ملعقة وحقيبة



جعفر حمزة*

التجارية ٣ سبتمبر ٢٠٠٨م


يبدو أن الحكمة من وجود جيبين في الثياب هو دفع المال بكلتا اليدين، لو كان للإنسان ثلاثة أيدٍ لكان الجيب الثالث موجوداً। وقد تراءى لي استخدام آخر لذلك الجيبين في الموسم الذي نعيشه الآن، حيث أصبح جيب لمستلزمات شهر رمضان "كما يحب البعض أن يسميها" وجيب آخر للأدوات المدرسية، وكأن تزامن شهر رمضان والمدارس يقدمان "حكمة" جديدة لوجود الجيبين।

فما يراه المرء من "احتفالية" في عرض البضائع من أطعمة بألوان قوس قزح وأكثر و"تهافت" موسمي عليها لدرجة أن يُخيّل للمرء بأن حرباً على الأبواب، وما ذلك إلا استعداداً لتخزين "المؤونة" والاعتماد عليها في فترة "القحط أو الضرب في الحرب"، تلك الصورة التي تقدم سلوكاً لا ينبغي "الفلسفة" فيه لبداهته وبساطته المعروضة، يستدعي التأمل وقراءته بإنصاف قد لا يعجب البعض إن لم يكن الكثيرين।

هل السلوك الدافع لتشكيل نمط الشراء لحاجيات رمضان أو للمعدة يمثل أمراً طبيعياً ولا داعي للخوض فيه أم أن الحديث حوله بات ضرورياً لإعادة قراءة ما صار مُعتاداً وأمراً ثابتاً لا يتغير، لمعرفة تداعياته إن وُجدت؟
وبعبارة أخرى هل أصبح السلوك الشرائي ما قبل وأثناء وبعد شهر رمضان (العيد) "ملعقة" لا يمكن الاستغناء عنها في تناولنا للطعام؟ أم أن استخدام اليد يبدو خياراً عملياً آخر؟

وفي الجانب الآخر، نرى أن شراء مستلزمات المدارس ذات مواصفات من جهتين "المدرسة والطالب"، حيث أصبح للطالب مواصفاه الخاصة لشراء ما سيكون له لصيقاً له طوال الفصل الدراسي. فهل أصبحت لل"الحقيبة" مواصفات معينة من لون ورسم وشخصية كرتونية أو بطل فيلم لتتم الموافقة على اقتنائها من قبل الطالب؟ حيث لا يمكن تجاهل تلك "الموضات" والاكتفاء بحقيبة لا وجه لها ولا شخصية؟

وبين "الملعقة" (شراء حاجيات رمضان) و"الحقيبة" (شراء المتسلزمات المدرسية)، لا بد من وقفة لمعرفة بذور ظهورهما (الأسباب) وثمارهما (النتيجة).

بذرة الملعقة
كنتُ في محادثة مع إحدى النساء الكبيرات في السن حول شهر رمضان، ولم تكن تتخيل أن يغيب عن "سفرة" الإفطار بعض أصناف الأطعمة، والتي باتت لصيقة بشهر رمضان حضوراً في المائدة. وذلك بالرغم من إخباري لها بعدم أهمية الأمر، فهو مجرد طعام يفطر عليه الإنسان المسلم بعد صيام نهار يوم كامل، فما الذي سيضيفه هذا الصنف أو ذاك إلى معدته بعد الشبع؟
لم يكن كلامي معقولاً أو مقبولاً لها، ولها حق في ذلك، فالارتباط الشرطي والصورة "التزاوجية" بين شهر رمضان والعديد من أصناف المأكولات، لا يمكنك أن تفكه بكلام أو مناقشة ولا حتى بتحليل علمي واقتصادي.
ويكمن سر بقاء "الملعقة" معززة مكرمة هو "انتقال" ذلك الشعور الذي بات "عرفاً" لدى الناس عبر الزمن ليحتفظ بإطاره الذي لا يتغير بالرغم من تغير الظروف المحيطة وتبدل الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة لذلك "الإطار المتعارف عليه" الذي لا يمكن نزعه أو تغييره أو حتى مجرد النقاش فيه، لكونه أصبح "جزءً" من سلوك ذلك المقتدر مالياً وذلك المغلوب على أمره، أي بعبارة أخرى تحول إلى "عقلية ممارسة موسمية" في كل سنة.
ويدفع الكثير من الناس أنفسهم لبقائهم ضمن ذلك الإطار ليعيشوا-حسب تصورهم- أجواء شهر رمضان وأساسياته الأولية.
وقد لعب الإعلام إلى جانب العرف الإجتماعي دوراً بارزاً في تضخيم ذلك الإطار وتثبيته، بتقديمه للدعايات التلفزيونية والصور البصرية المتعلقة بشهر رمضان، والتي تعزز بقوة وجود ذلك الإطار في السلوك الشرائي للفرد، لتنتقل من صندوق العرض "التلفزيون" إلى صندوق المنتج الغذائي، عبر ربط لا ينقطع.

