صاحب الأقواس الذهبية ومغير وجه صناعة الوجبات السريعة قراءة في فيلم The Founder



“قليلون ممن يملكون الشجاعة على التغيير واكتشاف الجديد. ويدفعون ثمن ذلك غالياً، إلا أن الأثر الذي يتركونه لا يندثر البتة”.
لستُ من محبي الوجبات السريعة أبداً، وبالأخص تلك التي تعكس وجهاً ثقافياً وتكون بمثابة أيقونة لتوجه سلوكي معين يعبر عن ثقافة بعينها، وكأنها تمد أجنحتها بذكاء من خلال الطعام وصناعة تجربة عميل جاذبة، فتفرض حضورها شئنا أم أبينا. وحديثي بالخصوص عن ماكدونالد، الذي اعتبرها “توماس فرديمان” في كتابه “سيارة اللكزس وشجرة الزيتون” بأنها أيقونة للهمينة الأمريكية على العالم، فما إن ترى الأقواس الذهبية “دلالة على شعار ماكدونالد”، حتى تتيقن أن الهمينة الأمريكية موجودة بالمكان. فما هي إلا “حصان طروادة”..
قد يكون هذا الحديث صحيحاً، وخصوصاً إذا ما أتى من مفكر أمريكي معروف وله سمعته ووزنه، ومع ذلك فالأمر يستحق النظر بموضوعية للبذرة الأولى التي كونت هذه الشجرة الضخمة والتي ألقت بظلالها في كل العالم، لتكون أيقونة للعولمة الأمريكية الجديدة.
فما حكاية الأقواس الذهبية وصاحبها؟




الفيلم من نوع الدراما الذي يتناول قصة حقيقية لواحدة من أكبر الهويات العالمية انتشاراً وقوة. فكيف لرجل مبيعات خمسيني عازف بيانو وعمل في مبيعات خلاطات الحليب أن يتفرّس المستقبل لمطعم صغير اسمه McDonlad، عندما سنحت الفرصة لبيع عدد جيد من الخلاطات على هذا المطعم، لتكون زيارته له والاطلاع على النظام الداخلي لعمل الشطائر المعتمد على الدقة والجودة في إعداد شطيرة في غضون 30 ثانية فقط، مُلهماً له وشاغلاً باله لأيام، ومندفعاً بطموح لا يمكن إيقافه، ليرى في هذا المطعم أيقونة حقيقة تستحق أن تنتشر في كل الولايات الأمريكية وليس مقتصراً على مكان واحد فقط، وهكذا بعزمه وشغفه دخل شريكاً مع الأخوين أصحاب المطعم، ليتبين بعد حين أن هذا الرجل له من الهمة والشغف والطموح ما يتجاوز قدرة الأخوين عليه.
إذ كانا يريدان أن يستمر العمل على ما هو عليه وفي دائرته “المتواضعة” في حين أن Kroc تجاوز الأمر بكثير، ليفتتح المطعم في 17 ولاية وفي وقت قياسي، محافظاً على الجودة والسرعة بانتخابه الذكي للمشرفين على تلك الفروع، فكان يتحرك على أكثر من جبهة وبطموح لا ينقطع 




وبشغف شديد ليجعل من McDonlad أيقونة حقيقية ملموسة ليس داخل الولايات المتحدة فقط وإنما في جميع أنحاء العالم.

كان يحرث بقوة لهذا الحلم وبطريقة مدهشة وبمخاطرة قد يُقال عنها مجنونة، خصوصاً عندما رهن بيته للبنك للحصول على قرض لأجل حلمه الذي كان حينها مربوطاً بالأخوين أصحاب المطعم. بالفعل كان محارباً شرساً لا يضعف، ومؤمناً بما يفعل حد النخاع، ومشهد إمساكه لقبضة من تراب المكان الذي سيبني فيه فرع جديد لـ McDonald  يظهر وبقوة مقدار ما يريده هذا الرجل لتحقيق حلمه. 
لم يترجّل قط أو يهدأ، فكان يسعى لحلمه بقوة من خلال التحفيز الذاتي من جهة “مشهد استماعه لاسطوانة محاضرة عن الإصرار”، واختياره الذكي للمحيطين به من جهة أخرى “فراسته في انتخاب يهودي ليكون رئيساً لأحد الفروع”، وتقبلّه للأفكار الجديدة للتطوير من جهة ثالثة “تقبله لفكرة بودرة نكهات الفانيلا والشوكلاته ممن أصبحت زوجته بعد حين، لاختصار وقت التحضير للمخفوق”.




