جعفر حمزة *
التجارية ١٠ ديسمبر ٢٠٠٨م
ما إن وطأت قدماها عتبة سكناها بعد يوم دراسي طويل حتى افتتحت فصل آخر من فصول العمل التي تبدأ قبل طابور الصباح، ولا تنتهي عند جرس إنتهاء الدوام المدرسي. حتى باتت "مهنتها" منهكتها صبحاً ومساءً.
هي معلمة في إحدى المدارس الابتدائية، ربما "جنت" على نفسها بامتهان التدريس، وربما جنت لنفسها في ذلك. وبين الجني على النفس والجني لها، لا بد من استعراض جو التدريس العام الحاصل في مدرستها، وهي أنموذج مصغر لعامة "مصانع الأجيال القادمة"، إذ يُعتبر تطور وقوة النظام التعليمي في أي دولة مؤشر على تطور الدولة وسيرها الواثق نحو النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي من أحد أكبر أبوابه، وهي تربية الأجيال وصياغة السلوكيات للجيل النشء.
كلام جميل، أليس كذلك؟ وماذا بعد؟
هل مبادرة تحسين أداء المدارس لها صدى قريب من المعلمين كما للطلبة في تغيير واقع يكتنز بين جنبيه الكثير من السلبيات والنواقص؟ وهل مشروع تطوير التعليم في البحرين له ذلك البُعد التغييري الملموس لأطراف العملية التعليمية (الإدارة المدرسية، المعلم، الطالب، أولياء الأمور وموظفي الوزارة)؟ وقبل كل هذا وذاك، هل وصل "مد" التغيير في العملية التعليمية إلى العقلية التي تتعامل مع الأجيال الجديدة؟ أم أنها تحولت إلى ما يشبه "الطقوس" التي يجب على إدارات المدارس الإلتزام بها نصاً، دون الاقتراب من "روح" التغيير الفعلي في فهم العملية التعليمية، حتى باتت بعض الإدارات المدرسية متمثلة في مديراتها باتباع "النص" لنظام الجودة وكأنه قرآن منزل، دون الإلتفات إلى طرفي العملية من الأساس وهما الطالب والمعلم. بل أصبح "ترتيب الملفات" وإعداد التقارير لتبييض واجهة هذه المدرسة أو تلك أهم من المعلم في وقته الممنوح، ليقضي وقتاً عادلاً مع الطالب ؟
وعوداً إلى "معلمتنا" التي ما إن أغلقت باب سُكناها، حتى فتحت كراسات الطالبات، لينتظرها بعد ذلك "طابور" من كراسات التصحيح والتحضير، وإعداد الأنشطة واللجان المكونة داخل المدرسة. فبالتالي سيكون "وقتها" زهيداً لمنزلها، فكأنها وهبت نفسها للمدرسة في وقت الدوام، وما بعده.
وتبعات ذلك تلقي بظلالها على العائلة والأبناء والزوج والمجتمع، لتتحول "المعلمة" إلى إحدى "تروس" مشروع تم "تغييب" أحد أهم عناصره فيه ، وهي "هي" أي "المعلمة".
فهل ما ندعيه هو "افتراء" لا أساس له؟ وإن كان عكس ذلك، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. وإليك بعض براهيننا التي نرجو من القيمين على مشروع "تطوير التعليم في البحرين" وضعه في عين الاعتبار. والذي يترك أثراً غائراً لا يمكن غض النظر عنه في نفس المعلم، وذلك عندما يتم خدش "رسالته" و"إثقاله" بما لا يُطيق، وبالتالي يتحول من حامل رسالة للأجيال إلى حامل لهمٍّ لا قبل له به.
البرهان الأول: عندما تُثقل لا تحصل
تخيل أنك معلم لصف يزيد عدد طلابه عن ٣٣ طالباً وقد يصل بعضهم إلى ٤٠ طالباً، ونصيبك من الصفوف التي تقوم بتدريسها يتراوح بين ٥ إلى ٦ صفوف، أي بما يساوي تقريباً في المعدل ٢٠٠ طالباً، والوقت المخصص لكل حصة هو ٤٥ دقيقة، وتكون هناك بمعدل حصتين "فرصة" لك، بالإضافة إلى "الفسحة" -التي يكون في معظمها مناوبة مراقبة فيها-، ومع وجود ذلك "الجيش" من الكراسات والامتحانات للطالبات، والتي يستلزم التصحيح والرصد والتقييم، ستكون الحصتين و"الفرصة" وقتاً ثميناً للقضاء على "جبل" الأوراق التي على المعلمات متابعتها وتصحيحها ورصدها وتقييمها. فبالتالي لن يكون هناك وقت مخصص للطالبات المائتين في وقت الدوام المدرسي، وهنا تنفصل عروة أساسية من ضمن معادلة الرقي بالتعليم، وهي العلاقة المباشرة والوطيدة بين المعلم وتلميذه.
