بين الفردانية المنتجة وعقلية المنصات التفاعلية.






هل غابت سيطرة "الأخ الأكبر" حقاً في عالم صناعة القناعات اليوم؟
هل افتقدت المركزية الإعلامية هيبتها بعد أن كان تحت يديها التلفزيون والصحافة والسينما وغيرها من وسائل الإعلام والتأثير؟

كل هذا التحول الذي نحسبه انتقالاً من المركزية إلى الفردية محسوباً من قبل أو هو ضمن تحول طبيعي مع تطور ونمو التكنلوجيا حيث نخاله تمركزاً نحو الفردية وهو غير ذلك؟!
باتت المنصات الاجتماعية مشاعاً وترجمة لتوجهات الأفراد ومتنفساً دون قيود، وافتقدت الحكومات كما أساطين الإعلام القدرة على التحكم بما يُقال من عدمه..
فأصبح الفرد قادراً على التعبير بمساحات تملأ الخافقين ضمن منصات "مجانية" مع تطبيقات أخرى مساندة لا تنتهي..
فهل كل هذا تعزيز للحرية الفردية أم توليف ذكي في تحويل ما نعتقده حرية فردية إلى إنشاء قاعدة ضخمة من "المشتركين" و"المترددين" و"المدمنين" الذين ينشدون "التعبير" و"التواصل"؟ وهم يشكلون "العُملة الجديدة" في سوق اليوم في تفاعلهم وسوادهم؟!
صناعة المحتوى بقدر ما يساهم الفرد فيه فهناك عوامل مؤثرة لا يمكن إغفالها من قبيل "المؤثرين" و"الترند" وتدوير المحتوى ضمن شبكة العلاقات المحيطة بالفرد، مما يشكل موجة للعقل الجمعي العام، وهو بطبيعته لا ينفك عن حركة السوق.

وبرغم توفر هذه المساحة للتعبير، إلا أن الاستفادة من ذلك للتشبيك المعرفي والابتكار في المحتوى -في العالم العربي- بات ساكناً في الهامش أكثر منه في متن كتاب حياتنا اليومية.
فليس هناك شئ لا يمكن ابتكاره ونشره والمشاركة به مع الرقمنة التي باتت "أكسجيناً" لا يمكن التخلي عنه في عالم اليوم، وهو أمر بديهي مع تطور هذا الكائن العصري الجديد الذي نسميه "تواصلاً اجتماعياً"، والتعايش مع أدوات هذا الكائن واقع مطلوب وعقلائي، بل علينا توجيه الدفة فيه نحو ثلاث محطات:

1. صناعة المحتوى، لتوجيه الأفكار وصياغتها وتحويلها لسلوك وبالتالي تقديم ما يترجم ذلك من منتجات فكرية أو ملموسة. وبلغة أخرى تسويقية "كوّن الجمهور ثم اصنع المنتج."

2. ابتكار المنصات والتطبيقات، اعتماداً على سوقين كبيرين هما العربي والإسلامي، وضربت الصين مثالاً حياً على الاستقلالية في المنصات بابتكارها بما يناسبها ولسوقها وجمهورها كبديل عن الواتسب وهو WeChat

3. صناعة العقل الجمعي، بعد صناعة المحتوى وتكوين الجمهور وابتكار المنصات والتطبيقات تكون صناعة العقل الجمعي بتوجيهه إيجابياً للإنتاج والابتكار والترفيه أيضاً. مشاريع مبتكرة معتمدة على موجة التفاعل للجماهير الرقمية حول العالم، من قبيل kick starter وغيرها ومن عَلى شاكلتها، تثبت قيمة الفرد في التوجه والدعم والابتكار والاستثمار والإثراء المعرفي والمشاركة الإنتاجية من خلال crowdfunding.

نحن نعيش في زمن الاستغراق الاختياري في الاستهلاك والإنتاج على حد سواء.

والميل للاستهلاك أكثر جاذبية وإغراء، ففيه التنفيس والهروب وقلة الالتزام والتماشي مع التيار الاستهلاكي الذي تحول لسلوك اجتماعي لا ينفك في كل المجتمعات المعاصرة. بالرغم من القدرة على الدمج بين الاثنين ليتحول الفرد لمستهلك منتج Prosumer مع توفر تقنيات حديثة مثل 3D Printer وغيرها من المنتجات التي تمكّن الفرد من إنتاج ما يريد منزلياً وبيعه بالنت عالمياً.
ومع ذلك تبقى نسبة لا تغيب في المجتمعات المتقدمة ممن يوطّن نفسه على الابتكار والإنتاج مدعوماً بهيكلية متقنة حكومية وخاصة. لتشكيل إنتاج يعكس ثقافة وينشر مفهوم خاص به دون سواه. فمن يُنتج يُغَيِّر.

ومع ذلك، فالقدرة على الابتكار فطرية في أي مجتمع، ويبقى الرهان على تشكيل الأولويات والاهتمام بها وتنميتها من خلال ركوب الموجة الرقمية بذكاء والاستفادة من المعرفة المفتوحة والجمهور ومعرفة السوق وصياغة منتجات فكرية ورقمية جديدة تشمل قيمة مضافة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، لكي لا ندور في رحى الاجترار وننطلق لفضاء أرحب مع قصص نجاح متنوعة ومفاهيم ريادية مبتكرة يمكن الاعتماد عليها لصناعة محتوى لعقل جمعي منتج مؤثر.

نعتقد أن مرحلة استنساخ التجارب الغربية يجب أن تتحول لتربة خصبة لننتقل لمرحلة ذاتية الإنتاج بشكل أكبر. إذ ما زلنا في دائرة الطواف حول الأنموذج الغربي في مجال الابتكار والصناعة وتنمية الذات وغيرها، ولا عيب في ذلك، إلا أن الاستغراق فيه يسلبنا القدرة على الإنتاج الذاتي والابتكار فيه ويحولنا لردات فعل أكثر من صناعته، ومن لا يصنع الفعل يكون على الهامش دوماً.
سواء كان "الأخ الأكبر" وصياً مسيطراً بذكائه أو أن زمانه انتهى، فالرهان كل الرهان في المقدرة على الاستفادة الذكية من كل ما يحيط بِنَا لنبتكر وننتج ونؤثر. ما دامت المعرفة "مشاعاً" لم تعهد البشرية مثلها من قبل. فالحجة قد اكتملت .. والسلام.

رباعية التسويق في صناعة الترفيه ... كيف نؤسس جمهوراً متفاعلاً منتمياً للبراند؟




“من يصنع الترفيه، يمتلك دفّة التوجيه”
أخذت صناعة الترفيه الرقمية “والحديث هنا عن الألعاب الرقمية” مساحة مهولة من الاهتمام والوقت من فئة الأطفال واليافعين بالخصوص. تلك الجاذبية المُتقنة التي تشدك شداً تدعوك لفتح أبوابها والولوج في عالمها، لتصبح أحد مرتاديها أو عُشاقها، فتكون أنت “العُملة” الحقيقية لهذه اللعبة، فتفاعلك من متابعة ولعب وإشادة بها، يمثل رأس المال التسويقي الفعلي لها، لتنتشر كالنار في الهشيم، وتكون محط اهتمام واستخدام.

تلك المغناطيسية في الألعاب، من ثمار الفهم العميق للسلوك البشري، وتقديم “فسحة افتراضية” للتنفيس والشعور بالتحدي والمغامرة وتقديم لذة الإنجاز، فضلاً عن التنافسية، إلى صنع مجتمع مواز افتراضي، خصوصاً للألعاب الجماعية. وكانت هذه ديدن المجتمعات البشرية منذ القدم في صناعتها للترفيه، مع اختلاف وتطور أدواتها.. “صناعة المُتنفّس” عبر رياضة أو خرافة أو غيرها.

ومع زيادة عدد مستخدمي الهواتف الذكية في العالم، وسهولة تنزيل الألعاب من متاجر أبل وغيرها، أصبحت سوق الألعاب أكثر وفرة ووصلاً للجمهور، حيث يقع بين يدي المستخدم عشرات الآلاف من الخيارات ليرفّه عن نفسه متى شاء، ليُخال له أن القرار بين يديه مع هذا الكم المهول من الخيارات. 

تتخذ بعض الألعاب ما أسميه أسلوب النمو الأفقي فيها، بزيادة عدد الخيارات وتوسّع مجال المنافسة والتشويق عند المستخدم، حيث يمكنه اكتشاف مناطق جديدة، بل تكون له القدرة في صناعة بعضها بنفسه، مثال “لعبة Roblox” التي تمثل أكبر وأضخم منصة تفاعلية رقمية في هذا المجال، حيث تُعتبر بحسب الموقع الرسمي لها بأنها اللعبة رقم ١ للأطفال واليافعين. وقد أنشأ المستخدمون ما يزيد عن ١٥ مليون لعبة باستخدام الخيارات والأدوات التي توفرها هذه اللعبة لهم، حيث تُمكنك اللعبة من صناعة عالمك الخاص وقوانينك التي تود، لتتحول هذه اللعبة إلى مساحة تفاعلية ضخمة من المستخدمين حول العالم.

