداوة.
إرسال تعليق