وإن كانت مبادرة إنشاء "كلية البحرين للمعلمين" بتوصية من معهد التعليم الوطني بسنغافورة، وذلك ضمن تعاونه مع مجلس التنمية الاقتصادي جيدة بل ومطلوبة، إلا أن المعادلة ناقصة هنا وبوضوح، فالإعداد للمعلمين في المستقبل مطلوب، إلا أن تحسين أوضاع المعلمين الحاليين ورفع كفاءتهم ومنحهم الوقت لتقديم رسالتهم الأساس للطالب لا يقل عن هدف إنشاء الكلية نفسها.
وما ذكرناه "ثقل" من ضمن "أثقال" أخرى توضع على كاهل المعلمات، من بينها الاشتراك في لجان داخل المدرسة، والمتابعة والعمل في أنشطة تقدمها الإدارة. وبالتالي يكون هناك أكثر من ٢٠٠ ثقل على المعلمة. وفي مثل هذه الحال، هل يتوقع "عطاء" من المعلمة للطالبات؟ فضلاً عن إيفاء لشروط الجودة في التعليم، في ظل غياب أساسيات الجودة من وقت لا تملكه المعلمة، وفروض والتزامات تتعدى مكان وزمان الدوام المدرسي، لتلاحقها حتى في عقر دارها وتشاطرها حتى وقت العائلة ونفسها.
البرهان الثاني: في صلب المعادلة وخارجها
يمثل المعلم أحد أهم ركائز العملية التعليمية، والأخذ برأيه والاستئناس به يمثل رافداً يهب لأي عملية استراتيجية لتطوير التعليم "مصداقية" وواقعية، فضلاً عن أن ما سيُقدم من اقتراحات وتوصيات سيكون أول من يأخذ بزمامها ويطبقها هو المعلم نفسه.
والملاحظ وجود خطابين في ساحة التعليم المحلية، أحدهما تقدمه وزارة التربية والتعليم بالشراكة مع مجلس التنمية الاقتصادي لتطوير التعليم، عبر مشاريع متنوعة ومبادرات ككلية البحرين للمعلمين،وبرنامج تحسين أداء المدارس ومشروع تطوير التعليم في البحرين. في قبال خطاب آخر يسرده المعلمون من ملاحظات عدة على نمط إدارة دفة التعليم في المدارس، والحديث عن كادر المعلمين، ما يضع فكر المعلم/المعلمة على أساسيات يتطلعان إليها (زيادة في الراتب والرتبة وتوزيع عادل للمهام الموكلة إليهما كماً وكيفاً). فهل إلى ذلك من سبيل؟
البرهان الثالث: معلمة بسبعة أرواح
إنّ الناظر المنصف للإلتزامات المُلقاة على عاتق الكثير من المعلمات، يتعجّب من القدرة المتوقعة والمنتظرة منهن، فعدد الطالبات "الكبير" في الصفوف الدراسية، والتي لا يتناسب مع أساسيات العملية التعليمية المنتجة، فضلاً عن حجم المسؤليات التي تتولاها المعلمة، سيعكس إثره بصورة مباشرة على العلاقة المفترضة والمهمة بين المعلمة والطالبة، فلا الطالبة يمكنها التفاعل المباشر مع المعلمة ومتابعتها بعد الصف، ولا يمكن للمعلمة الجلوس مع الطالبة ونقاش نقاط ضعفها وقوتها، إلا في يوم وحيد فقط، وهو اليوم المفتوح، ووقته ضيق أيضاً نظراً للعدد الكبير للطلبة التي تشرف عليهم المعلمة.