فضلاً عن الزاوية التعليمية المتعددة التي يذكرها الموقع الرسمي لهذه اللعبة https://corp.roblox.com/education/
والتي تتشابك بها الرياضيات والفيزياء مع البرمجة بشكل مُلفت وقوي.

وتتخذ لعبة Lego من نفس الاتجاه في توفير “عناصر التكوين والإبداع” لجمهورها، فتتسع قاعدتها دون توقف. ويمكن الاستفادة من تجربتي Lego و Roblox في المجال التسويقي من خلال النقاط التالية:
  1. فهم دقيق لسلوك المستخدم، عبر تقديم قوالب جاهزة يمكنه أن يرى إنجازاً يحققه أو مغامرة يخوضها أو تجربة جديدة يعيشها، وتمثل هذه الألعاب تحقيقا لتلك “الرغبات”. فضلاً عن فهم “ذائقة” الجمهور المستخدم، وما يتبع ذلك من تصميم لتجربة مستخدم مميزة UX User Experiance .  لذا فكّر في أي رغبة تود إشباعها لجمهورك؟ وأي قيمة يمكنك تقديمها بجدارة له؟                                                                                                                                       
  2. توفير مساحة التفاعل مع الجمهور إذ تعمل الألعاب في جعل المستخدم جزء منها في مستوى وصانعاً لها في مستوى آخر. ويمكن إسقاط ذلك على كثير من المشاريع من خلال توفير هاتين المساحتين، بالنسبة الممكنة حسب نوع المشروع والهوية المقدمة للجمهور.
فتوفير “مساحة تفاعلية” يقوم الجمهور فيها بعمل ما مرتبط بنفس البراند بشكل أو بآخر يكوّن علاقة خاصة بين الجمهور والبراند.
وعليك كصاحب مشروع أن تفكر بالسؤال التالي:
ما المساحة التي يمكنني تقديمها للجمهور للتفاعل مع البراند الخاص بي؟ وهنا لا أتحدث عن تقديم مسابقات أو عروض فقط، بل أن يكون الجمهور بطريقة ما جزء من البراند في تسويقه أو تكوينه أو في سير عملياته أو مشاهدته. 
ويمكن العروج بهدف الإلهام على تجربة kidzania كمثال جميل على نمط التفاعل المقدم فيها.

٣. التحديث المستمر، وصناعة “الشغف”، بحيث يكون التجديد بين وقت وآخر ديدن مشروعك، ولو بشكل بسيط، باستخدام أسلوب الكايزن في التطوير البسيط المستمر Continus improvement، فالرتابة هي عدو تطوير العمل، والتجديد هو ما يحفظ بريق البراند للجمهور في كل مرة.
ما تقوم به منصات الألعاب هذه، هي خاصية التجديد والتطوير الذي يمتد لأبعاد كبيرة. فالتحديث المستمر هو التشويق بعينه لاكتشاف الجديد وسبر مغامرة مختلفة، فيتم فتح باب ومن كل باب ألف باب، حتى تمتد الجاذبية لأبعد مدى. وهنا يكون اللعب على وتر “حب الاكتشاف” و”الغموض” الدافع للفضول، وكلها دوافع ذات طاقة هائلة يمكن ترجمتها لسلوك مكرر يشبه الإدمان، وهو ما نلاحظه في اليافعين والأطفال ممن يتابعون الألعاب وتحديثاتها، فيتم صناعة وعي جماعي ذكي تقوده قوة الكلمة Word of Mouth في مجتمع افتراضي وعُرف قوي لا يمكن الفكاك منه.

٤. الثقافة الترابطية بين المستخدمين، بحيث تكون هناك “لغة” تواصل مشتركة بين المستخدمين عند اللعب، ويأخذ ذلك مدى أوسع من اللعبة لتكون جزء من الكلام المحكي أو حتى السلوك المحكي، مثال رقصة Floss في لعبة Fortnite.
حيث أصبحت أيقونة لتلك اللعبة بطريقة أو بأخرى، حتى ألقت بظلالها بشكل أوسع، لتكون جزء من دعاية بيبسي للعيد الوطني السعودي. “قد تم حذفه كما يبدو، ويمكن مشاهدتها من خلال هذه التغريدة”

 
وتلك الرباعية الترفيهية تُسهم مع الوقت في زيادة رقعة التفاعل الكمية والكيفية إلى تكوين “مجتمع” له مصلطحاته، إشاراته، طقوسه، لغته، بل حتى رقصاته. وهذا الشعور بالإنتماء هو فيصل توجيه السلوك وصياغته، ولا مناص منه، إذ يعمل كالمغناطيس، فيشدك شداً إليه، ويجعلك تشعر برغبة الاستمرار فيه، لأنه يغذيك بتلك الجاذبية الفطرية الذي يميل الناس له، وهو “الشعور بالإنتماء” كما يذكره Simon Sinek في عدد من محاضراته حول تحليل سلوك الناس تجاه بعض البراندات دون غيرها.

فالجمهور يريد أكثر مما هو منطقي Audience want more than Logic كما ورد في كتاب Brand Gap للكاتب Marty Neumeier

فالتماشي مع الرغبات الفطرية الدافعة لتكوين السلوك واتخاذ المواقف، هي ما تقوم عليه أكثر الألعاب الرقمية شعبية، فضلاً عن التموضع الذكي الذي تقوم به كبرى البراندات في العالم، لكسب القلوب بامتدادات بصرية ونفسية، لأجل المحافظة على الجمهور الحالي والعمل على توسعة هذا “الإنتماء” كماً وكيفاً، وإشباع ذلك بالرباعية الترفيهية (الفهم/التوفير/التحديث/اللغة)

كيف نستلهم نقاط التميز في الألعاب التفاعلية لأجل تسويق أفضل للمشاريع؟

  1. الوقوف بشكل متأمل ودراسة بيئة السوق المستهدفة
  2. العمل على “الدوافع الفطرية” بشكل متأن يتسم بالنفس الطويل
  3. صناعة محتوى ملهم
  4. ابتكار طرق تفاعل باستخدام الوسائل والمنصات المتوافرة
  5. خارطة طريق للتسويق مرنة وقابلة للتطوير المستمر
  6. محطات إعادة شحن طاقة التفاعل بين الجمهور والبراند
  7. وضع العين دوماً أثناء العمل على رسالة المشروع/البراند.

 

كل ما يحجز مساحة من الإهتمام ويولد التفاعل المُفضي لتشكيل سلوك يتبعه شراء بشكل مباشر أو غير مباشر، يجب أن يكون موضع إهتمام للمعاينة والدراسة واتخاذ نقاط القوة منه موضع تأمل ودراسة. وما زالت الألعاب التفاعلية لها مكانتها في القلوب جيلاً بعد جيل، وحريٌّ الاستخدام الأمثل لنقاط قوتها في مجال البراند وتسويقه.. لمن تأمل..

الإتقان، عندما يكون “مقدساً” "مُنتجاً"!


جعفر حمزة - مؤسس BOXOBIA 

شدّني حديثه الذي تناول بعمق حول “الهدفية” الدافعة، التاركة للأثر والصانعة للتغيير، سواء للمؤسسات أو الأفراد، من خلال دائرة ذهبية، نواتها “لماذا”، وتليها “كيف” وعلى سطحها “ماذا”..

في حين أن معظمنا يستغرق في كيف وماذا، تاركاً لماذا مخفية، إما لجهل في ادراك أهميتها، أو لصعوبة في القدرة على تقديمها والعمل عليها، وبالتالي أصبحت هذه “لماذا” عصية إلا على الذين آمنوا بها وأدركوها وعملوا بها، فخلدت أسمائهم، وبقيت آثارهم، وتُليت قصصهم.
 السيد Simon Sinek وأيقونته المعروفة بالبحث عن لماذا، والتي طرحها في كتابيه Start with Why و Find your Why، فضلاً عن محاضرته المشهورة على منصة TED، ومجمل من لقاءاته ومحاضراته التي تدور حول فلك الـ”لماذا”، وكيف السبيل لها وأهميتها، وادراك آليات العمل بها.