ويدخل عبر بوابة شهر رمضان بند مخفي للصرف اليومي طوال ثلاثين يوماً، متمثلاً في عناوين الربح والظفر بالجوائز عبر برامج ومسابقات تضع لك الشمس في يد والقمر في اليد الأخرى لتمنّي نفسك بالظفر بأحدهما أو كلاهما.
وبالتالي تكتمل الصورة ويشتد الإطار متانة وقوة، سلوك شرائي لا يتوقف لحاجات الشهر وآخر تفاعلي لا يمكنك مقاومته، عندما تُعرض لك الجوائز والأموال بين ناظريك، فلا قيمة لدينار أو نصفه تصرفه على المكالمة أو الانتظار، وكأنّ بنا مسحة ساحر أو حلم شاعر.


ثمار الملعقة
تحول السلوك الشرائي إلى جزء من سلوك جماعي من الصعب الابتعاد عنه بل حتى التعليق عليه بنقد أو ملاحظة.
ونتيجة لذلك يصبح الفرد "ماكينة صرف" موسمية، يستفيد منها المعلنون والمروجون و"القطط" -بعد الإفطار-، ويتحول شهر رمضان إلى "غنيمة سمينة" لا يمكن تفويتها، فمن يفوت "بقرة حلوب" تدر عليه الأرباح ويعزز الكثير من القيم والسلوكيات السلبية في إطار زمني معروف ومحسوب، ويمكن الإعداد له مسبقاً.
وتتحول "الملعقة" إلى "هواء" لا يمكن الاستغناء عنه، لتكبر تلك الملعقة لتصبح "مُعلَّقة" على جدار كل بيت.
وارجاع تلك الملعقة إلى حجمها المعقول، لا يبدو ممكناً في ظل تصاعد الصور وتراكم الأعراف التي تحولت إلى شيء من "الطقوس" التي لا يمكن الحديث عنها، فضلاًَ عن المطالبة بإنزال الملعقة إلى مكانها الطبيعي.
ويتطلب الأمر تقوية في الجبهة الداخلية لكل بيت، لينتشر "مضاد الفيروس"، ولا نعتقد بأن المهمة مستحيلة، مع وجود العنصر الديني في المعادلة، والذي لم يتم توظيفه بالطريقة الصحيحة بالتزامن مع منهج عملي ملموس في المجتمع، ليتم تصغير حجم "الملعقة" والتعامل مع شهر رمضان بواقعية أكثر وإنتاجية أكبر، بدلاً من الصورة النمطية المقدمة من إنتاجية قليلة في النهار وأكل وسهر ولهو في الليل.
وعند الحد من تلك العقلية سيتم "تقليم" أظافر بعبع الاستهلاك للشهر الفضيل.
ولا يمكن إغفال جانب "الغلاء" من ضمن عناصر تشكيل السلوك. والذي بات "صداعاً" يمكن للحكومة الإسهام في التخفيف منه، ليس عبر توزيع "بندول" بل من خلال معالجة أساس المشكلة. ولا يمكن ذلك من خلال توزيع الأسماك، بل توزيع السنارات.