كان يكبر بسرعة أخافت صاحبيّ المطعم، حتى اشترى منهما الاسم وانطلق لوحده راسماً أيقونة أمريكية غزت العالم وما زالت.

يحوي الفيلم كمية رسائل من العيار الثقيل في مجال ريادة الأعمال والتحفيز الذاتي المبني على قصة حقيقية، لرجل فكّر خارج الزمن والجغرافيا، ليعمل بجد منقطع النظير على حلمه الذي لم يتوان في زيارة كل فروع McDonald ليعاين سير العمل بنفسه وبدقة شديدة.

أُعجب بالفكرة بعد أن رأى فيها مستقبلاً وتغييراً ثورياً في مجال الوجبات السريعة، دخل كشريك، وعمل ضمن دائرة معارفة من الطبقة الثرية على الدعم المالي ليكونوا مستثمرين معه في سلسلة المطاعم، إلا أنه تخلى عن ذلك عندما رأى عدم الالتزام بالجودة التي أصر على كونها رقم واحد في كل فرع، واتجه للطبقة المتوسطة في المجتمع الأمريكي، والتي كانت الحصان الرابح لديه، وحقق ما أراد.





كان يعمل على تكوين هوية حقيقية لمنتج يعكس قيماً عصرية حينها، كان يركز على أن هذه الأقواس الذهبية هي “الحاضنة” للعائلة، وما تقدمه ليس مجرد شطائر، بل تجربة عميل وثقافة وسلوك، أراد تعزيزها من خلال المحافظة أولاً وأخيراً على الجودة في كل شطيرة على حده، وهو ما يسمونه بثبات الجودة والتناسق 
Constant Quality and Consistency وهو ما بنى الصورة الذهنية لسلسة مطاعم McDonald دون سواها.
تقييم الفيلم بشكله العام، مهم في محتواه فهو يحكي قصة مؤسس واحدة من أكبر الهويات التجارية في العالم، فضلاً عن الترجمة القوية لشخصية المؤسس والذي أتقنها الممثل Michael Keaton وبجدارة مبهرة.   
قد يأخذ البعض على مؤسس ماكدونالد “سرقته لفكرة الأخوين” وبناء امبراطوريته من ورائهما، والأمر نسبي في هذه النقطة، فقد كان طموحه أعلى منهما بكثير ولم يستوعباه، فما كان منه إلا المضي وبقوة لوحده 




بعد إدراكه لثغرة يمكنه من خلالها التحرك بحرية دون الرجوع إليهما، بعد تعرفه على أحد المهتمين بسلسلة مطاعم ماكدونالد وخلفيته في مجال المحاسبة والعقار. 
وللعلم فقد أعطى “كروك” الأخوين ماكدونالد شيكاً مفتوحاً ليعتقاه من ارتباطه بهما عبر عقد الشراكة، وكان ما أراد، بعد تحقيقه توسعاً مُلفتاً للسلسلة.
كان رجلاً حالماً عنيداً في تحقيق حلمه، فصفة الإصرار ملازمة له، ومستمعاً جيداً للتطوير، ومتفرساً ذكياً للكادر البشري. 
لقد كان يعرف من أين تؤكل الكتف.
إن الناظر لحياة كثير من المؤسسين لهويات عالمية بسطت هيبتها في السوق لسنوات طوال، حريٌّ له أن يتمعن في القاسم المشترك الذي يدفعهم دفعاً لخوض غمار محيط أزرق The Blue Ocean دون هوادة، عبر حلم يعيشونه في كل لحظة ويعملون له دون توقف.




وهناك الكثير ممن خاض هذا البحر ولم ترسو له سفينة. فهناك ممن يقتحم الجديد ويعمل للحلم ولا يترجّل عن حصانه حتى تحقيق ذلك الحلم، وهناك من لا يدرك حلمه لكنه مؤمن بما سار فيه من طريق وإن دفع الثمن. والأكثرية لا يودون حتى الاقتراب من البحر حتى.




المُستفاد من سيرة الحالم “كروك” يمكن تلخيصه بالتالي:
. الملاحظة الذكية لسلوك الجمهور
. القدرة على بناء رؤية للمستقبل والتنبؤ بما يمكن تحقيقه
. الفراسة في انتخاب الكوادر البشرية التي تشكل إضافة نوعية للمشروع 
. الإقدام بجرأة لتحقيق الرؤية وإن بدا الأمر جنونياً
. الاستماع بوعي للأفكار التطويرية للعمل 
. التفكير على مدار يتجاوز الحدود المتوقعة “Think Global”