الدائرة الذهبية حول "لماذا"


من أجمل الكتب التي يُنصح بقرائتها والعمل بها





ويتقاطع ما يتناوله Sinek عن مفهوم الدائرة الذهبية لأهميتها في ثقافة المؤسسات كما الأفراد، لادراك البعد الأعمق للتميز فضلاً عن البقاء، مع ما يذكره السيد  Guy Kawasaki، مؤلف كتاب The Art of Start والذي يبحث عن الدافعية بمعنى آخر يسميه البحث عن المعنى Make Meaning  وهو ما يراه بأن كبرى الشركات تدور حول هذا المفهوم.



وقد كان ستيف جوبز من أبرز الذين عملوا على كلا المفهومين “لماذا” و”المعنى” بشكل ملموس، وقد بينها في خطابه الأخير بجامعة Stanford، ووصمها “بوصل النقاط”، ولا يكون هناك وصل إن غابت رؤية أو اُفتقد إيمان.



ثلاثية “لماذا” و”المعنى” و”النقاط”!
مشتركات هذه الثلاثية بين “البحث عن لماذا” و “إيجاد المعنى” و”وصل النقاط” برغم اختلاف مسمياتها وتنوع في آلياتها، هي في وضوح الدافعية وكمية الطاقة اللازمة للاستمرار في العمل عليها مهما كانت الصعوبات وتكالبت. فكلما ارتفع “المعنى” واتضحت “لماذا” بات أمر “وصل النقاط ممكناً وواضحاً”.

تعتمد تلك الثلاثية على القدرة الذاتية للإيمان العميق بالهدف لدرجة “الجنون”، إذ يغيب في كثير منها مسألة “الواقعية” أو ما يحلو للبعض تسميته بالتفكير المنطقي وبحث الاحتمالات، لأن هؤلاء المؤمنون بهدفهم، تبقى عيونهم وقلوبهم متعلقة بما يصبون إليه من “ثوابت”، وما عدا ذلك تكون “متغيرات” لديهم، يمكنهم العبور فوقها أو من تحتها أو حتى الإلتفاف عليها.

ومن يطلع على قصص الذين أحدثوا أثراً في حياة البشر يرى ذلك بجلاء فيما آمنوا به وفعلوه حتى الرمق الأخير، ولم يغادروا هذه الدنيا إلا وقد تركوا أثرهم حتى يومنا هذا. فمن فاطمة الفهري أول مؤسسة لجامعة نظامية في العالم بالمغرب العربي، مروراً بتوماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي ووصولاً إلى آينشتاين صاحب النظرية النسبية وأخيراً وليس آخراً الأخوان رايت ونيسلون مانديلا ومارتن لوثر كنج وستيف جوبز، والقائمة طويلة. كل أولئك “آمنوا” بهدفهم وسعوا له حتى الرمق الأخير، لأنهم أدركوا أن حياتهم مرهونة بهذا الهدف لا سواه، فسخروا كل ما لديهم له، فظفروا بما أرادوا.

السيدة فاطمة الفهري، أول مؤسس لجامعة نظامية في العالم


دور المقدّس في التطور!
وعند النظر للثقافة الإسلامية المنتجة لعظماء ما زالت آثارهم باقية وخالدة إلى يومنا هذا، من قبيل الخوارزمي صاحب كتاب “الجبر  والمقابلة” ومؤسس الخوارزميات Logarithms التي تشكل الحمض النووي للحاسوب اليوم. وابن الهيثم مؤلف كتاب “المناظير” وتجاربه المبهرة في هذا المجال، وأول من نجح نقل صورة من الخارج إلى شاشة داخلية كما في الكاميرا المظلمة التي اشتقّ الغرب اسمها من الكلمة العربية: "قُمرة"، أي بمعنى “الغرفة المظلمة”، أي أنه مؤسس الكاميرا بفعله هذا.
وقِس على ذلك في علوم أخرى لا مجال لذكرها هنا.

وهذا يدفعنا للتأمل في “لماذا” و”معنى” و”وصل النقاط” عند العلماء المسلمين الأوائل، وما يمكن استنتاجه من الثقافة الإسلامية بهذا الخصوص، لندرك عمق ما لدينا، والتأمل فيها والعمل عليها، فهل هناك “مساحة فارغة” فعلاً تجعلنا لا نعيد النظر في تراثنا الإسلامي لندرك عمق “الدافعية” التي أنتجت لنا الخوارزمي وابن حيان وابن الهيثم والفهري وغيرهم؟

هناك آيات وأحاديث إن تمعنّا فيها، ستشكل خارطة طريق ملهمة إذا ما أردنا الحديث عن “المعنى” والـ”لماذا”، وهي على سبيل المثال لا الحصر:
“وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.
هنا لا تكون الهدفية ذاتية نابعة من الشخص بتفكير أرضي وبمعزل عن مدد سماوي، بل هي أصله ومنبته وأساس تكوينه، فكل ما يقوم به الفرد المسلم، هو محل نظر الله أولاً، وبالتالي يكون أفق العمل ذو بعد أوسع وتتهاوى مع هذا الإيمان كل العقبات الأرضية مهما كانت، لأن الهدف مرتبط بشيء أكبر بكثير، ويرى الفرد المؤمن بذلك بأن كل عقبة هي اختبار له وعلى إثرها يكون له ثواب وأجر. فتكون كل عقبة “رصيد” له في الآخرة، وكل نجاح يحققه هو “توفيق” من الله له.

وهنا تغيب الأنا ويتعزز المفهوم الأكبر والهدف الأعظم المرتبط بعنوان قرآني واضح " هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا”(سورة هود)، ليكون هذا العمران في الأرض بأخذ أسبابه والعمل به، بل أن ذلك أمر بديهي، كون وجودنا في الأرض يلزمه استعمارنا فيها، بأخذ الأسباب، بالتالي يكون عمران هذه الأرض الهدف الأكبر للفرد المسلم، مع وجود مُقيّم للأمر برمته، وهو أن كل عمل لهذا العمران يكون تحت نظر الله تعالى.

الخوارزمي، الأب المؤسس للحاسوب بفضل خوارزمياته



هنا نتحدث عن “لماذا” و”معنى” واسعتان تتسمان بالقدرة الكبيرة على الابتكار والصبر والإنتاج واتساع الفائدة، لتشمل كل الناس على هذه الأرض.

يذكر Kawasaki أساسيات صناعة المعنى في التالي:

١. زيادة الجودة في الحياة، وذلك بجعل الناس أكثر إنتاجية، وجعل حياتهم أكثر سهولة
٢. أن تكون جزء من حل وليس من مشكلة، فابحث عن حلول دوماً
٣. المحافظة على الأمور الجيدة ، مثال المحافظة على الحيتان.

هذه الأسس مما يعمر الأرض ويدفع الإنسان للابتكار وتهيئة الأرض لتكون أفضل مكان للعيش.

ومن جانب آخر يدعم هذا المعنى زخماً نبوياً من خلال أحاديث نبوية كريمة تدلل على أهمية العمل، واعتباره “عبادة”، وهنا بيت القصيد، حيث يتحول العمل في ذاته إلى مفهوم عبادي حقيقي، وهذه من ضمن الـ ”لماذا” الكبرى أيضاً، ومكملة لـ”فهم المعنى وتكوينه” بلا ريب.
ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"، وهذا من أجمل الأحاديث التي تزرع المعنى وتوسّع آفاقه، وتُأنسِن هدفيته بشكل إيجابي لا ريب فيه.

حيث يتحول العمل الذي يدر بالفائدة على الكائن الحي، وليس الإنسان فقط، إلى مفهوم عبادي بحت “الصدقة”، وهنا ضرب المثل بالزرع، ولا وقفية في المعنى هنا، بل الإطلاق في تعميم الفائدة والنفع هو المغزى والرسالة من الحديث، سواء كان في زرع أو ابتكار أو إنتاج معين تكون دائرة الفائدة تتعدى الاستخدام البشري إلى ما أكثر من ذلك. وهذا في حد ذاته مدعاة للتأمل والعمل بناء على هذا المفهوم الكوني العظيم في معنى العمل العبادي.

والملاحظ والمتابع لتاريخ النهضة الإسلامية سابقاً، يرى في كثير من الأدبيات والآثار، هذا المفهوم للاعتناء براحة الإنسان والاهتمام بالنبات والحيوان موجودة وبشكل ملفت للنظر والتأمل.



“الاتقان” و”حب الله”!
ولا يقتصر الأمر في المنظور الإسلامي بالحث على العمل فحسب، بل يتعمق بشكل رأسي فيه، ليطرح موضوع “الاتقان”.
فلئن كان تعميم الفائدة للناس والدواب والنبات عبادة، فإن الاتقان في العمل يحظى بدرجة أرقى، إذ أن الاتقان يستوجب “محبة الله”، ففي الحديث “إن الله يحب إذا عمل أحد منكم عملاً أن يُتقنه”. أي عظمة هذه التي تربط اتقان الفرد لعمله بمحبة الله له!