بذرة الحقيبة
لكل زمان أهله، كما لكل زمان ماركاته أيضاً. كنا أيام الدراسة نمنّي نفسنا بالحصول على الدفاتر السوداء ذات الخط الأحمر على طرفها، والتي كان يستعملها صاحب الدكان أو البقالة في القرية لجرد حسابته البسيطة.
أما اليوم فقد تحولت تلك المساحة ذات اللون الواحد إلى "ساحة" لعرض الهويات المختلفة من أبطال أفلام إلى شخصيات كرتونية، ومن الصعب منع تلك الموجة من "كسر اللون الواحد" في المستلزمات المدرسية، من القلم إلى الحقيبة.
لقد تحولت "الحقيبة" إلى جزء من ضمن باقة يختارها الطالب لتعكس نمط ذوقه الذي يميل إليه ويعيشه تلفزيوناً ورسوماً ودراسة!
ونتيجة لذلك تحول شراء الأدوات المدرسية إلى مهمة أخرى يجب فهمها والعناية بها، ليتشكل لنا إطاراً جديداً سنعيشه لسنوات قادمة.
إطار من الصعب أن تبتعد عنه، لأنك ستكون مختلفاً ووحيداً عن البقية، وسيشعر ابنك أو ابنتك بانعزال الصورة عن الطلبة الآخرين. لذا لا بد من "حشر مع الناس عيد"، ومن الذي أسس السلوك الأولي، أي من الذي نشر ذلك الفيروس في السلوك الشرائي؟ لا أحد يدري..
ذلك الفيروس الذي حول الأفراد إلى وحدات استهلاكية ترسمها الماركات والموضات، بدل أن يكون الفرد هو المركز، تحول إلى الأطراف ليبحث بل ويدفع من جيبه ليكون في هذا المركز الذي تحتله الماركات.
ولتكون هذه الشخصية الكرتونية محور الإهتمام، ليتطلع الطفل إلى كل زاوية من سلوكه ليجدها فيها، مأكله، مشربه، ملبسه ودراسته.



ثمار الحقيبة
دخول طرف ثالث في العلاقة المباشرة بين الطالب والسبورة، لتكون "الحقيبة" بينهما، فبدلاً من أن تكون حاوية للكتب والكراسات، أصبجت حاوية لأدمغة الطلبة والطالبات ضمن جوقة موسيقية أبطالها الشخصيات الكرتونية والممثلين والممثلات، ليقتحموا الأقلام والكراسات والمساطر والحقائب وكل الأدوات المدرسية، لتكتمل الحفلة الموسيقية اليومية التي ستثمر عن صرف مضاعف من الجيب وتشتيت مضاعف من العقل للطالب.
ولا يمكن الاستناد على هذا التحليل كرأي علمي بقدر ما هو ملاحظة سلوكية تحتاج إلى دراسة وتعزيز، وعندها ينبغي اتخاذ الخطوات اللازمة من كل بيت، والذي يمكن أن يغير "الحقيبة" ليجعلها سلوكاً اجتماعياً إيجابياً جديداً، بدل أن يساير الموجود ويصرف ما عنده ويجود.

وبين "الملعقة" و"الحقيبة" مساحات شاسعة تفصلنا عنهما كعقلية ينبغي مراجعهتا وتوجيهها بالطريقة الصحيحة. فبداية التغيير تتمثل في إرجاع الأمور إلى نصابها الواقعي، فالملعقة يجب أن تكون في مكانها وحجمها صغير، والحقيبة يجب أن تكون حاملة للكتب لا مشتتة لها.

وإن كان لا بد من تلك السلوكيات إلا أن تفرض وجودها، يمكن من خلال الحكومة تأجيل الدراسة كما قامت به السعودية لما بعد شهر رمضان، على الأقل يمكن الصرف من جيب واحد بدلاً من كليهما.



مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

4 التعليقات:

  غير معرف

١ سبتمبر ٢٠٠٨ في ٣:٣٠ م

اول ما يتعلمه كل صغير عن رمضان هو ان الله تعالى فرض علينا الصيام في هذا الشهر الكريم ليشعر الغني بالفقير فتراف قلوب الناس و يقدمو ما يستطعو للمحتاج .. الا اننا في هذا الشهر نثبت لانفسنا بان هناك الغني و الفقر فكلما زاد المال زادت الاطعمه و نسينا ان شهر رمضان شهر الصوم و العباده و ليس شهر البطون .. اما بالنسبه للحقيبه قبالنسبة لي هي كالملعقه بالضبط .. لم يعد الذهاب للمدارس للتعليم بل اصبحت استعدادات اي طفل للذهاب للمدرسه ليس تعلم الحروف او الارقام انماشراء الشنط و الاحذيه و التيشرتات ( على الموضه ) ليثبت مكانته الاجتماعيه منذ اول يوم.. حتى ان اصبحت المبادء مجرد مقولات تقال وفي الجهه الاخرى يد تعمل عكسها تمام

  Heaven Light

١ سبتمبر ٢٠٠٨ في ١١:٣٧ م

المسألة أنه مثل ما تفضلت. بدأ الناس بالربط بين شهر رمضان مفعم بالأجواء الرمضانيه والطعام، أي لن يكون الشهر الفضيل ذو طعم تقليدي رائع بدون قائمة الطعام في منظورهم. أنا أقترح أن يذهب الناس لشراء حاجياتهم وقت الحاجه بدل الذهاب وصرف الأموال في يوم واحد على أشياء شوف لن يقوم بلمسها حتى نهاية الشهر الفضيل. وكذلك بالنسبة إلى المدرسة، لقد أصبحت المدرسه واقعا مجبورا أي أن الأطفال يبصرون هذه الحياه وهم يعلمون أن هناك شي إلزامي يدعى مدرسه. ولأن كل شي إجباري يدخل في قائمة الأشياء الغير محببة، بدأ التجار والأهل بترغيب الأطفال بالمدرسه عن طريق الأشياء الجميله مع شخصياتهم المفضله. ظننا بأنها ترمز إلى درجات عاليه.

وهذه مجرد وجهة نظري القاصرة

  Heaven Light

١ سبتمبر ٢٠٠٨ في ١١:٤٩ م

الحاجه وعلى فترات في رمضان بدل الذهاب يوم واحد معين وصرف الأموال الطائله على قائمة حاجيات بعضها لن يستهلك أصلا. والأمر سيان مع المدرسة فالطفل يولد وهو مبصر على شي إلزامي حتمي يدعى مدرسه. ولأن كل شي إلزامي يدخل في قائمة الأشياء الغير محببة فإن الأهل والتجار بدأوا باستخدام حيلة الأدوات المدرسية الجميله وكأنها تضمن الدرجات العاليه.

مجرد وجهة نظر قاصرة.

  غير معرف

٩ سبتمبر ٢٠٠٨ في ٢:٠٢ م

أعجبني التحليل كثيرا، وموضوع الملعقة شر لابد منه، ألا تعتقد في السوك الجماعي الذي يربط المجموعة لتشعر بسعادة مشتركة من خلال التضامن الخفي

لترسيخ هذه العادات، شعوب المنطقة لا حول لها ولاقوة، تنقاد بسرعة للهم الجماعي وللفرح الجماعي ، برأيي رغم الحدود( السياسية) فنحن نريد الملعقة والحقيبة أيضا كي لاننفصل عن العالم

شخصيا لم أشتر مستلزمات رمضان ولكن (ابنتي) فرضت هذا السلوك تبعا للجماعة، مما استوقفني كثيرا، وجعلني أتساءل: هل هو نمط الاستهلاك المفروض؟ أم هي السعادة المفقودة للتضامن مع الجماعة؟

ولك التحية فنادرا ما أعلق على الموضوعات المطروحة.
إيمان أسيري