بين خاتم سليمان وعلي بابا


بين خاتم سليمان وعلي بابا
جريدة التجارية الاسبوعية، ٢٨ نوفمبر ٢٠٠٧

تمثّل الصورة الفارقة بين التقارير الدولية التي تشيد بالإقتصاد البحريني "إنفتاحاً" و"تطوراً" و"نماءً"، فضلاً عن الصور العملية المتمثلة في المشاريع الإستثمارية "الضخمة" وعلى مد البصر وبين الوضع المعيشي للإنسان البحريني "راتباً" و"إلتزامات معيشية" و"حبال قروض لا تنتهي"، فضلاً عن صور لا تُنطق بل تلمسها لمس اليد للشريحة الأكبر من المواطنين ممّن يكتوون بنار الغلاء ولا يجدون من "رواتبهم" المُستهدفة من كل جهة إلا "فتات" قبل نهاية الشهر!!

تلك الصورة الفارقة تؤصل لسلوكيات ومفاهيم جديدة على المجتمع البحريني، حيث أن وجود الإستثمارات الضخمة والتي بمعادلة منطقية بسيطة يجب أن تنعكس على الوضع المعيشي للبحريني،لا نرى حتى غبارها والمتمثل لى أقل تقدير في توظيف عدد من الخريجين العاطلين في الوظائف التخصصية، وتوظيف العاطلين الآخرين في الشركات القادمة من وراء البحار.
وغياب "رذاذ" الاستثمار الأجنبي الذي من الممكن أن يبرّد لظى المعيشة التي يعانيها المواطن، ستؤدي المواطن إلى"الكدح المتواصل"، وبالتالي نفاذ الوقت لديه في أكثر من عمل لسد جوعه وجوع أهله، فضلاً عن البحث لسقف يظله، وبالتالي تتآكل الروابط الإجتماعية ويقل الإحتكاك مع الأهل والأصدقاء إلا من رحم ربك، وتتأصل بناءً علي ذلك البحث عن "إكسير الحياة" النتائج التالية:
أولاً: ظهور عقلية "Show Off" مع وجود العقل الجمعي في المجتمع الآن، والمتمثل في المظاهر المادية التي تفرض على الفرد "الذوبان" فيه، ولذلك الذوبان "ثمن" قد يصرفه في سيارة "رزّة" أو ثياب "آخر موضة" أو ما شابه ذلك مما ليس "ضرورياً" –على الأقل هو يؤمن بعكس ذلك-.
ثانياً: تآكل الوازع النفسي، نتيجة وجود "المفاتن الصورية" في المجتمع نتيجة "التدفق الإستثماري" في البلد والإنفتاح "الكريم"، وبالتالي الإندفاع للإستملاك والسيطرة -لمن لديه قلب الأسد- عبر السرقات والمتاجرة بالدعارة والمخدرات والخمور والممنوعات.
ثالثاً: السعي للربح السريع، وهي ما تقوم به الكثير من الشركات، وذلك من خلال "إمسح واربح" والدخول في السحوبات، وذلك كمنقذ للفرد ممّا هو فيه من إلتزامات مالية.
وتلك العقلية الثلاثية إما أن تفضي لإنفجار إجتماعي متوقع، من خلال ظهور "حركات إجتماعية" خفية تسعى للإستملاك عبر أكثر من طريق، وهي نتيجة طبيعية وإنعكاس متوقع لحالة الإستملاك التي يقوم بها المتنفذون و"الهوامير".

ومع الإنفتاح الإعلامي اللامحدود، فستكون الصورة الناطقة هي الصورة المعاشة وليست "المُعلنة"، وبالتالي تسقط "ورقة التين" عن رافع راية "الجنة المفقودة" ..، وتلك "الجنة" يدافع عنها شريحة ليست بالهيّنة في استعمالها لوسائل الإعلام المختلفة "إستنطاقاً" لحالها الذي تريد الإفصاح عنه.

وبعبارة أخرى، تنامي الإستثمارات من جهة متصاعدة وارتفاع أسعار النفط، وتصاعد صيحات موجات الغلاء و"التذمر" المباح والمنطقي من جهة أخرى سيُفضي إلى خلق حالة ترنو إلى لبس خاتم سليمان لتحقيق ما تريد، وذلك عبر "الإستجداء" وتأصيل عقلية "العطايا" بدل الحقوق، أو إلى حالة "جرأة وشجاعة" علي بابا ليقوم بــ..، وتعرفون البقية.

