الجزء الثاني
جعفر حمزة*
الثقب الأسود
إنّ سر قوة الحق في صور ضعفه الظاهرة هو اكتنازه لروح الإنسانية الأصيلة والإمتداد السماوي المتين، وبين تلك الروح وذلك الإمتداد تظهر القوة الحقيقية للحق الذي يتحول إلى ما يشبه “الثقب الأسود” (١) الذي يجذب نحوه كل شيء أرضي وسماوي، بغض النظر عن خلفية الأرضي وعن معتقد السماوي، ألم تر ما قاله المفكرون عن النبي الأكرم والإمام علي والإمام الحسين والأئمة عليهم السلام، وهو غيض من فيض؟
بالرغم من أن أولئك لا ينتمون عقيدة ولا عرقاً ولا تاريخاً مع تلك الشخصيات العظيمة، قالوا في حق النبي إنصافاً وتعبيراً عن إنسانيتهم، وقالوا عن علي ترجمة لمصداقية إنسانيتهم، وقالوا في الحسين رجوعاً إلى روح الإنسانية الأصيلة، ومنهم البوذي والمسيحي والغربي والشرقي والأبيض والأسود، كل تلك الألوان المتنوعة من صور الإنسان انجذبت إلى تلك الشخصيات فقالت ما قالت وكتبت ما كتبت.
(تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر)
قالها إنسان من بلاد الهند قاد شعبه للتحرر من رتق الاستعباد من الإحتلال الأجنبي البريطاني، وهو المحامي والمفكر والثوري الذي اتخذ من مبدأ اللاعنف سبيلاً للتحرر عبر الثورة الصامتة التي أخرجت المحتل وكسرت قيد الأجنبي في الهند، وهو المهاتما غاندي، الذي قال هذه العبارة التي تستبطن القوة في صور الضعف الخارجية، وما قاله غاندي هو مبدأ قوة الضعف الظاهري الذي يختزن كل معاني قوة الإنسانية والمبادىء، ولم يكُ الضعف حاضراً إلا نتيجة “غياب” تلك المبادىء والشعور الإنساني المحرك للتغير وإحداث التوازن لاستحصال العدالة، لذا تكون كل صور المأساة والظلم التي تقدم “ضعفاً ظاهرياً” هي في الحقيقة ترجمة لغياب الحس الإنساني، إلا أن ذلك لا يدوم طويلاً، حيث يستقيظ الضمير نتيجة فطرته التي تدفعه للنظر بعمق في المأساة والضعف ليتحول بعد حين إلى مارد ينشد العدالة وينسف كل صور الظلم.
كمن يرى ابنه يُقتل أمامه وهو مكتوف اليدين لا يستطيع حراكاً، ففي ظاهر الصورة هناك عجز وضعف عند الوالد نتيجة تكبيله وإضعافه عن أن يدافع عن ابنه، لكن الحقيقة أن هناك قوة جارفة موجودة بين جنبي الوالد تخرج عندما تُرفع الأغلال عنه، ليتحول إلى مارد ينسى الألم والضرب وكل ما يقف أمامه من لحم وحديد، أي من بشر أو حجر لينتزع الضعف من صورة المأساة الحاصلة بين يديه. وتتحوّل إلى قوة جبارة تغيّر المعادلة.
لا تستفز إنسان الداخل
ألم ترَ إلى الشعوب الثائرة التي يكون الضعف في واقعها حاضراً في البداية وتنتفض بعد أن يكون ذلك الضعف هو حاضناً للقوة لتنتصر بعد حين؟
إنّ صور الضعف الظاهرة في المجتمعات تختزن القوة في داخلها إن تم استنفار الإنسان بداخلها لينهض ويثور ويقوم بالتغيير.وما مآسي العظماء من أنبياء وأولياء ومغيرين إلا انتصار لا انكسار.
وتستطيع المجتمعات أن تتحوّل من الضعف إلى القوة عبر ضعفها عندما يتم تسليط الضوء على مكامن استنفارها ونهضتها عبر ضعف واقعها، لأن في كل مجتمع هناك إنسان سوي يريد أن يعيش إنسانيته مهما كانت خلفيته الاجتماعية والسياسية والدينية، لأن الفطرة هي التي تظهر في السطح مهما تم الضغط عليها، حالها كالكرة التي تضغط عليها لتبقى داخل الماء، لكنك لا تستطيع أن تضع يديك عليها للأبد لأنها ترد ضغطك عليها بضغط مماثل لتكون على سطح الماء لا تحته، نتيجة وجود الهواء بداخلها، والفطرة الإنسانية في المجتمعات هو ذلك الهواء ، الذي لا يمكن إغفاله أبداً.
لقد حوّل العظماء من أنبياء وأئمة وأولياء ومغيرين ضعف أممهم ومجتمعاتهم إلى قوة، لا لأنهم أضافوا قوة من الخارج بقدر ما استخرجوا القوة من داخل إنسان مجتمعاتهم وأممهم، لذا يكون التغيير “إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” الرعد١١.