والدرس الأعظم أن لا عمر محدد لمن يتملكه الطموح ويسعى له بكل قوته لتحصيله. فلا تُدرك القمم إلا برفع الهمم، وفي قصة “كروك” مثال عملي حي نعيشه كل يوم عندما نرى الأقواس الذهبية من علوّ على المباني والمحلات، عندها نُدرك أن بإمكان من أراد الإبحار بالمحيط الأزرق أن يأتي بالتغيير ويترك بصمته وبقوة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالأمر يحتاج لنفس طويل وإصرار لا ينقطع، كما قال “كروك”
PERSISTENCE IS THE KEY
 


“اترك أثراً ! ” صناعة تجربة العميل User Experience UX





إنّ الغاية التي تنشدها الهويات القوية ليس أن تكون ضمن القائمة المفضلة عند الجمهور فحسب، بل أن تتحول إلى مكون أساس في حياتهم، وتترك أثر القيم التي تؤمن بها على سلوكياتهم، وبهذا يتم نقل الجمهور من مشترٍ مستهلك إلى مروّج متفاعل مع الهوية وقيمها.
ويُعتبر هذا من أعلى مراتب التفاعل المنشود من قبل الهويات الناجحة، فعندما يتحول الجمهور إلى مسوّق، فهذا معناه مستوى متقدم من تجربة المستخدم UX “User Experience”.
والملاحظ أن هناك العديد من الهويات التي لها القدرة على الحضور من ناحية تكوين الهوية البصرية Brand Identity أو من جانب فكرة المشروع The Concept، إلا أن الهوّة الحاصلة هو في غياب صناعة تجربة المستخدم بشكل أولي والبناء عليها لتصل إلى مرحلة Loyal Brand.

ويتم ذلك من خلال التجانس المدروس بين الهوية المُقدمة شكلاً من شعار وتصميم وتسويق، وبين المحتوى التفاعلي للجمهور، والأمر لا يأتي من خلال الحماس المبدئي عند فتح المشروع، بل يجب أن يكون كل يوم هو يوم جديد للمشروع، وبهذه الروح يمكن التطوير وصناعة تجربة مميزة لا تُنسى.

ولئن كانت الخدمات أو المنتجات متقاربة في السوق والتنافس قائم، فهناك ما يمكن تمييز منتجك أو خدمتك عن الآخر حتماً، وهي آتية منك دون سواك، وهي صناعة تجربة العميل UX.

وهذه التجربة تعمل كالمغناطيس الذي يشد الزبائن إليك، قديمهم وجديدهم، فالتجربة الجيدة تصبح كالعدوى، تنتقل بسرعة عبر التزكية وحديث الناس WOM “Word Of Mouth”.

وتجربة العميل لا تتأصل إلا عبر مقومات لا بد منها يقوم بها صاحب المشروع أو المؤسسة، من قبيل:
. التطوير
. الاستماع الجيد للنقد
. المرونة في تقديم الجديد
. سعة الصدر
. خدمة ما بعد البيع 
وغيرها الكثير من العوامل التي ينبغي على صاحب المشروع أو المؤسسة العمل عليها، حتى لا يميل الجمهور إلا إليك دون سواك، وبهذا يتحول الجمهور من دافع لقيمة المنتج أو الخدمة إلى مدافع عنها، وما بين الدفع والدفاع مساحة تحتاج جهداً ونفساً طويلاً، وهذا ما تعمله الهويات الناجحة في تكوين جمهور موالٍ لا يذكرها إلا بخير، إذ تبقى تجربتهم متفردة ومميزة، وتنتقل بأفواههم إلى دوائرهم القريبة والافتراضية مع وجود وسائل التواصل الحديثة.

ما نحتاجه فعلاً بعد تكوين الهوية البصرية وتقديم الخدمة أو المنتج هو التركيز على صناعة  تجربة العميل UX التي تصنع المردود المالي والتسويقي للبراند، وهذا بحاجة إلى محطات تجديد تكون مدروسة وموضوعة ضمن خطة زمنية محددة، ونظام متابعة عملي للوصول إلى تلك النتيجة.

إن خشيتنا من خوض الجديد، يُبقينا في دائرة الراحة، وبالتالي لا نود التجربة والتي لها القدرة على فتح أعيننا لرؤية الفرص وصناعة قصص جديدة يتلوها العملاء حينها.

هناك ممن له كانت الجرأة لفتح مشروع جديد له، إلا أن الإبحار في عالم ريادة الأعمال، تحتاج إلى مخزون متدفق من تلك الشجاعة للاكتشاف والتجربة لتصنع أثراً وتتركه ورائك كلما حركتَ ساكناً.. فهل لديك منها ما يكفي لتتقدم؟