ونؤمن بأن الاتقان مجمع الحُب في الإسلام، فلا يُتقن من لا شغف له في عمله، فهو يحب عمله، ونتيجة ذلك الحب يستحصل محبة الله له التي تدفعه لحب أكبر للعمل والاتقان، وهكذا نكون في دائرة ذهبية من نوع آخر ولها امتداد سماوي عجيب. ففي المفاهيم المطروحة حالياً تعتمد على الدافعية الذاتية للفرد في مسألة الاتقان لأهداف أرضية بحتة، إنما في المنظور الإسلامي، فالدائرة تتسع ويكون لها بعد روحاني أكبر، تتعدى المقاسات الأرضية ، فيتحول الاتقان إلى سبب لحب الله للعبد.

حبك للعمل دافعك لاتقانه، والأخير يجلب حب الله لك، فتكون في حالة اتزان مثالية بين الرضى النفسي من باب Self Esteem وبين الرضى الروحاني ذو البعد العبادي Spirtual Satisfaction، وكلاهما يكملان الآخر ويدفعان بعضهما البعض لدوران لا ينتهي من حب العمل والاتقان فيه.

وهذه معادلة لا توجد في المفاهيم المطروحة حالياً، إذ تتسم بالكمال والتوازن المطلوب للإنسان.

طبعاً مصاديقها يمكن الرجوع لها للأوائل من علماء المسلمين الذين ضخوا المعرفة والابتكار في حقول متنوعة من العلوم الرياضية والعمران والزراعة والحيوان وغيرها الكثير.




العمارة الإسامية إحدى أبرز المصاديق الحية في الاتقان المتكامل والدقة المتناهية




ولئن افتقدنا مصاديق لها الآن، هذا لا يعني ضعفها، بل مدعاة للتفكر فيها بعمق، وتحويلها لمنهج حقيقي وعملي في حقل “التنمية الذاتية” و”إدارة الذات”، وما يتبعها ذلك من ابتكار آليات متنوعة للوصول لها.

فالاتقان يمثل قمة جبل الجليد الذي كونته الخبرة والشغف والتركيز والمعرفة. وهو أيضاً الشعلة التي تسري بقوة في كل خلايا الفنان أو الأديب أو المهندس أو العامل، فلا تهدأ حتى تظهر بنورها في العمل، وتبقى متوهجة تشع حرارتها دون توقف.

هذا الاتقان ليس له تاريخ انتهاء الصلاحية، بل له امتداد الأثر الذي يلهم على الدوام، فالإبداع إن لازمه الاتقان ثبُت، وامتد أثره وتوسّع إلهامه.

ونرى حديثاً آخر يدور أيضاً حول “محبة الله” في موضوع الاتقان أيضاً، إذ ورد “إن الله يحب العبد المحترف”. فلم هذه المحبة؟
لأن الشخص المتقن لعمله تعم فائدة عمله أبعاداً مختلفة، سواء للجهة أو الشخص المستفيد من هذا العمل المتقن، إذ يكون الاطمئنان بأن العمل المنجز متقن لا خلل فيه، وبالتالي تقليل نسبة التكاليف من عملية إصلاح أو استبدال، أي تقليل “المودا” Waste، الهدر. 

فضلاً عن أن الاتقان يضمن سير العمل بجودة أعلى إلى جانب كونه بذرة للابتكار والتطوير، وكل هذه المفاهيم تعزز الهدف الأعلى الذي ذكره القرآن، وهو استعمار الأرض وعمرانها.




مفهوم العلاقة الطردية للاتقان!
فلئن كانت مفاهيم “لماذا الكبرى” لـ Sinek و”صناعة المعنى” لـ Kawasaki  و”وصل النقاط” لـ Steve Jobs لها مكانتها وأهميتها وأثرها الجميل، فهي انعكاس لصورة أكمل يطرحها المنظور الإسلامي من القرآن والسنة النبوية من خلال ثنائية “الحب والعمران”، فدافع الفرد أن يعمر الأرض بحبه لعمله الموجب بشكل آلي لحب الله له،  فيكون قد جمع بين خطين، أحدهما أفقي ممتد لنشر الفائدة والخدمة لمن على الأرض “بشر، حيوان ونبات”، والآخر رأسي في علاقة مستمرة عنوانها حب الله. ويمكن تمثيل هذه العلاقة بشكل هندسي بسيط مجازي، ضمن علاقة طردية بين “اتقان العمل” و”حب الله”، فكلما زاد الاتقان كان أثره أكبر، وبالتالي ترجمة استعمار الأرض أكبر، والنتيجة حب الله أكبر.

هذه معادلة قلما نلتفت لها لنعمل على أساسها. وهنا مكمن عظيم لمفهوم العمل والاتقان الأرضي المرتبط بصلة سماوية، إذ يتحول العمل إلى عبادة والاتقان فيه موجب لمحبة الله!








عندها يكون الاتقان ليس مجرد أداة لرفع مستوى العمل في ذاته فحسب، بل تتسع دائرته لتصل إلى مفهوم مقدس أيضاً، فتقديس العمل كما هو حاصل في اليابان كمثال نتيجة مفاهيم اجتماعية، وقد وصل اليابانيون إلى مصاف المجتمعات المتقدمة، وعند النظر للمفهوم الإسلامي، فإن التقديس دافعه ديني وامتداده لا حدود لمساحته، فعندما يتحول العمل لعبادة والاتقان موجب لمحبة الله، عندها يتطور المجتمع وينمو وتعم فائدة الابتكار فيه لنفسه ولغيره من بقية المجتمعات.

وهذا هو المقدّس في ديننا والذي نحن بأمس الحاجة إليه، وافتقدناه لضياع المفاهيم بين ظهرانينا، ويمكن العودة له بتأصيله بشكل حقيقي ملموس، وانتخاب أفضل الأدوات للوصول له، عبر تعزيز ثقافة محبة العمل والاتقان فيه والسعي لاستخدام الأدوات الحديثة له كالـ"كايزن" لغاية الوصول للاتقان، بل وابتكار ما يُوصل لتلك النتيجة.

فعندما يكون العمل عبادة فتلك الـ”لماذا الكبرى”، وعندما يكون الاتقان موجباً لحب الله فذلك “صناعة المعنى”، وما بينهما يكون “وصل النقاط”.
   

صاحب الأقواس الذهبية ومغير وجه صناعة الوجبات السريعة قراءة في فيلم The Founder



“قليلون ممن يملكون الشجاعة على التغيير واكتشاف الجديد. ويدفعون ثمن ذلك غالياً، إلا أن الأثر الذي يتركونه لا يندثر البتة”.
لستُ من محبي الوجبات السريعة أبداً، وبالأخص تلك التي تعكس وجهاً ثقافياً وتكون بمثابة أيقونة لتوجه سلوكي معين يعبر عن ثقافة بعينها، وكأنها تمد أجنحتها بذكاء من خلال الطعام وصناعة تجربة عميل جاذبة، فتفرض حضورها شئنا أم أبينا. وحديثي بالخصوص عن ماكدونالد، الذي اعتبرها “توماس فرديمان” في كتابه “سيارة اللكزس وشجرة الزيتون” بأنها أيقونة للهمينة الأمريكية على العالم، فما إن ترى الأقواس الذهبية “دلالة على شعار ماكدونالد”، حتى تتيقن أن الهمينة الأمريكية موجودة بالمكان. فما هي إلا “حصان طروادة”..
قد يكون هذا الحديث صحيحاً، وخصوصاً إذا ما أتى من مفكر أمريكي معروف وله سمعته ووزنه، ومع ذلك فالأمر يستحق النظر بموضوعية للبذرة الأولى التي كونت هذه الشجرة الضخمة والتي ألقت بظلالها في كل العالم، لتكون أيقونة للعولمة الأمريكية الجديدة.
فما حكاية الأقواس الذهبية وصاحبها؟




الفيلم من نوع الدراما الذي يتناول قصة حقيقية لواحدة من أكبر الهويات العالمية انتشاراً وقوة. فكيف لرجل مبيعات خمسيني عازف بيانو وعمل في مبيعات خلاطات الحليب أن يتفرّس المستقبل لمطعم صغير اسمه McDonlad، عندما سنحت الفرصة لبيع عدد جيد من الخلاطات على هذا المطعم، لتكون زيارته له والاطلاع على النظام الداخلي لعمل الشطائر المعتمد على الدقة والجودة في إعداد شطيرة في غضون 30 ثانية فقط، مُلهماً له وشاغلاً باله لأيام، ومندفعاً بطموح لا يمكن إيقافه، ليرى في هذا المطعم أيقونة حقيقة تستحق أن تنتشر في كل الولايات الأمريكية وليس مقتصراً على مكان واحد فقط، وهكذا بعزمه وشغفه دخل شريكاً مع الأخوين أصحاب المطعم، ليتبين بعد حين أن هذا الرجل له من الهمة والشغف والطموح ما يتجاوز قدرة الأخوين عليه.
إذ كانا يريدان أن يستمر العمل على ما هو عليه وفي دائرته “المتواضعة” في حين أن Kroc تجاوز الأمر بكثير، ليفتتح المطعم في 17 ولاية وفي وقت قياسي، محافظاً على الجودة والسرعة بانتخابه الذكي للمشرفين على تلك الفروع، فكان يتحرك على أكثر من جبهة وبطموح لا ينقطع 




وبشغف شديد ليجعل من McDonlad أيقونة حقيقية ملموسة ليس داخل الولايات المتحدة فقط وإنما في جميع أنحاء العالم.