غابات حول بيت الله الحرام


غابات حول بيت الله الحرام
جعفر حمزة
لم أكن سوى نقطة تسبح في مشهد مهيب يضم مئات الآلاف من البشر، يجذبها إلى مكان واحد عشق سماوي لا يمكن وصفه إلا عندما تكون هناك في أجواء بيت الله المعظم بمكة المكرمة. وهي البقعة المباركة التي لا تخلو من العاشقين طوال العام، ويكون موسم الحج الأكبر هو الذروة الزمانية والمكانية لشعيرة من أكبر شعائر المسلمين، وقد شكل العدد المهول من الحجاج والمعتمرين الذين يفدون مكة المكرمة طوال العام تحديّاً متواصلاً وجاداً لحكومة المملكة العربية السعودية في توفير الخدمات المتمثلة بالسكن والتسهيلات الأخرى، وقد نجحت المملكة إلى حد كبير وواضح في تخطي الكثير من المعوقات وتقديم ما يليق بحجاج بيت الله الحرام، وذلك عبر مشاريع عديدة ومتنوعة إلى درجة أصبحت مسألة توفير السكن ليست هي المسألة، بل البحث عن مستويات أرقى وأرفع في نوعية خدمة السكن، وهو ما يفرض طرح تصورات جديدة من الخدمات والحلول السكنية لزوار بيت الله الحرام. والحركة العمرانية في السنوات الأخيرة في مكة المكرمة تمثل ترجمة لرؤية متسارعة في تقديم تلك الحلول، ليدخل على خط تلك المشاريع عناصر جذب أخرى يمكن الرهان عليها في ظل منافسة محمومة، ومن تلكم العناصر التي تمثلت في "ثيمة" كانت وما زالت هي العنوان السكني المتميز لزوار الحرم المقدس، وتلك الثيمة هي "الجوار المقدس والإطلالة المباركة" على البيت الحرام، لتصبح المنافسة على أوجها ويبدأ "سباق الجوار المقدس" بصور متعددة. ومما يعزز أوج تلك المنافسة هو سعر الأرض الضخم في مكة المكرمة، حيث يبلغ قيمة المتر المربع في حوالي 50 ألف باوند مما يجعله أغلى متر مربع في العالم.(1) وعوداً إلى الجو الروحاني الذي لمسته عندما كنت في بيت الله الحرام، فلقد لفت إنتباهي "تطاول" أكثر من بناية أو شبه ناطحة سحاب وكأنها تمد رقبتها، ليظفر ساكنوها بإطلالة مباشرة على الحرم المكي، وهم في شققهم أو غرفهم ذات الخمسة نجوم! وتشكل تلك الإطلالة تأسيس لمبدأ المشاريع العمودية التي تستند على الارتفاع للحظوة بتلك الإطلالة المقدسة، ولئن كان هذا المبدأ العمراني الجديد من ضمن الحركة المتوقعة –وربما المطلوبة- للتطور السكني حول الحرم المكي، إلا أن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه في تلك المنافسة العمرانية العمودية، والتي ستتسبب بخفوت الصورة المركزية البصرية لبيت الله الحرام، فقد كان في السنوات القليلة الماضية مركزاً بصرياً وحيداً، أما الآن فالصورة مشتتة مع وجود تلك المشاريع المزاحمة بصرياً، ونخشى أن تتم "محاصرة" البيت الحرام بغابات من العمارات والفنادق والتي "تضيّق" فسحة الفضاء حول البيت، لنصل إلى الوقت الذي "نألف" فيه صورة البيت الحرام وهو "غارق" في غابة المشاريع العمودية المحيطة به. ويمثل مشروع "الشامية" أنموذجاً تمت مراعاة تلك الملاحظة، فضلاً عن بقية الإعتبارات الخاصة بالتكوين الطوبغرافي وتضاريس المنطقة، حيث اعتمد المشروع على التضاريس الطبيعية المحيطة بالبيت الحرام، بدلاً من عمليات القطع والردم التي تستند عليها الكثير من المشاريع المقامة حول البيت الحرام. ويتميز المشروع بـ"إطلالة" على البيت الحرام بطريقة طبيعية دون "مزاحمة" للحرم الشريف ، وقد كانت تلك النقطة من أهداف مشروع الشامية وهو "التخفيف من ضغط التطوير العمراني في المنطقة الواقعة على حدود الحرم الشريف مباشرة" (2) ومن الجدير بالذكر أن الساحات الداخلية في المشروع قد تم تصميمها بطريقة تتكامل مع ساحات الحرم الشريف لجهة مراعاة اتجاه القبلة وتأمين الاتصال البصري بالحرم لتأمين إمكانية إقامة الصلاة فيها. ويحتسب كميزة أساسية لمشروع الشامية -الذي يقع شمال الحرم المكي الشريف- دون غيره من المشاريع توسعة ساحات الحرم الشريف من جهة الشمال وشمال غرب بمعدل عمق 120 متراً.هذا فضلاً عن الكثير من المزايا التي تمت فيها مراعاة الطبيعة السكانية والمعمارية والتضاريس للمشروع الذي يقع ضمن مساحة إجمالية تبلغ 125.97 هكتاراً وطاقته الاستيعابية 151164 نسمة(3). مما يشكل أنموذجاً حياً وملموساً للمشاريع المتقدمة والتي تحفظ المكانة البصرية للحرم الشريف. وتمثل مجمل المشاريع المقامة في المدينيتن المقدسيتن مكة المكرمة والمدينة المنورة تحدياً ثقافياً أكثر من كونها تقديم لحلول إسكانية لزوار تلك المدينتين. وسيكون المطلوب التخفيف من حدة سرعة انتشار الغابات العمرانية حول الحرمين الشريفين وترك مساحات أرحب للمد البصري لهما وتفردهما روحانياً ومكانياً، ليكون النظر إلى بيت الله تعالى وحده دون "إطلالات" تشوه تلك السكينة البصرية بحجة "الجوار المقدس"!
(1)تبلغ قيمة المتر المربع في المدينة المنورة حوالي 28.500 باوند، مما يجعل سعر المتر المربع في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة الأغلى في العالم مقارنة بسعر المتر المربع في مدينتي "مايفرد" بلندن و"مانهاتن" بنيويرك، حيث يبلغان سعرهما 20.452 باوند و 10.700 باوند على التوالي.
(2)http://www.makkah-development.gov.sa/
(3)www.mpd.gov.sa

