جعفر حمزة*
كان الجمهور مترقباً في كل يوم لمشاهدة النزال بين المتصارعين في مدرج ضخم تم تشييده في وقت قياسي، فعلى مدى أكثر من مائة يوم كانت المباريات التي أقيمت على شرف القيصر الروماني الجديد "Commodus" تمثل "متعة" لهم، فضلاً عن "مصدر رزق" ينتظرونه في ظل غياب سياسة حكيمة لمواجهة التردي الاجتماعي والاقتصادي لروما في ذلك الوقت، ويمثل مشهد "رمي الخبز" على الجمهور بانتظار المباراة القادمة في فيلم "Gladiator" صورة مختصرة لواقع السياسة التي اخذها القيصر الروماني، متغافلاً عن بناء أهم من رفع الحجر، وهو بناء البشر.
ولئن انتهت مسيرته على يد الجنرال "المغدور" Maximus عبر مبارزة مباشرة غير نزيهة بينهما، إلا أن الإنهيار الفعلي لحكمه بدأ منذ وضع أول حجر لبناء صرح المدرج الروماني ليكون محل انتباه الناس بدلاً من البدء في وضع حلول عملية للأوضاع المعيشية والصحية المتردية التي غزت روما آنذاك.
وتمثل المراهنة على رفع العمران عوضاً عن الإنسان خاسرة بكل المقاييس، ويمثل ضخ الجهود في رفع الحجر بدلاً من البشرتسريباً لمقدرات المجتمع وقد أثبتت التجارب على مر التاريخ بأن التقدم الحقيقي في صناعة الحضارة هو في التنمية الفعلية للإنسان.
ويبدو أن صرح المدرجات الروماني قد بدأ بالظهور في بعض الدول بالمنطقة، وخصوصاً بعد الطفرة النفطية التي حصلت في السنوات الأخيرة، وكان ذلك على حساب بناء الفرد والمجتمع، ويتمثل ذلك في عملية حسابية بسيطة بين معدل التطور العمراني ورفع المستوى المعيشي والعلمي للمجتمع حيث يلحظ الفرق الشاسع بينهما.
في الوقت الذي يبني البعض مدرجاته الرومانية لخاصة، هناك من يخطط لبناء الفرد في المجتمع، وبعضهم في أقصى الشرق، حيث يذكر أن ثلثا النقود المخصصة للبحث والتطوير في اليابان تنفق على تحسين المنتجات وعمليات التصنيع، وذلك لأن استراتيجية اليابان كانت في نقل التكنولوجيا من بقية العالم، والتعلم في كيفية جعل هذه التكنولوجيات المنقولة تعمل بنسبة ١٠ بالمئة أفضل أو ١٠ بالمئة أرخص، وثم تستخدم هامش التمييز في التفوق على أولئك المنافسين الذين كانوا أول من طور هذه التكنولوجبات. وقد اتبعت كوريا الجنوبية الأنموذج الياباني ولحقت بركب التقدم العلمي.(١)
ما يمر به العالم من طفرة في أسعار النفط هي فرصة لن تتكرر بلحاظ العمر الافتراضي للنفط من جهة، وبحث الدول المستوردة للنفط وخصوصاً المتقدمة منها عن بدائل للنفط من جهة أخرى، تلك الطفرة يجب أن تكون ضمن معادلة متزنة بين العمران والإنسان، وأي خلل في ذلك الاتزان يسبب في ضخ ثروة النفط في عمران مؤقت ينقصه العنصر الحيوي في استمراره، وهو تطوير وتنمية العنصر البشري.
وحيثما تم تطوير العنصر البشري بات المجتمع قوياً وغنياً ولا خطر عليه نتيجة التقلبات الاقتصادية، فهو يحتفظ بالحد الأدنى للبقاء باستقرار، بل والتميز.