كان يحرث بقوة لهذا الحلم وبطريقة مدهشة وبمخاطرة قد يُقال عنها مجنونة، خصوصاً عندما رهن بيته للبنك للحصول على قرض لأجل حلمه الذي كان حينها مربوطاً بالأخوين أصحاب المطعم. بالفعل كان محارباً شرساً لا يضعف، ومؤمناً بما يفعل حد النخاع، ومشهد إمساكه لقبضة من تراب المكان الذي سيبني فيه فرع جديد لـ McDonald  يظهر وبقوة مقدار ما يريده هذا الرجل لتحقيق حلمه. 
لم يترجّل قط أو يهدأ، فكان يسعى لحلمه بقوة من خلال التحفيز الذاتي من جهة “مشهد استماعه لاسطوانة محاضرة عن الإصرار”، واختياره الذكي للمحيطين به من جهة أخرى “فراسته في انتخاب يهودي ليكون رئيساً لأحد الفروع”، وتقبلّه للأفكار الجديدة للتطوير من جهة ثالثة “تقبله لفكرة بودرة نكهات الفانيلا والشوكلاته ممن أصبحت زوجته بعد حين، لاختصار وقت التحضير للمخفوق”.




كان يكبر بسرعة أخافت صاحبيّ المطعم، حتى اشترى منهما الاسم وانطلق لوحده راسماً أيقونة أمريكية غزت العالم وما زالت.

يحوي الفيلم كمية رسائل من العيار الثقيل في مجال ريادة الأعمال والتحفيز الذاتي المبني على قصة حقيقية، لرجل فكّر خارج الزمن والجغرافيا، ليعمل بجد منقطع النظير على حلمه الذي لم يتوان في زيارة كل فروع McDonald ليعاين سير العمل بنفسه وبدقة شديدة.

أُعجب بالفكرة بعد أن رأى فيها مستقبلاً وتغييراً ثورياً في مجال الوجبات السريعة، دخل كشريك، وعمل ضمن دائرة معارفة من الطبقة الثرية على الدعم المالي ليكونوا مستثمرين معه في سلسلة المطاعم، إلا أنه تخلى عن ذلك عندما رأى عدم الالتزام بالجودة التي أصر على كونها رقم واحد في كل فرع، واتجه للطبقة المتوسطة في المجتمع الأمريكي، والتي كانت الحصان الرابح لديه، وحقق ما أراد.





كان يعمل على تكوين هوية حقيقية لمنتج يعكس قيماً عصرية حينها، كان يركز على أن هذه الأقواس الذهبية هي “الحاضنة” للعائلة، وما تقدمه ليس مجرد شطائر، بل تجربة عميل وثقافة وسلوك، أراد تعزيزها من خلال المحافظة أولاً وأخيراً على الجودة في كل شطيرة على حده، وهو ما يسمونه بثبات الجودة والتناسق 
Constant Quality and Consistency وهو ما بنى الصورة الذهنية لسلسة مطاعم McDonald دون سواها.
تقييم الفيلم بشكله العام، مهم في محتواه فهو يحكي قصة مؤسس واحدة من أكبر الهويات التجارية في العالم، فضلاً عن الترجمة القوية لشخصية المؤسس والذي أتقنها الممثل Michael Keaton وبجدارة مبهرة.   
قد يأخذ البعض على مؤسس ماكدونالد “سرقته لفكرة الأخوين” وبناء امبراطوريته من ورائهما، والأمر نسبي في هذه النقطة، فقد كان طموحه أعلى منهما بكثير ولم يستوعباه، فما كان منه إلا المضي وبقوة لوحده 




بعد إدراكه لثغرة يمكنه من خلالها التحرك بحرية دون الرجوع إليهما، بعد تعرفه على أحد المهتمين بسلسلة مطاعم ماكدونالد وخلفيته في مجال المحاسبة والعقار. 
وللعلم فقد أعطى “كروك” الأخوين ماكدونالد شيكاً مفتوحاً ليعتقاه من ارتباطه بهما عبر عقد الشراكة، وكان ما أراد، بعد تحقيقه توسعاً مُلفتاً للسلسلة.
كان رجلاً حالماً عنيداً في تحقيق حلمه، فصفة الإصرار ملازمة له، ومستمعاً جيداً للتطوير، ومتفرساً ذكياً للكادر البشري. 
لقد كان يعرف من أين تؤكل الكتف.
إن الناظر لحياة كثير من المؤسسين لهويات عالمية بسطت هيبتها في السوق لسنوات طوال، حريٌّ له أن يتمعن في القاسم المشترك الذي يدفعهم دفعاً لخوض غمار محيط أزرق The Blue Ocean دون هوادة، عبر حلم يعيشونه في كل لحظة ويعملون له دون توقف.




وهناك الكثير ممن خاض هذا البحر ولم ترسو له سفينة. فهناك ممن يقتحم الجديد ويعمل للحلم ولا يترجّل عن حصانه حتى تحقيق ذلك الحلم، وهناك من لا يدرك حلمه لكنه مؤمن بما سار فيه من طريق وإن دفع الثمن. والأكثرية لا يودون حتى الاقتراب من البحر حتى.




المُستفاد من سيرة الحالم “كروك” يمكن تلخيصه بالتالي:
. الملاحظة الذكية لسلوك الجمهور
. القدرة على بناء رؤية للمستقبل والتنبؤ بما يمكن تحقيقه
. الفراسة في انتخاب الكوادر البشرية التي تشكل إضافة نوعية للمشروع 
. الإقدام بجرأة لتحقيق الرؤية وإن بدا الأمر جنونياً
. الاستماع بوعي للأفكار التطويرية للعمل 
. التفكير على مدار يتجاوز الحدود المتوقعة “Think Global”

والدرس الأعظم أن لا عمر محدد لمن يتملكه الطموح ويسعى له بكل قوته لتحصيله. فلا تُدرك القمم إلا برفع الهمم، وفي قصة “كروك” مثال عملي حي نعيشه كل يوم عندما نرى الأقواس الذهبية من علوّ على المباني والمحلات، عندها نُدرك أن بإمكان من أراد الإبحار بالمحيط الأزرق أن يأتي بالتغيير ويترك بصمته وبقوة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالأمر يحتاج لنفس طويل وإصرار لا ينقطع، كما قال “كروك”
PERSISTENCE IS THE KEY
 


“اترك أثراً ! ” صناعة تجربة العميل User Experience UX





إنّ الغاية التي تنشدها الهويات القوية ليس أن تكون ضمن القائمة المفضلة عند الجمهور فحسب، بل أن تتحول إلى مكون أساس في حياتهم، وتترك أثر القيم التي تؤمن بها على سلوكياتهم، وبهذا يتم نقل الجمهور من مشترٍ مستهلك إلى مروّج متفاعل مع الهوية وقيمها.
ويُعتبر هذا من أعلى مراتب التفاعل المنشود من قبل الهويات الناجحة، فعندما يتحول الجمهور إلى مسوّق، فهذا معناه مستوى متقدم من تجربة المستخدم UX “User Experience”.
والملاحظ أن هناك العديد من الهويات التي لها القدرة على الحضور من ناحية تكوين الهوية البصرية Brand Identity أو من جانب فكرة المشروع The Concept، إلا أن الهوّة الحاصلة هو في غياب صناعة تجربة المستخدم بشكل أولي والبناء عليها لتصل إلى مرحلة Loyal Brand.

ويتم ذلك من خلال التجانس المدروس بين الهوية المُقدمة شكلاً من شعار وتصميم وتسويق، وبين المحتوى التفاعلي للجمهور، والأمر لا يأتي من خلال الحماس المبدئي عند فتح المشروع، بل يجب أن يكون كل يوم هو يوم جديد للمشروع، وبهذه الروح يمكن التطوير وصناعة تجربة مميزة لا تُنسى.

