الجزء الأول
جعفر حمزة*
ألم وأمل
لم تكُ ببعيدة عن مثيلاتها في خط سير وقوف الحق في وجه الباطل، الحق الذي يعطي للإنسانية اتزانها ومساحتها الطبيعية في التعبير والتعمير والتفكير، فكانت كل صور الرسالات بتنوعات أشكالها وبوحدة قلبها تتحرك في فلك أن تكون الإنسانية بعناوينها العامة حاضرة حيّة تتمثل في الفرد سلوكاً وفكراً وتفاعلاً انطلاقاً من الذات وانسحاباً وانتشاراً للآخر الإنسان وما دونه.
والسير في ذلك الدرب الإنساني السماوي المتجسّد في الأنبياء والأولياء والصالحين والعاملين لم يكُ محفوفاً بالورود أبداً، وأنّى له ذلك؟ بل كله ألم يعصر هذا النبي وذاك الولي ليخرج من بينه أمل، ألم من الأرض التي أثّاقل إليها الإنسان ليقاوم التغيير” بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون” الزخرف٢٢، وأمل من السماء التي ترسم صراطاً مستقيماً للإنسان (وإنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) الأنعام ١٣٥
ذلك الدرب الإنساني صعب مجهد؛ لتربّع الأهواء والمصالح الشخصية على جانبي الطريق ترمي الأشواك وتعرقل المسيرة لتصنع في قبال مسيرة الإصلاح مأساة هنا أو مجزرة للإنسان في فطرته هناك ظنّاً منها -أي الأهواء والمصالح الدونية- أنها ستعرقل السير وتُبطأ الحركة وتبث اليأس في سالكي ذلك السبيل. لتكون بالنتيجة قلة ممن يسلكون سبيل الحق “لا تستوحشوا الحق لقلة سالكيه” كما قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن منّا يسلك درباً صعباً شائكاً موحشاً موغلاً في الألم وفي غياب الأُنس البشري؟ ومن منّا يريد أن يشمّر عن ساعديه في غابة مظلمة ممطرة موحلة؟لا ليناطح طواحين الهواء كدون كيشوت، بل ليناطح فراعنة وقياصرة بجيوش جرارة.
لذا يتفتّق النصر بعد حين “ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب” الطلاق ٢،
فالتسلّح بالتقوى ضرورة للظفر بالمخرج لأنه يكسب أداة تغيير وثورة في اليد ومدد من السماء في اليد الأخرى، وهو الذي كان بينّاً على الدوام لأولئك العظماء الذي يرون بعين الله، وقد غفلت تلك الأهواء أن الحق قويٌ حتى في صور الضعف الظاهرية والتي يحسبها البعض أنها مؤشر تقهقر أو ضعف في شكيمة الحق، والناظر المنصف يكتشف أن صور المأساة التي تجري على يد الباطل هي في الأساس ذروة الحق في قوته.
ألم ترَ؟
ألم ترَ إلى ما أقدم عليه قابيل من قتل أخيه هابيل؟ لم تك تلك الصورة قوة لقابيل بل لضعف فيه، ليندم ويتعظ من غراب يرشده، كان هابيل في قمة قوته في تلك اللحظة التي صعدت فيه روحه للسماء، ليكون الأنموذج الأول والأبرز لمظهر الظليمة وتعدّي الإنسان على أخيه الإنسان.