والدولة التي تسعى لتطوير عناصرها البشرية ستكون سوقاً مشجعة للاستثمار الأجنبي المباشر FDI، حيث تسعي الشركات الأجنبية للبحث عن الدول التي تتمتع بالموارد البشرية المؤهلة، لكونها بيئة خصبة للاستثمار والتوسع في العمل.
والمعادلة الطبيعية في ظل تصاعد سعر النفط من جهة وزيادة حدة غلاء الأسعار من جهة أخرى هو بالإسراع في التنمية البشرية وتزويد المجتمع بالكوادر المؤهلة والمحترفة، لتكون هي الوقود المحرك لعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن تعزيز بناء الإنسان البحريني من خلال التالي:
أولاً: تخصيص جزء من ميزانية الدولة في البحث و التدريب، وتمثل ذلك في مبادرات عملية قام بها كل من صندوق العمل، ومجلس التنمية الاقتصادية من أجل تدريب كوادر بحرنيية في تخصصات يحتاج لها سوق العمل المحلي.
ثانياً: تبني الشركات والمصانع الوطنية لمشاريع تخرج الطلبة من الجامعات الوطنية والمعاهد، ودفعها نحو التطوير ووضعها في المكان المناسب، سواء كان في مجال التسويق أو التصنيع.
ثالثاً: نشر ثقافة الإنتاج والإبداع في القطاعين العام والخاص، ووضع الحوافز المجزية للمبدعين، من أجل تعزيز عقلية منتجة وفاعلة.
رابعاً: توسيع قاعدة البحث العلمي في المدارس والجامعات والمعاهد عبر رفع مخصصاتها.
وتغافل أهمية التنمية البشرية، ستؤدي إلى تحويل علاقة العمران والإنسان الطبيعية إلى علاقة تباعد، وخصوصاً إذا وجد الفرد نفسه بعيد عن تلك التنمية "الحجرية".
وبدلاً من أن يكون الفرد في المدرج الروماني وينتظر قرص الخبز، عليه أن يكون في المختبر، المدرسة، الجامعة، المعهد، مكان العمل، الشارع، وفي البيت لينتج ويطور مجتمعه.
وبعبارة أكثر وضوحاً على البعض إيقاف رمي الخبز على المتفرجين، ودعوتهم للعمل والتطوير بدلاً من مشاهدة القتال بين المتصارعين
(١) النظام الاقتصادي العالمي الجديد، ليستر ثورو.
* باحث في مجال الصورة والاقتصاد المعرف
2 التعليقات:
١ مايو ٢٠٠٨ في ١٠:٥٤ ص
ثمة ثتنمية للحجر على حساب البشر، تنمية لناطحات السحاب والأبراج والجزر الاصطناعية،لا إنسان منتج، مبدع،باحث علمي من الناحيةالاقتصادية.وإنسان يقبل بالفتات على ضوء معونة\إعانة\علاوةاجتماعية.وإنسان يستعرض كل عضلاته السياسيةالطائفيةفي المنتديات الرومانية. لا ثمة للإنسان هنا..
ما رأيك ياأخي ؟
سامية حسن
١ مايو ٢٠٠٨ في ٢:٤١ م
عندما يتحول الحق الطبيعي للإنسان في الاستفادة من ثروة الأرض التي يعيش عليها إلى صروح حجرية يدعي مشيدوها ومالكوها ومروجوها أنها رمز للتقدم والتنمية دون الأخذ بعين الاعتبار بتنمية الإنسان، فستتحول تلك النعمة "الحجرية" إلى "نقمة" إنسان يرى البون الشاسع بين مفترضات التنمية االوطنية للإنسان والتعمير "الطوبي -من الطوب-"، والنتيجة ثورتان، ثورة مالكو الحجر والزيادة "الدودية" في البناء وصف الطوب، وثورة الإنسان الذي لا يرى من خيرات بلاده سوى ناطحات سحاب من وراء سياج "ملك خاص".
وبالتالي سيثور الجمهور على "القيصر" الذي آشغلهم بمبارياته التافهة!
ولم يعودوا بحاجة إلى "ماكسيموس"!
إرسال تعليق