فهل نتوقع أن تكون لدينا معلمات بسبعة أرواح، لكي تعمل ضمن رؤية تطوير التعليم في البحرين، وإيفاء كل المتطلبات عليها من الإدارة والطالبات وأولياء الأمور والوزارة. هذا مع عدم نسياننا بأن المعلمة تعمل في دوام ثابت -ما يعادل ٨ ساعات-، ولها حياتها الخاصة من منزل وعائلة وحياة اجتماعية. فأنّى لها عمل كل ذلك؟
والمعلمات الاحتياط يكنّ "فريسة" جِدتهنّ في العمل وحماستهنّ، بأن يتم الضرب على هذا الوتر بإيكال العديد من المهام والأنشطة، بل وأخذ بعض نصاب معلمات أُخريات للقيام بها وإيفائها كاملة دون نقصان، وبالتالي تتحول المعلمات الجدد إلى "عاملات" في خط سير التصنيع ""
Assembly Line
بدل أن يكنّ مشاركات ومنتجات فاعلات في العملية التعليمية. فما عليها إلا أن يفعلنّ ما يؤمرن ، لا غير!
ليس هناك أسهل من وضع الخطط لو تمت مقارنتها بتفعليها والنزول إلى الساحة والعمل عليها، وفي ظل مبادرات مجلس التنمية الاقتصادية الداعية إلى تحسين وتطوير أداء المدارس في المملكة، وذلك من خلال مشروع تطوير التعليم في البحرين، وتقديم خطط لرفع المستوى التعليمي في المدارس الحكومية في المملكة من خلال "هيئة ضمان الجودة"، ووحدة مراجعة أداء المدارس، وغيرها من المبادرات، في ظل كل ذلك، لا بد من نزول حقيقي ومراجعة شفافة لواقع المعلمين بصورة عامة، والمعلمات بصورة خاصة للوقوف على مقدار الفجوة الحاصلة بين المُعلن والواقع.
فهل ترجع صاحبتنا المعلمة إلى "طبيعتها" ، لتهب ما لديها لطالباتها ما يستحقن من وقت واهتمام، لتصل إلى سكناها لتعيش حياتها كزوجة وأم ومربية وفاعلة في المجتمع؟ أم أنها ستبقى "مُجهدة" بالوصول إلى ما يسطره الآخرون ، وتدور ك"الروبوت" لتقوم بما يتم إملاءه عليها تبعاً دون سؤال أو نقاش؟
ومع حجم الأثقال المُلقاة على عاتق المعلمات، تزداد التبعات النفسية والجسدية والاجتماعية، ونخشى أن تتحول المعلمات إلى رافعات للأثقال في ظل الموجود، وفي غياب حقيقي للتغيير من الداخل.
وعندما تصل صاحبتنا المعلمة إلى سكناها، يتبين أنها بدأت دورة أخرى من العمل في رفع الأثقال التي يجهزها الغير.
* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
2 التعليقات:
٩ ديسمبر ٢٠٠٨ في ١٠:٢٨ ص
سلام عليم ورحمة الله وبركاته
أولا عيدكم مبارك
ثانيا أحببت أن أنقل وحهة نظر كلية المعملين والهدف من إنشائها
حيث أننا في المدرسة عندما أثاروا هذه النقطة ذكرنا لهم أن هناك العديد من المدرسين العاطلين فكيف بكلية تزيد من هذه الأعدلد
كان ردهم أن الهدف ليش معالجة مشلكة وإيجاد فرص للعاطلين الموجودين
وإنما الحد من هذه الأعداد فيالمستقبل وانا اأرى ان هذه الحلي في ه وجهة نظر لك يحتاج إلى عناية كما يقال
لان الحل يبدأ بالموجود بالذي سيكون موجود ونسيان الموجود
ثالثا
المشكلة أننا نعيش في مجتمع يهتم بالشكليات أكثر من المضمون و الجوهر
الكتب الدراسية كل كم سنة يتم تغير غلافها والخطوط التي تحتوي الكتاب
وإعادة ترتيب مضمون الكتب وتوزيعا على الكتب بشكل جديد (( أخربط الواحد أكثر من ماهو متخربط ))ا
صار لينا أكثر من 10 سنين يكلمون عن التغير والتطوير في التدريس وهالكلام بس للحين ما نشوف مستوى الطلبة اللي يتخرجون من المد
راس أتغير للحين شهادة ثانوية غير معترف بها في الخارج
وحتى في نفس البلد
ندرس المادة مرتين مرة في المدرسة والمرة الثانية في الجامعة مرة بالعربي ومرة بالأنجلينزي
(أمر مضحك )
حاليا أصبحوا يتكلمون عن الربط بين التدريس والتقنية إذا المعلم مايفهم أبسط الأمور في هذه التقنية فكيف سيصلون للهدف
أما ابالنسبةللصفوف
أتمنى أتكون صفوفنا مثل صفوف جامعة البحرين التقنية
يعني يبعث بالأمل عندما تجد أماكن لاتزال تهتم بالتدريس حيث أن عدد طلاب في لصف الواحد لا يزيد عن 7
وجميع الدروس تفاعلية
أنا أرى ان التدريس مهنة عظيمة تحتاج إلى أهلها
وللي حاصل حاليا أن اللي في الكلية اشخاص غير مأهلين لحمل مسؤولية فكيف بمسؤولية تدريس أجيال ؟!!!