ألم ترَ إلى قمة الاستهزاء بنبي الله نوح عليه السلام عندما كان يبني السفينة بعيداً عن البحر. كانت هي قمة القوة بين جنبيه، لأن قومه غفلوا عن الحقيقة في تلك اللحظة التي كان هو يعيشها بوحي من الله تعالى؟
وألم ترَ إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما تم قذفه في النار، تلك كانت قمة الحق في قوته، لأنه أوصل رسالة التضحية بكل شيء بالمبدأ الذي عاشه وهي رسالة الله إلى قومه؟
بل ألم تره وهو يوشك أن يقتل ابنه بعد عمر طويل قد أتى؟ أليس ذلك ضعفاً وخوار لقوى الأب؟ بل العكس كانت قمة قوة نبي الله ابراهيم في تلك اللحظة التي شد فيها عنق ابنه اسماعيل وأراد أن يحز رقبته، في تلك اللحظة الصادقة “الضعيفة” الظاهر، كانت ذروة الحق بالاستبدال وتقديم المنزلة الرفيعة لنبيي الله ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وألم ترَ إلى نبي الله يوسُف (عليه السلام) عندما همّ أخوته بقتله ورموه بعد حين في غيابت الجب المظلم؟ وانتقل من صورة ضعف “بئر” إلى أخرى “عبد مملوك” إلى “مسجون”، كانت تلك هي صور الضعف الظاهرة التي اكتنزت ذروة الحق بتجلياتها ومسيرتها ليكون “القوي” في كلها لا في بعضها فحسب. كانت خطوات القوة بكل تفاصيلها في ستار الضعف الظاهري ليكون “عزيز مصر”.
وألم ترَ إلى نبي الله موسى (عليه السلام) عندما خرج من المدينة خائفاً يترقب؟ كانت تلك قمة القوة لأنه اقترب من نقطة التحوّل في مسيرته ليكون نبياً وينقذ أمة بأكملها من براثن طاغية جبار متكبر كفرعون.
وألم ترَ إلى السيدة العذراء مريم المقدسة عليها السلام حين رُميت بالإثم والخطيئة في ظل ضغط اجتماعي وإشاعات تنهش من سمعتها واسمها؟ لتكون قاب قوسين من تلقّي قصاص رهبان المعبد، فصمتت بأمر من الله لتكون في قمة صوتها المجلجل في ذلك الصمت، لتصل إلى الذورة لينطق السيد المسيح في تلك اللحظة، التي بدت كأنها ضعف، في حين أنها تكتنز القوة كل القوة في معانيها.
وألم ترَ إلى نبي الله عيسى عندما همّ اليهود بصلبه؟ لم تكُ تلك لحظة ضعف، بل قمة الحق في قوته لأنه مثّل رسالته في ذلك الإصرار على المبدأ بالرغم من صور المأساة التي أُريد أن يُساق لها.
وألم ترَ إلى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما تم رميه بالقاذورات ووضع الشوك في طريقه وتشويه سمعته ومحاولات قتله ومحاصرته وكسر ثناياه المباركة؟ تلك كانت قمة الحق في قوته، لأن المؤمنين يرون في تلك اللحظة ما لا يراه الآخرون في الجانب الآخر من الضفة، وعندما يستبين الحق في ظاهره للجالسين على الضفتين الحق والباطل، يبقى الحق قوياً وبصورة متساوية لهما، لذا يكون الحق أقوى ما يكون عندما يراه المؤمنون عين اليقين ولا يلتفت إليه الآخرون حتّى.
