فاخلع نعليك


جعفر حمزة*

كان يبحث لأهله عن ملاذ دافيء في تلك الليلة الزمهرير، والتي تعاضدت فيها مشاق السفر وظلمة الليل وبرودة الجو، لتكون النار أنيساً عزيزاً وخليلاً مطلوباً ومرغوباً ومحلاً للراحة ونوراً ودفئاً. وما إن تراءى له قَبَسٌ منها في حلكة الليل الدامس حتى طفق لها مسرعاً، ليحث الخطى إليها حتى يجد نفسه بعد حين أنّه في مكان من عالم آخر، تملأ أركانه أنوار من عالم علوي، ليأتيه الخطاب وتُقدّم له الأمانة الثقيلة التي سيضعها على كاهله من هذه اللحظة، وليكون منقذاً لأمة بأكملها من ظلم طبقي واستبداد منظم وقتل جماعي مبرمج.


فكانت بداية الإعلان العملي لتنصيبه "نبياً" عبر أمر "فاخلع نعليك"، ذلك هو نبي الله موسى (عليه السلام)، والذي وجد ناراً عند سفره مع أهله وأراد أن يلتمس منها شيئاً لهم، فأدرك الوادي المقدس، وكان الخطاب المباشر بينه وبين رب العالمين بأمر من الله لنبيه بخلع نعليه، لأنه في مكان مقدس. فلماذا خلع النعلين؟


يذهب البعض للمعنى اللفظي المباشر، وهو خلع نعلي النبي موسى عند دخوله ذلك المكان المقدس، أو المعنى المعرفي للخلع، وهو خلع حب غير الله وما النعل إلا دلالة على ذلك، فلكلا المعنيين أو التفسيرين إشارة مهمة في التفاعل مع الزمان والمكان الذي يستوجب ردة فعل احترام ولازمة سلوك تتناسب مع المقام مادة ومعنى.


لذا تحتفظ الأماكن ذات القدسية عند البشر بطقوس احترام من نوع خاص، المعقولة منها والمبالغ فيها، فمنها ما يلزم خلع كل ما يُلبس في الرجلين، إلى لزوم ارتداء لباس معين أو لون خاص بذلك المكان. وتتعدد صور الاحترام اللباسي أو السلوكي للأماكن المقدسة عند الديانات السماوية وغيرها.


والربط الشرطي المُمارس في جميع الديانات السماوية وغيرها والمرتبط بالزمان والمكان والمظهر (اللباس أو الحركات) أمر فطري، إذ أن الممارسة الدينية ليست حالة ذهنية بحتة يعيشها الإنسان في مخيلته فقط، بل هي حالة ذهنية وعملية ملموسة، وللوصول إلى التوليفة بين الحالتين الفكرية والحركية، لا بد من مظاهر مادية خارجية تعزز ذلك السلوك وتقويّه. لذا نرى تلك الصور الظاهرية في السلوكيات الدينية المختلفة والمتنوعة في مختلف الديانات.

وفي الإسلام هناك محطات زمانية ومكانية يُلزم تقديم الاحترام لها سلوكاً ولباساً، لتأخذ موقعها من الأحكام الفقهية، لتقدم تفاصيل وشروط ذلك الاحترام، ففي فريضة الحج عند المسلمين هناك احترام زمني ومكاني. فالحج يأتي في شهر ذي الحجة (الزمان)، ولا يكون إلا في مكة المكرمة (المكان)، ويلزم ذلك الاحترام سلوكيات لباسية وأخرى حركية من نوع خاص. ولا أدل على ذلك من شروط اللباس الخاص بالحج ، إذ ينبغي أن يحقق شروطاً معينة ليتمكن المسلم من ارتدائه وممارسة شعائر فريضة الحج‘ وذلك عند معظم المذاهب الإسلامية. والأمر بالمثل في شروط لباس المصلي، بل ولباس المسلم بصورة عامة، إذ يضع الإسلام تلك الشروط والخطوط للاحتفاظ بهوية واحترام الإنسان المسلم لذاته والآخرين، ضمن دائرة الحرية الشخصية من جانب والاحتفاظ بهوية المجتمع من جانب آخر والمحافظة على هوية الاعتدال الديني من جانب ثالث.


وفي شهر رمضان يتمثل الاحترام في ارتباط زمني يبدأ مع ثبوت الهلال في رؤيته البصرية أو الفلكية، ويتم إعداد العدّة البصرية من خلال العديد من المظاهر الاجتماعية من قبيل وضع اللافتات أو الحضور المكثف في أماكن العبادة والمجالس الرمضانية التي يُتلى فيها القرآن، ولليالي القدر التي تُعد خيراً من ألف شهر مكانة من نوع آخر، حيث يتم النفير إلى المساجد لإحياء تلك الليالي بالدعاء وتلاوة القرآن والصلوات، وكأنها أشبه بحج ليلي للجوامع في بلاد المسلمين وكل تجمع مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.