كما أن الدولة قاعدة تستعير خطط دراسية غربية وتريد اطبقها في المجتمع العربي و الخليجي والبحريني
وهي أكبر خطأ لان من المتفرض انها تراعي طبيعة الوضع اللي أعيشه المجتمع.
١٧ ديسمبر ٢٠٠٨ في ١:٠٧ م
شكراً أخ حمزة على تعمقك في هذا الموضوع ، أنت تتحدث وكأنك شاهد على ما يجري في المدارس من صغائر الأمور حتى كبارها
أنا مدرسة حاسوب للمرحلة الإبتدائية (والله يساعد اللي في الثانوية )
والمشكلة ليست فقط في المنهج والوزارة وإدارة المدرسة ولكن في أجيال اليوم وتعاملنا اليومي معهم
فالتعامل مع نفوس مختلفة ( أخاف أن أقول هذا الكلام ويضيفون لنا دراسة إجبارية ) تحتم على المدرس أن يكون ملماَ بدراسة النفس والإجتماع
التعامل مع أكثر من آله يربك ويقلل من فعالية الأداء فكيف بالتعامل مع أكثر من الإنسان ، فالطلاب لا يتوقعون من المدرسة الشرح فقط
هم يريدون أن تكون مربي وصديق وملم بمشاكلهم وإهتماماتهم، وأكثر من ذلك الطالبات لهم توجه خاص فهم يتوقون الى العاطفة فمن أين لنا كل ذلك ل 400 طالبة أدرسها من الثالث حتى السادس (كنت أقول دائماً أنا مشهورةبين الطالبات أكثر من المديرة)
وعند إلتحاقي بسلك التدريس ، لم يكن هناك أي توجيه من قبل الإدارة أو الوزارة
فالوزارة مهمتها إعطاءك اسم المدرسة فقط مع توقيعك بعدم إعتراضك على مكان المدرسة ، أما الإدارة فمهمتها إعطاء الجدول الدراسي قبل الكتاب المدرسي (كانت هذه مفاجأة بالنسبة لي)
حسناكيف سأتعامل معهم ، ليس هناك أدنى إرشاد (خاصاً بالنسبة لنا نحن مدرسين الحاسوب ، فتدريبنا كان الشركات فقط ولا يوجد تدريب في المدارس ، فنحن لم نكن نعول أصلاً على العمل في التدريس ، فالمستوى الذى نحصده يختص بتطوير البرمجيات لا تدريس واجهات البرامج التطبيقية )
كما إن ورش العمل المقامة في المدرسة لا يستطيع الكل الإستفادة منها إذا كانت خلال وقت الحصص.
عندما تتكلم المعلمة لن تنتهي لأننا نتعامل مع بشر والبشر في تغير مستمر ، هذه مقتطفات صغيرة جداً من مذكراتي
ختاماً أقول
إننا نعمل بضمير حي لن ينقص منه شيئاً إذا نقص الراتب
لأننا ندرس أبنائنا وبناتنا
فهؤلاء ستصادفهم في الشارع وأماكن العمل ويصبحن ربات بيوت وينشئن أجيال ، و نحن نعمل جاهدين أن يكونوا كما نحب أن يكون أولادنا في المستقبل محبين للناس وعاملين للخير بأقصى جهودهم في كل مكان
والسلام
إرسال تعليق