التغيير الداخلي الذي يجب أن ينطلق ليستخرج القوة ويركن الضعف والخَوَر والعجز جانباً، ليأتي بعد حين الانتصار والفوز “إن تنصروا الله ينصركم” محمد٧، فالبداية تأتي من داخل الإنسان السوي الذي ما إن يرجع لفطرته حتى تسنده السماء، لأنه أخذ بالأسباب والمعادلة الطبيعية في الحياة هو التوازن المادي والمعنوي، فلولاه لساخت الأرض ومن عليها وانفلت الكون بما فيه، لذا تكون قوى الطرد والجذب هي الحاكمة في إحداث التوازن، سواء على مستوى المادة أو الفكرة والسلوك ” ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” الحج ٤٠، هذه هي معادلة القوة والضعف، فبغياب ذلك الدفع المتبادل بين الناس يختل الميزان وتحدث الفوضى، لذا يكون الوضع الطبيعي هو في وجود قوتي الشد والجذب بين الناس ليصلوا إلى مرحلة التوازن، كحال الكواكب السيارة التي تسبح بين قوتي الطرد والجذب، ولولا القوتين لانفلتت الكواكب أو اصطدمت.
حسابات غير رياضية
وتتمثل القوة الحقيقية في الضعف الخارجي السطحي التأويل والعكس صحيح، ويتبيّن لك جلياً في سياسة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث يقول “ الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه”، تلك هي المعادلة الطبيعية للقوة والضعف، أن تكون كلاً منهما في قالبها الطبيعي، وفي غير تلك الحالة يختل التوازن وتضطرب الحالة ، وعلى من يقوم بأمر الله أن يُعيد التوازن كما كان في الأصل.
ويبقى النزر القليل من مآسي القوة مصاحبة للزمن لأنها تحتضن كل قمم الإنسانية في قيمها وصورها، لذا تبقى قرينة الإنسان أينما كان في الزمان والمكان، لأنها الصورة الأم للبشرية، وأبرز صور مأساة الإنسان هي واقعة كربلاء ، لذا قال الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب الملقب بالصادق (عليه السلام) “ كل أرض كربلاء ، كل يوم عاشوراء”
ففي حين يختل التوازن الإنساني بين البشر تحدث المأساة بصورها المتعددة لتجسد واقعة كربلاء في ظلم الإنسان للإنسان في المكان والزمان.
وما زالت كربلاء الواقعة وعاشوراء مأساة الإنسان حاضرة بقوة في ضمير المستضعفين في العالم مع مرور أكثر من ألف عام على الواقعة، ولأنها تمثل القوة في كل مصاديقها بالرغم من الضعف في كل صورها.
تلك القوة الجاذبة للملايين على مر العصور كسيل بشري متلاطم نحو تلك البقعة التي شهدت قمة العطاء من الحسين وأصحابه وقمة الإنحطاط من جيش يزيد وأعوانه، تلك الملايين التي تنجذب لا شعورياً نحوها بالرغم من كل “قنابل” الضعف التي تُرمي بحقدهها ونارها على أولئك العاشقين للقوة، وما زال بالرغم من المطحنة البشرية التي بدأت من بعد مقتل الحسين إلى يومنا هذا تتواصل تلك الحشود دون توقف، لأن سيرها فطري طبيعي، ولأن عشقها يمشي وفق حسابات غير أرضية البتة وخارج المنطق الرياضي المعروف، الذي يفرض على الزائرين لكربلاء في العراق أن يحجموا عن الزيارة نتيجة الأعمال الإرهابية الدموية التي تودي بحياتهم، ألا ترَ أن القتل والدماء والتيتيم والإثكال ضعفاً؟ ألا ترَ أن الذين يذهبون ضحية تلك الأعمال الإرهابية هم نتاج لصورة الضعف في الظاهر؟
لكن الأمر ليس كما يبدو، ففي كل صورة قتل لنفس بريئة وإزهاق لأرواح عديدة تكبر القوة وتزداد شوكته مع الزمن ومع الحدث، ليحدث الزلزلة في الضمير الإنساني ليحفر السؤال عن هذه القوة الجاذبة الغريبة التي تشد الناس وتجذبهم حتى يفدّوا بأرواحهم لها.
كل صور الضعف الظاهرة التي نراها في سير العظماء والمستضعفين وحوادث المأساة الكبرى، ما هي إلا الغلاف البيّن للقوة الجبارة التي تقف ورائها.
وما على المجتمعات إلا استنفار إنسانها الذي بداخلها بكل طاقاته ليخرج ذلك الفارس المقدام للتغيير وإحداث ثورة الفرد والبيت والمجتمع والدولة والعالم، عبر الأخذ بأسباب النصر وتفعليها حتى لو مرّت بمآسٍ هنا وتراجيديا هناك.
عند مآسي الإنسانية تتساقط كل صور المنطق الأرضي وحساباته ودفاتره، ليبقى ذلك الخيط الرفيع القوي المتين الذي يصل بين المأساة وقوة الإنسان فيها وبين روحه النقية الخالصة من روح الله، لذا يبقى الحسين ومجرّته في فلك الإنسانية كالثقب الأسود التي تتداعى إليه كل الأرواح الصافية وكل إنسان، ليذوب في الحسين كما ذاب الحسين في الله، لتعود كل الأرواح من أصحابها إلى أصلها التي لا ينفك عنها، وأنّى لها غير ذلك إلا المغضوب عليهم والضالين.
- الثقب الأسود هي منطقة في الفضاء ، تتكون نتيجة القوة العكسية لإنفجار النجوم، وهي عبارة عن كتلة كبيرة في حجم صغير، ولها جاذبية خارقة جداً حتي الضوء لا يفلت من جاذبيتها.
مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي
0 التعليقات:
إرسال تعليق