ولئن كانت الخدمات أو المنتجات متقاربة في السوق والتنافس قائم، فهناك ما يمكن تمييز منتجك أو خدمتك عن الآخر حتماً، وهي آتية منك دون سواك، وهي صناعة تجربة العميل UX.

وهذه التجربة تعمل كالمغناطيس الذي يشد الزبائن إليك، قديمهم وجديدهم، فالتجربة الجيدة تصبح كالعدوى، تنتقل بسرعة عبر التزكية وحديث الناس WOM “Word Of Mouth”.

وتجربة العميل لا تتأصل إلا عبر مقومات لا بد منها يقوم بها صاحب المشروع أو المؤسسة، من قبيل:
. التطوير
. الاستماع الجيد للنقد
. المرونة في تقديم الجديد
. سعة الصدر
. خدمة ما بعد البيع 
وغيرها الكثير من العوامل التي ينبغي على صاحب المشروع أو المؤسسة العمل عليها، حتى لا يميل الجمهور إلا إليك دون سواك، وبهذا يتحول الجمهور من دافع لقيمة المنتج أو الخدمة إلى مدافع عنها، وما بين الدفع والدفاع مساحة تحتاج جهداً ونفساً طويلاً، وهذا ما تعمله الهويات الناجحة في تكوين جمهور موالٍ لا يذكرها إلا بخير، إذ تبقى تجربتهم متفردة ومميزة، وتنتقل بأفواههم إلى دوائرهم القريبة والافتراضية مع وجود وسائل التواصل الحديثة.

ما نحتاجه فعلاً بعد تكوين الهوية البصرية وتقديم الخدمة أو المنتج هو التركيز على صناعة  تجربة العميل UX التي تصنع المردود المالي والتسويقي للبراند، وهذا بحاجة إلى محطات تجديد تكون مدروسة وموضوعة ضمن خطة زمنية محددة، ونظام متابعة عملي للوصول إلى تلك النتيجة.

إن خشيتنا من خوض الجديد، يُبقينا في دائرة الراحة، وبالتالي لا نود التجربة والتي لها القدرة على فتح أعيننا لرؤية الفرص وصناعة قصص جديدة يتلوها العملاء حينها.

هناك ممن له كانت الجرأة لفتح مشروع جديد له، إلا أن الإبحار في عالم ريادة الأعمال، تحتاج إلى مخزون متدفق من تلك الشجاعة للاكتشاف والتجربة لتصنع أثراً وتتركه ورائك كلما حركتَ ساكناً.. فهل لديك منها ما يكفي لتتقدم؟



عندما نتنفّس التصميم ... قراءة في جمالية مونوغرافيا Michael Bierut في كتابه How To



“التصميم لا يعيش على الهامش أبداً، بل هو من صميم حياتنا، لذا نميل له ونعشقه ونتذوقه فطرياً، ولا تخلو حضارة أو ثقافة أو حتى مجتمع بدائي من هذه الذائقة البصرية بدرجة أو بأخرى”
تلك مقولةٌ ابتكرتها بعد تَنّفسّي لكتابٍ قد أبخستُ حقه في الإهتمام، حتى جاء وقت إلتهامه بالكامل، فالكتبَ أبوابٌ لعوالم تستحق خوض غمارها، وتأتي بثمارٍ تزيد حياتك جمالاً وألقاً وتترك بذورها لاستمرار ذلك الجمال فيك ليتكوّن لها معنىً وقيمة. 

قد يظنُّ الكثير ممن ليس في عالم التصميم خصوصاً أن مخرجات التصميم هي “مُكمّلات” ليس إلا، بل يعتبرها البعض أمر التصميم هامشياً، يمكن الإبحار فيه ما دامت لديك أدوات التصميم.. ولكن .. هل كل من يملك صنارة يعرف الصيد؟!

يأخذك هذا الكتاب الأبيض الضخم بجثته الورقية وغناه المعرفي عبر مونوغرافيا جميلة للكاتب مايكل بيرو* مختزلاً عقوداً من العمل والشغف في مجال التصميم، واضعاً تجاربه عبر سرد عفوي بسيط لكنه عميق لتكوين الهويات البصرية لمشاريع تنوعت بين متاحف ومكتبات وصحف وخطوط طيران ومجلات وأطعمة وغيرها.. 

ويحمل الكتاب عنواناً جذاباً..
How to use graphic design to sell things, explain things, make things look better, make people laugh, make people cry and (every once in a while) change the world.
برغم طول العنوان إلا أنه يحكي قصصاً وتحدياتً لا بد لك من سؤال نفسك، وهل للتصميم كل هذه القدرة؟

الكتاب خلاصة تجربة مصمم مخضرم، ترك بصماته على مشاريع عدة ما زالت قائمة، وصاحب فكر متقد تميز بالإبداع والبساطة والشغف الدائم لتقديم الجديد، فأصبح كل مشروع له تحدٍّ وتجربة..
يضع سنيّه التي تزيد عن الخمس والثلاثون بالتصميم في هذا الكتاب، مستعرضاً في كل مشروع تحدياته وحلوله ونتائجه، بشكل بسيط ومركز ذكي.

يتميز الكتاب بعنونة فهارسه التي تشدك، فلكل مشروع حكاية تُلهم، وعنوان يحمل رسالة ليأخذ بك إلى روح المشروع، تحدياته وما يمكن الخروج منه، لتقديم حلول ليست مقتصرة على الحضور البصري في الشعار فقط، بل في ما يسمونه بتجربة المستخدم User Experiance بحيث يتغلغل التصميم إلى تفاصيل المشروع لِيهبَهُ الشخصية المتفردة ويكون بمثابة خيط السبحة التي تمسك حبّات المشروع وتهبه معنىً وجمالاً.

ما يقدمه الكتاب ليس استعراضاً لهويات بصرية فقط، بل أعمق من ذلك بكثير، إذ يأخذك الكاتب في رحلة تختزل أسلوب تفكير، وعمل جماعي، وأناة طويلة في تكوين الفكرة، وفهم واضح لهدف المشروع، ومقاربة إيجابية لكل التفاصيل لتكون المادة الغذائية الدسمة التي تُلهم المصمم وتهبه لحظة الـ AHA، فتُولد الفكرة.

ما يمكنني قوله بعد اطلاع على عدة فيديوهات للمؤلف، فضلاً عن كتابه هذا، بأن منهج البساطة الذكية تميزه، فأعقد الأمور أبسطها، إذ أن اختزال فكرة هوية المشروع وابتكار ذلك الامتداد البصري الذي يُلقي بظلاله على كل مصاديق المشروع، من أصغرها لأكبرها كتطبيقات Brand Identity Aplications إلى ما هو أعمق من ذلك بجعل الهوية ذات عمق وقدرة لتشكّل تجربة للمستخدم User Experiance، وهناك أمثلة جميلة طرحها الكاتب ضمن عمله في أكثر من مشروع تم ذكره بالكتاب.

Design is not just what it looks like and feels like. Design is how it works

 Steve jobs


فالتصميم لا يقدّم المظهر فحسب، بل يتغلغل في أعماق المكان والزمان ضمن تجربة للمستخدم، لترك ذلك الانطباع العميق وتكوين تلك العلاقة الشرطية بين الهوية وقيمتها، ولا يتأتّى ذلك إلا من خلال فهم ذكي وإحاطة عامة بالمشروع، لتتولد منه الهوية البصرية وهي قطعة من صورة كبرى تتشارك بها الثقافة الداخلية والرؤية العملية وغيرها لصنع ذلك الوجود الذهني للهوية عند الجمهور.

ما شدّني لهذا الكتاب في محتواه هو ذلك الشغف في فهم كل مشروع وتقديمه بشكل مبسّط لتظن أن الأمر لا يستحق كيل هذا المدح للكتاب ومؤلفه.. رويدك، فعندما تقرأ بتأنٍّ، ترى أن هذه البساطة التي تخدعك بسهولتها، هي نتاج عملية متواصلة من التجربة ومقاربة لسلوك الجمهور، ودراسة لكل تفاصيل المشروع، فيشكل عبر تصميمه ابتكار التجربة المطلوبة للهوية.
التصميم جزء من الحياة بل هو أصلها، فكل هذا النَسق المتزن، والجمال المُتقن والإنسيابية الفتّانة في الطبيعة وفي أنفسنا من تكوين جسماني يشكل فينا تلك الجاذبية الفطرية نحو التصميم الذي نسعى له بقصد أو بغير قصد، فالتصميم الذي يقدم قيمة مضافة لتجربة الجمهور لدى تفاعلهم في مكتبة أو مطعم أو محل ملابس أو صحيفة وعدّد ما شئت، هو التاركُ للأثر، ومرآة للتصميم الفطري الذي ننجذب له لا شعورياً.
التصميم الفعال الذي يملك القدرة على رسم حكاية تفاعل لدى الجمهور، لإيصال رسالة وتسهيل مهمة ورسم طريق ورفع ذائقة. 
عندما نُدرك حقيقة هذا الأمر من خلال استعراض تجارب لمصممين أحدثوا الأثر مثل صاحب هذا الكتاب، حينها نعلم بأن التصميم له القدرة بأن يقدم لنا مساحة أكبر لفهم ما حولنا، لنتفاعل، لنجعل من كل ما ننتجه ونستهلكه ونراه حيّاً في معناه وقيمته ويعزز المفاهيم التي نؤمن بها لتكون على مدار تحركنا أينما ولينا وجوهنا، ونزداد إيجابياً من المخزون البصري اليومي.