ونتيجة المكانة الخاصة لهذا الشهر عند المسلمين، فليس بغريب أن يتم توجيه خطابات من بعض زعماء الغرب للمسلمين في بلادهم، بل وإقامة مأدبة غفطار لممثلي التجمعات الإسلامية في البيت الأبيض بالولايات المتحدة الأمريكية كاعتراف بوجود هذه التجمعات ودورها في المجتمع الأمريكي. كما توجد الكثير من صور الاحترام الرسمية للشهر سواء في بلاد المسلمين أو بعض البلاد غير الإسلامية، وذلك من قبيل منع الأكل والشرب في الأماكن العامة، وغلق المحال التجارية نهاراً، وينسحب أمر حضور شهر رمضان على الحركة التسويقية والترويجية للكثير من الماركات ليكون الشهر الكريم "كريماً" عبر العروض والتخفيضات التي تقدمها المحال والمجمعات التجارية.


وبالرغم من مقدمة معقولة تتناسب مع الشهر الكريم، إلا أن هناك حلقة مفقودة، قد حولّت شهر العبادة والمساواة بالفقراء والتضامن معهم، وقيم التسامح والإخاء إلى شهر استهلاكي بصري وصحي وسلوكي في الدرجة الأولى. فما هي الحلقة وما صور الاستهلاك المفرط في شهر القناعة والعبادة؟


الحلقة هي الرغبة في عدم التزام الأمر السماوي بـ "فاخلع نعليك"، فما زالت النعل في الأقدام، وما زلنا ندوس الزمان المقدس بالسلوكيات غير المتوائمة مع روحية وأجواء الشهر الكريم، ويبدو أن حلقة التحول تمثلت في سلوك الطعام والنشاط، إذ يبدو أن تحصيل الثواب للصيام قد استعجلناه بطريقة مادية بحتة وبصورة مبالغ فيها، وذلك عبر الإفراط في الشراء والمبالغة في وجبة الإفطار، ليكون كل ذلك جزاءً للامتناع عن الأكل فترة النهار، ويأتي الجزاء الثاني بعد قلة النشاط الملازم للصوم في فترة النهار، لنُجازي أنفسنا بالليل عبر السهر والاستمتاع البصري المختلف من فضائيات بمسلسلاتها ومسابقاتها إلى تواجد في خيم رمضانية بعيدة عن معنى الشهر الكريم إلى غير ذلك من الصور الحركية التي لا تتوائم من باب أولى مع الشهر الكريم.


ويبدو أن الاستعجال في استحصال الجزاء ومكافئة النفس بات أمراً مقبولاً وعُرفاً ممارساً للبطن والذهن على حد سواء.
ونتيجة للرغبة في الجزاء السريع عملت العديد من الجهات الإعلامية بل والاجتماعية على تحويل شهر رمضان إلى دنيا وآخرة في ٢٤ ساعة، ففي النهار هناك الصوم والتعب والنوم، وفي الليل هناك ما لذ وطاب والسهر والتمتع البصري عبر الشاشة والاعتكاف في الخيم الرمضانية.
أولئك من اللذين لا يخلعون نعلهم البتة، كمن يدخل المسجد ليصلي بنعليه ويخرج مسرعاً مولياً ظهره.


وعند الحديث عن صور الإستهلاك فليست بقليلة، فهي

:
الاستهلاك البصري: عبر مشاهدة الفضائيات بموادها التي لا تتوافق مع مكانة شهر العبادة والقرآن.

الاستهلاك الصحي: من خلال الإفراط في الأكل والتفنن في طبخه وتقديمه بصورة مبالغ فيها. وتبعات ذلك الاستهلاك صحياً على الفرد.

الاستهلاك السلوكي: حيث يكون العديد من المسلمين "إسفنجة" لامتصاص الإشارات السلوكية من الإعلام لتنزل إلى الشارع عبر سلوكياته المتأثرة بالإعلام والمجتمع.


وكمسلمين وعند دخولنا شهر رمضان، نكون كمن يبحث عن قبس في ليل حالك، كنبي الله موسى، وتراءى لنا الشهر الكريم كنار تشع نوراً، وموسى ما زال يسير نحوها كما نحن، ولما وجد النار وسمع النداء بخلع النعلين، لم يتردد وامتثل للأمر بخلع النعلين، أما نحن فما زالت النعل في أقدامنا ولم ننزعها بعد، أفي آذاننا صمم؟

أو ربما لا يستحق الأمر عناء خلع النعل حتى لو خلعه نبي مثل موسى!

يبدو أن نعالنا عالقة بأقدامنا، ولا حاجة لخلعها أصلاً.


* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي


مقطع من فيلم "أمير مصر" حسب الرواية الهوليوودية। ومن الجدير بالذكر أن معظم ما ور دفي الفيلم قد أورده القرآن الكريم مع اختلاف في حيثيات أخرى.