قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة
جعفر حمزة*
نشرة عاشوراء البحرين، العدد٢
(الجزء الأول)
ورقة التين وهوية الجلد
تعتبر العلاقة بين الإنسان واللباس من أشد الصلات الفيزيائية تشعباً و"مرونة"، حيث يكتسب القماش الذي لا تتعدى مساحته بضعة أمتار "قدرة" كبيرة على إرسال الرسائل و"افتعال" رسائل جديدة، بالقدر الذي يمكنه "بث" جو مسالم ومتسامح. وتعتبر ساحة عاشوراء محطة "تحرك" واسعة للون الأسود.
فما هي تلك العلاقة "السيوسيولوجية" والاجتماعية في العقل الجمعي للمجتمعات المتفاعلة مع "عاشوراء الحسين (عليه السلام)"؟ وما هي التغيرات المبدئية التي قد "تشكل" بطريقة أو بأخرى "سواد عاشوراء" من ناحية التقديم والرسالة والشكل؟
ورقة التين تتحرّك
"اللباس هو جلد ثانٍ ولغة بصرية نٌظهره بطريقة مُبتكرة تعبيراً عن ذواتنا".
لم تكن ورقة التين أو التفاح التي ستر بها آدم وحواء سوءاتهما إلا رمزاً أصيلاً في الإنسان عبر حركته لتحقيق الذات ومعرفتها، ولم يكن "الستر" إلا لوناً أصيلاً لا يمكن الاستغناء عنه لإكمال وجود الإنسان في حركته المعرفية في هذا العالم، ولم تكن ردة الفعل السريعة كما تذكرها الآية الكريمة "فطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة" إلا جذب طبيعي للون أساسي في التكوين الإنساني ليعود لطبيعته المرتكزة على الروح والفكر عبر وعاء الجسد والتي أخذت "ورقة التين" مساحتها من جسد نبينا آدم في سترها ليس لجسه فقط، بل لموقفه، وذلك عبر "هداية" فطرية من الله له باتخاذه تلك الورقة ساتراً.
وكأي مفردة تلامس هذا الكائن الحركي "الإنسان" الذي لا يتوقف، فقد كانت تلك الورقة "التين أو التفاح" مجرد بداية لتأخذ أبعاداً جديدة ورموزاً مختلفة أبعد وأكبر مما تحمله في ذات تلك الورقة من مجرد شيئاً "يستر" الجسد، بقدر ما كانت تمثل "ستراً" لحركة أبينا تجاه "الشجرة الممنوعة".
اللباس وتشكيل الهوية
ونتيجة لميل الإنسان للتعبير عن ذاته بالوسائل "المحكية" أي القابلة للظهور ولفت النظر للإعلان عن "الهوية" الخاصة به، كان "اللباس" إحداها كاللغة وصبغ الوجه وحركات الجسد الأخرى التعبيرية "الرقص والعبادة"، لتنتقل من مرحلة "الجلد والصوف" إلى "القماش والقطن" ومن ثم إلى "النايلون والخيوط الصناعية"، وتلك الرحلة الطويلة التي امتدت مع عمر الإنسان الأول إلى يومنا هذا صاغتها الفلسفات العديدة والاعتقادات التي رسمت للإنسان طرقاً مختلفة للتعامل مع الذات والآخر، وكانت إحدى أهم اللغات المشتركة في ذلك التعامل هو "اللباس"، حيث يعبر عن الصورة الداخلية للإنسان، وما يريد إيصاله من رسائل إلى الآخر.
لقد شكل اللباس هوية الإنسان قديماً وحديثاً، حيث كان يشكل في إحدى صوره "الإنتماء الجغرافي" و"الإنتماء القبلي"، ومن ثم تحول إلى "هوية وطنية" لهذا البلد أو ذاك، لينتقل ويتعمق في ذات الإنسان حركة وفكراً وسلوكاً واعتقاداً، وتحوّل إلى دائرة الإنتماء الديني ليلامس ساحة شديدة الخطورة وهي ساحة "المقدس".
عندما تلامس الهوية "القماش"
وما الألبسة الدينية إلا تعبير عن "مطاطية" اللباس الذي يتحول من "ضرورة" لستر العورة والحماية من البرد والحر إلى "هوية" يكون جزءً لا يمكن فصله عن الجسد، ليتحول اللباس إلى جلد حقيقي آخر للإنسان يؤذيه إن "خدشته" أو "مزقته" لأنك تكون قد خدشت "هويته" و"معتقده" و"دينه".
ولا أدل على ذلك من الحرب الضروس على الحجاب الذي لا يفهم الكثير من عامة الناس في الغرب مكانته في "الهوية المسلمة"، إذ لا يشكل مجرد قطعة قماش فقط، كما لا يفهم الكثير من الغرب الاستهجان على ظهور إمرأة بنصف ثيابها في المجتمعات المتحفظة سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو من أي ديانة تلتزم "العفة" في اللباس فيما تمثله العفة من صيغة أساسية للإنتماء الديني والثقافي لتلك المجتمعات.
ويُذكر بأن هزيمة اليابان الفعلية لم تكن بعد إسقاط القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي، بل كانت بعد أن استبدل اليابانيون لباس "الكيمونو" التقليدي بالجينز والأقمصة، حيث بدأت تنتشر حينذاك القيم الغربية بعيداً عن الثقافة اليابانية الأصيلة.
وفي هذا الشأن العديد من الأمثلة التي تم فيها المحاولة لتغيير هوية المجتمع من خلال إحدى بوابته الأمامية "اللباس"، منها تركيا الحديثة كما يسمونها التي أُجبر الشعب التركي تحت حكم كمال الدين أتاتورك بنزع اللباس التقليدي للأتراك ولبس القبعات الغربية، ولم تنجح المحاولة ذاتها في إيران إبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي نتيجة الاستماتة القوية لحفظ الهوية الإيرانية الإسلامية لا المستغربة.
أرأيت أن من ضمن الحصون الأولى للهوية هو "اللباس"؟!
اقتراب المقدس من اللباس
وتأخذ المواسم الدينية في الكثير من المجتعمات المعاصرة نصيب الأسد في تحريك "اللباس" كرسول للقيم الدينية والشعائر المرتبطة بتلك المواسم، حالها حال المواسم المختلفة للعديد من المجتمعات بصورة عامة سواء ما ارتبط منها بالدين أو بالتراث أو بأحداث معينة، حيث يتم فيها لبس ثياب لها ذلك الارتباط الذي يستحضر تلك المناسبة. وتشكل المواسم الدينية إحدى أهم وأبرز تلك الصور التي يظهر فيها اللباس كإعلان حركي مُمارس. حيث تُضفى عليها صفة "القداسة" لما لها من رمزية وعلاقة بالحدث التاريخي الزماني أو المكاني كموسم الحج على سبيل المثال.
* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
1 التعليقات:
٢ يناير ٢٠٠٩ في ٢:١٥ ص
متابعة لما تكتب،
واصل رعاك الله.
إرسال تعليق