وألم ترَ عندما تم ضرب رأس الإمام علي بن أبي طالب (عليه السام) في مسجد الكوفة وهو يصلي صلاة الفجر؟ كانت تلك اللحظة هي قمة الحق في قوته، لذا قال الإمام (فزت ورب الكعبة)، وهل يكون الفوز إلا في قوة لا ضعف؟
وعندما تم قتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وبعد مرور سنوات لا تتجاوز الخمسين على انتقال جده الرسول الأكرم إلى الرفيق الأعلى، وبتلك الصورة البشعة التي تعبّر عن انفساخ وانسلاخ الأمة في ذلك الوقت عن إنسانيتها فضلاً عن إسلامها، في تلك اللحظة الفاجعة في واقعة كربلاء وبعد أن تمّت التصفية الجسدية البشعة بالإمام الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه بعد أن خرج لإحداث التوازن الذي أخلّه من مسك الأمور السياسية في تلك الفترة وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان المشهور بارتكابه المحارم وعدم أهليته ليكون خليفة للمسلمين، بل كان يُشكك حتى في إسلامه أصلاً كما يذكر ذلك الشيخ الآلوسي في كتابه (كتاب روح المعاني في تفسير القرءان العظيم و السبع المثاني)
قاع المأساة قمة القوة
في قمة مأساة الطف بكل صورها من نسج مقدماتها بدءً بتخاذل الأمة عن الوقوف بوجه يزيد بن معاوية مروراً بقتل سفير الحسين إلى أهل الكوفة، وهو مسلم بن عقيل ورميه من على قصر الإمارة وانعطافاً بمحاصرة الإمام الحسين وأصحابه في أرض كربلاء ومنع الماء عنهم إلى حين رفع الرؤوس الطاهرة لأهل البيت وفي مقدمتهم الرأس الشريف لابن بنت نبي الله الأكرم الإمام الحسين عليه السلام وانتهاءً بالسبي وأخذ أهل بيت الإمام الحسين وأهل بيت أصحابه المستشهدين إلى قصر يزيد بن معاوية بالشام وبصورة أرادت الحكومة الأموية أن تكون فيها الذلة والمسكنة والتشويه الإعلامي عبر غسيل دماغ جمعي.
في كل تلك القيعان من المأساة كان الحق في قمته من القوة لا ضعف فيه أبداً، فأثناء مسيرة الحسين بأهل بيته وأصحابه لكربلاء انضم إليه خُلّص أصحابه الذين كانوا أبعد ما يكون عن خط الإلتزام الرسالي والجهادي قبل انضمامهم لمعسكر الحسين، ولم تكُ المسيرة التي كان في ظاهرها الضعف إلا مولّد طاقة متنقل، بل مصباح هدى تنجذب إليه أرواح وأجساد المخلصين العاملين كالفراشات العاشقات.
وفي الوقت الذي يتجهّز جيش عمر بن سعد للهجوم على معسكر الحسين عليه السلام تحوّل أكبر قادة ذلك الجيش وهو الحر بن يزيد الرياحي إلى معسكر الحسين ومعه بعض الرجال، وعند اصطكاك الأسنّة استيقظت بعض القلوب من جيش ابن سعد وانسحبوا منه، وهناك العديد من المواقف التي يكون ظاهرها الضعف المادي تحولّت إلى نقاط تحوّل كبرى في حياة العديد من الناس وبالتالي انعكست على السلوك العام للأمة وتمخّض منها حركات ثورية مناهضة وحركات ارتدادية كبيرة من بعد زلزال كربلاء، تمثل بعضها في الثورة العسكرية كثورة التوابين وغيرها، والأخرى في الفكرة عبر الأدبيات ومدارس التغيير والإصلاح وثالثة في التربية الروحية والإصلاح الاجتماعي، ولا أدل على الأخيرة من المدرسة الأخلاقية التي كانت غائبة وسبباً في استشهاد ابن بنت نبي الإسلام، وقد أخذ الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب “زين العابدين” عليه السلام هذه المهمة على عاتقه، ليتحوّل الحسين عليه السلام في كل صور الحياة إلى رسالة تتجدد بصرياً وفكرياً ما إن تتراءى تلك الرموز التي تجسدّت في مأساة الطف من ماء وطفل رضيع وخيم ونساء وغربة. وما أصدق من قول الشاعر الدكتور المرحوم الوائلي في وصف القوة في ضعف الظاهر للقضية الحسينية حين أشعر:
وبأنّ من قتلوك ودوا عكس ما
قد كان لو علموا المدى المقصودا
……
ظنّوا بأن قتل الحسينَ يزيدهم
لكنما قتل الحسينُ يزيدا
لم تكُ تلك صور ضعف حتى لو ظهرت للكثيرين أنها كذلك، إلا أن قمة الحق في كل تلك الصور التي تحتضن بين جنباتها قوة الحق، ليمتد ذكره ويحضر فعلاً وقوة في كل موقف في قبال الباطل والذي وإن بدا حاضراً فهو غائب بعد حين।
مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي
0 التعليقات:
إرسال تعليق