ما نحن بحاجة إليه هو إدراك حقيقي لدور التصميم وقدرته على تكوين تواصل فعال حاملاً بين جنبيه القيم والرسائل والأفكار لا لأجل تقديمها فقط، بل لجعلها مصدر إلهام وتفاعل وكتابة حكاية بين القيمة والإنسان.

يقدّم الكتاب خلاصة تجربة مصمم محنك، ويقع في ٣٠٠ صفحة تقريباً من الحجم الكبير. 
كتاب ثري بصرياً وفكرياً، وأعتبره مصدر إلهام عميق للفنانين والمصممين والطلاب ، وكل مهتم بديناميكة الصور والكلمة والأفكار، لتتشابك معاً مُكونّة نغييراً تفاعلياً ذكياً.





صوتية المقال:
https://soundcloud.com/user-320829305/cwwogzzqby9k


  • مونوغرافيا Monograph .. بحث يتناول موضوعاً عليماً في ميدان محدود
  • وصلة للكتاب في موقع أمازون                                                                                                                          https://www.amazon.com/Graphic-Design-Things-Explain-Better/dp/0062413902/ref=sr_1_1?ie=UTF8&qid=1531561787&sr=8-1&keywords=how+to+michael+beirut
  • كلمة للمؤلف في TED
https://www.youtube.com/watch?v=YsA_JTeHJ6A




وقتي، لِمَنْ العملة الأكثر قيمة ومعادلة التسويق الأكثر تأثيراً ..


ما إن أشاهد أي فيديو في اليوتيوب حتى أُجبر على الانتظار لثوان معدودات مُشاهداً لإعلان قبل أن يمضي ويبدأ الفيديو الذي ابتغيه..
تلك الثواني المعدودات هي قمة جبل الجليد الذي تتبعه سياسات كبرى الشركات من دراسة معمقة في فهم السلوك البشري من أجل “استملاك” أثمن ما يملكه الإنسان “وقته”.

ولا يكون ذلك إلا من خلال شدًّ يستشفع التشويق له سبيلاً، “وهل التسويق إلا التشويق”، نعم، إنه التشويق الذي يشدنا شداً إلى موقع معيّن أو حساب بذاته أو تطبيق “نعتكف” فيه ويتوقف الوقت عنده، ففيه ما يُشبع فضولنا ورغبتنا لننجرف إليه حتى الإدمان، فباتت الهواتف الذكية، هي أكثر قرباً لنا مكانياً وزمانياً كبشر حتى من ملابسنا.

فقد ضاقت الفسحة التي تكون بين الجلوس على الأريكة لمشاهدة التلفزيون وما قبلها أو بعدها لقضاء أمورنا اليومية، فقد تم محو تلك “الفسحة” بامتياز مع وجود ثنائي ذكي “الهاتف والتطبيقات”، حتى بات الهاتف مكوّن أساسي لدى ملايين من البشر من قبل بلوغهم حتى موتهم - إن لم يكن الهاتف نفسه سبب موتهم بسبب انشغالهم به في حوادث مرورية لا حصر لها-.
هذا الإدمان المُجبرِين عليه حتى الثمالة، آت من حقيقة أن الهاتف لن يفارق عدة ملايين من مستخدميه ما إن تفتح أعينهم حتى تخلد للنوم مرة أخرى، والمنافس الوحيد للهاتف هو “النوم” لا غير!


هذا “التكوين” الجديد فينا الذي بات أمراً واقعاً، فتح آفاقاً جديدة لدراسة السلوك البشري في علاقته مع جهاز إلكتروني ملازم له على الدوام “الهاتف النقال”، وهو ما يفتح شهية كبرى الشركات لتسويق أفكارها عبر منتجاتها أو خدماتها، وهذا أمر متوقع بلا ريب.

نحن لا نناقش أخلاقية الأمر هنا بقدر مناقشة آلياته التي باتت أمراً مطلوباً، فما دام الناس منكسّوا الرؤوس لهواتفهم، ملتصقون بها لا تفارقهم، فهو بيت القصيد عند كل مسوّق، وكما نقول فهو “عزّ الطلب”.

ما يريده كل مسوق هو “لحظات” من عندك ليعرض ما لديه إليك، ليشدك إلى باب محل بضاعته. اتذكر عندما كنت أعمل في شركة JWT، وهي من أقدم شركات الدعاية والإعلان في العالم، إذ تُجاري كوكا كولا سنّاً، بأن فلسفتها كانت مبنية على اعتبار أن الوقت هي العُملة الجديدة في عالم اليوم، ومنهجها هي ابتكار أفكار يود الناس قضاء وقت معها.

ليس الأمر بُندرة ما يتم طرحه في السوق، وإن تقدم البعض وسبح في المحيط الأزرق The Blue Ocean، إذ أن عملية التخمة المعلوماتية كافية لاستنساخ التجارب وتطويرها وتفردها بلحاظ عوامل عدّة لا تنتهي.
إن الأمر برمته هو فيمن يشد انتباهك لتعطيه وقتك، فالكل يسعى لحجز مقعده في ساحة وقتك ذات الأربعة وعشرون ساعة.

وما دام الوقت هو بيت القصيد، فدراسات التسويق لدى كبرى الشركات من قبيل JWT وغيرها من أساطين شركات الدعاية والإعلان هو البحث بعمق في جاذبية “الوقت”، سواء من ناحية اختيار “الموضوع - المحتوى” أو اختيار “وقت العرض” في القناة الأنسب لاستهداف الجمهور المعني بالرسالة.

ما نعيشه يومياً هو مقدار المزاحمة الحاصلة في حجز مقعد لبراند ما في قاعة الوقت التي نوفرها لهم، والوقت هي العملة الجديدة التي تتولد من الأفراد للأفراد أو للشركات، فكلما زاد عدد مشاهدي قناة يوتيوب، أصبح للقناة مورد مالي أساسه “عدد المشاهدين” الذين أعطوا لهذه القناة “جزء من وقتهم” فأصبحوا مشتركين فيها ومعجبين بها، والأمر سيان على معظم قنوات التواصل الاجتماعي، فبمقدار ما تعطي لهذا الحساب أو ذلك جزء من وقتك فأنت قدمت عنصراً مهماً من معادلة شد الانتباه والتي تكون السلوك الفردي والجمعي تجاه محتوى ما تقدمه شركة أو براند أو فرد.

إن العملة الجديدة التي تمت صناعتها وأصبحنا جزء منها بل ونساهم في تصنيعها، هو “الانتباه” الذي نقدمه نتيجة “وجود اهتمام” بمحتوى ما نمضي وقتنا فيه، إذ يمكن تلخيص ذلك كالتالي:


Attention=Interest x Time 
( A = I x T ) 

ولا ننسى أن شد الانتباه هي أولى خطوات التسويق الأساسية، إذ يتبعها:
اهتمام و رغبة وفعل ، لتكون ملخصة في كلمة “شارع” بناء على التعريب الذي خلُصنا به، مستلهماً من الكلمات الإنكلينزية بالترتيب التالي:
Attention 
Interset 
Desire
Action 
ويُطلق عليها اختصاراً AIDA.

لو نلاحظ قليلاً أن صناعة المحتوى ونشره في منصات مجانية تماماً “مثل وسائل التواصل الاجتماعي”، أصبح مورداً مالياً لا يُستهان به البتة، وهنا بيت القصيد، حيث أن الناس هي التي تولّد القيمة المضافة للمحتوى المنشور ما إن تهتم به، وتعطيها وقتها، وبعدها تتولد “العُملة الجديدة” التي تُترجم إلى كمية المرور Traffic وعدد المتابعين followers والمتفاعلين من إعادة تغريدة أو اتباع هاشتاق أو وصول موضوع إلى الترند الأول.

وكل ذلك مردّه إلى تلك المعادلة التي تصنع الانتباه، فيندمج الجمهور مع ما يهتم به ويهبه وقته، ويتولّد من ذلك كله أهم العناوين وأكثر ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي وتكوين “حديث الشارع”، وزيادة المرور على براند ما، وبالتالي تستمر عجلة توليد العُملة الجديدة موزعة بين زيادة المبيعات لبراند أو زيادة الاهتمام لمحتوى ما أو لشخوص في كل هذه المنصات المجانية، ويُجرّ الأمر ما يليه، فالمحتوى ذو الحضور الكبير يشد انتباه كبرى الشركات فتتخذ من تلك المنصات ومن يسودها سفيراً لها ووسيلة للوصول إلى قادعة جماهيرية أكبر وهكذا، لا تتوقف العجلة في توليد هكذا عُملة نحن صانعوها ومستهلكوها.

نحنُ من نشكل الرقم الأصعب في تكوين هذه العُملة بمقدار ما نتوجه لهذا المحتوى أو ذاك، الأمر ببساطة مرهون بي وبك، فأي جهة تهبها وقتك، تكون قد زدتَ من رصيدها مادياً وحضوراً فاعلاً.

فإن كان على مستوى الفرد، فحريٌ أن تضع عُملتك في مكانها للظفر بما يعود لك مادياً ومعنوياً بانتخابك للمحتوى الأفضل وهو الذي يعطيك قيمة مضافة لمهارة أو سلوك أو فكر أو شعور جيد، وعلى مستوى الشركات، فمن المهم رفع سقف نوع وجودة المحتوى المُقدّم إلى الجمهور.

وتقع الشركات بين إشكالية “محاكاة” ذوق الجمهور الموجود أو تقديم ذائقة جديدة له، وبين المضمون المتوافر والجديد المقترح، يكون على الشركة الرجوع إلى رسالتها وفهمها بعمق، من أجل صناعة محتوى متناسب وذو حضور تفاعلي يمكنه حجز مقعد من وقت الجمهور له.

مدار الأمر برمته في صناعة محتوى يدفع الناس لقاء وقت معه، وعندها تتولد القيمة الافتراضية في المنصات المتنوعة في العالم الرقمي اليوم بشكل خاص.

هناك ٣ أمور مهمة في صناعة المنصات التفاعلية لتكون ذات قيمة عالية للمستخدمين، وهي أساسية في “شد الانتباه” لخلق التفاعل بعد حين مع استمرار العلاقة بين المنصة والجمهور، فكلما ضَمِنَتْ المنصة جمهورها لفترة أطول وبشكل تفاعلي لا يتوقف، كانت قيمتها الفعلية وحضورها في السوق أعلى. 
وتلك الأمور الثلاثة يذكرها كتاب Platform Revoluation لمؤلفيه الثلاثة Geoffrey G.Parker و Marshall W.Van Alstyne و Sangeet Paul Choudary، وهي:

  1. الشد Pull: لا بد أن تشد المنصة كلاً من المُنتج والمستهلك لها لضمان التفاعل بينهما، واستمرار عمل المنصة مرهون بتواجدهما معاً فيها، سواء المُنتج كان محتوى معلوماتياً أو بضاعة أو خدماتية أوغيرها. وهذه مهمة ليست باليسيرة، فهي بحاجة إلى “شد انتباه” للجمهور المستهدف ليدخل ضمن ساحة هذه المنصة.
  2. التيسير Facilitate: وهو بتزويد كليهما “المنتج وامستهلك” عبر أدوات وآليات ليكون التفاعل بينهما مستمراً وحاضراً لا يتوقف.
  3. التناغم والتطابق Match: وهو التوفيق بين المنتج والمستهلك عبر استخدام المعلومات المتوافرة عن كل منهما، لضمان التواصل الفعال بينهما بطرق شتّى ليظفرا بمكافأة متبادلة بينهما.


وببساطة يمكن القول أن المنصة التي تُخفق في “شد” المشاركين لها، ستكون غير قادرة على تكوين الشبكة الخاصة بها لها وهي “أي الشبكة” أهم مكوّن أساسي لوجود أي منصة تفاعلية في عالم اليوم.

ومن اطلع على الكتاب -ويُنصح بقرائته وبشدة- يستلخص منه بقيمة تعزز ما ذكرناه في هذا المقال، وهو العمل على توفير كل الآليات المهمة والفاعلة لضمان أن يَهِبَ الفرد وقته لهذه المنصة أو تلك، وهو بيت القصيد مما يُعمل له من تصميم ودراسة في “شد انتباهك” لأخذك في “حفرة  الأرنب ” The Rabbit Hole وبرضاك طبعاً.

إننا نعيش في عالم التنبيهات Notifications World والتي تظهر باختيارنا طبعاً نتيجة عوامل نفسية واجتماعية وغيرها، مما يجعل حصيلة التشتيت عالية، High Destruction Effect HDE، وبالتالي ما يتبقّى لنا للخلو بأنفسنا هو وقت واحد فقط لا غير “وقت النوم”، وقد ذكر السيد Tristan Harris هذا الأمر بشكل مباشر لا ريب فيه من خلال كلمته في TED، وكانت بعنوان:
How a handful of tech companies control billions of minds every day

حيث يذكر أن كل الشركات الكبرى منها والصغيرة تسعى للظفر بأهم ما لديك “وقتك”، وتسعى لذلك بمختلف الوسائل، ودخلوا في أدق التفاصيل المبنية على علم النفس لضمان “انشدادك” لها، من خلال “التنبيهات” و”الألوان” و”المزايا” المتعددة التي توفرها بدء من هاتفك الذكي حتى وسائل التواصل الاجتماعي، وليست هي آخر القائمة طبعاً.

فالجميع يسعى لتكوين “شد الانتباه Attention” له، لتعطيه وقتك وهي الحاوية التي يكون فيها التفاعل والاستمرار والتواصل وما يتبع ذلك من تحوّل وقتك إلى عُملة في عالم اليوم، إذ تزداد قيمة منصة ما عندما يكون فيها الوقت فيها نوعي وعددي، فالنوعي بلحاظ الفئة المستهدفة والتي قد تكون قليلة العدد كسوق متخصصة niche market والعددي عندما تكون لسوق شاملة Mass Market.

ولا يتكون شد الإنتباه Attention إلا من خلال صناعة محتوى يُولد “الاهتمام Interest” به وبالتالي يكون تمضية “الوقت Time” فيه.

إعلانات الأفلام التي تُقدّم في ثوان معدودات، والإعلانات التجارية والتي لا يتجاوز السواد الأعظم منها ٦٠ ثانية، فضلاً عن تحدي الخمس ثوان التي تراهن عليه آلاف الشركات للترويج ضمن هامش الفيديوهات في اليوتيوب وغيرها الكثير مما يود شد انتباهك له، كل ذلك لأجل “وقتك” الذي يتحول لعُملة تبتغيها الشركات والأفراد على حد سواء.

وإليكم همستان:

لك أيها القارىء، بأن تنتخب بعناية من تقدم له وقتك وانتباهك، فوقتك رقم صعب لا يمكن الاستهانة به، ويتحول لرأس مال لغيرك إن أنت وهبتَه وقتك. فاهتم بما تنتخب من محتوى أولاً وأخيراً. واعرف من تعطيه وقتك “عُملتك”.

ولك كصاحب شركة، بأن تُدرك أن تلك المعادلة بقدر بساطتها إلا أنه يلزمها الكثير من العمل، فصناعة المحتوى هو ما يُشكل الانتباه، ويبقى للشركات خيارين، إما الركوب على موجة المحتوى المطروح -بغض النظر عن مستواه ودرجة السوء فيه من عدمه- لتكون الشركات “تابعة” لنوع المحتوى المطروح، من قبيل الاستعانة ببعض المؤثرين أو تقليد لنمط ما في الطرح لاقى رواجاً، فتكون عملية النسخ واللصق.
وإما تكوين محتوى جديد مبتكر يعكس هويتها ورسالتها بل ويرفع من سقف الجودة والطرح والفكرة، وهذا بحاجة إلى فهم واقعي لهوية المؤسسة ورسالتها والجمهور المستهدف لها من جهة، وشجاعة في الخوض في غمار محيط أزرق جديد في صناعة شد الانتباه، وقليل ما يُقدمون على ذلك.


ويبقى السؤال الأكبر .. لمن تعطي وقتك؟
إن علمتَ أن أهم استثمار ورأس مال تعمل عليه كبرى الشركات في العالم هو السعي لـ “أخذ وقتك”، وعليك حينها بالتسوية، بأن وقتك له ثمن، فاعرف أي ثمن تقايض وقتك به.







Refernces:
1. Platform Revoluation, by:
Geoffrey G.Parker 
Marshall W.Van Alstyne 
Sangeet Paul Choudary

2. TED talk by Tristan Harrisat