يوميات مدير عام


يوميات مدير عام
جعفر حمزة

مراجع، فرّاش، مراسل، مسؤول، عامل قهوة والقائمة تطول.
كانت تلك الشخصيات التي تقمصها ببراعة وإتقان الفنان السوري أيمن زيدان في دوره كمدير عام في مسلسل "يوميات مدير عام"، حيث كانت تلك الوسيلة الفعالة لمعرفة الخلل في دائرته ومعالجته، والتي كانت تفيض بالفساد الإداري والمالي، بدءً من المدير المساعد وصولاً إلى ميكانيكي الدائرة.

ولم تكن جولاته كل يوم مع قضية فساد أو تسرب أو إختلاس إلا صورة مصغرة لما يجري في الشركات والوزارات والحكومات التي تعاني من الفساد الإداري والمالي، والتي تمثل همّاً عالمياً تُوليه المنظمات والدول السائرة نحو التنمية والتطور كل اهتمام.

ويمثل ميثاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (يونكاد) تطوراً بارزاً في هيكلية الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد. حيث يذكر الميثاق بخصوص الفساد أنه "لم يعد الفساد مسألة محلية وإنما ظاهرة تتخطّى الحدود القومية وتؤثر على جميع المجتمعات والاقتصادات، جاعلة التعاون الدولي لمنعها والسيطرة عليها أمراً لازماً".

وأما البنك الدولي فقد حدد الفساد كأكبر حاجز فردي يواجه التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويُقاس مستوى تطور المجتمعات عبر محاربتها للفساد بنوعيه الإداري والمالي، وتسعى الحكومات لتحقيق أعلى نسب الشفافية ومكافحة الفساد، لتكون البوابة الآمنة لرفع المستوى المعيشي وجذب الاستثمارات الأجنبية.
ولم يكن تصريح ولي العهد ورئيس مجلس التنمية الاقتصادية (إي دي بي) الشيخ سلمان على خلفية ضبط الاختلاسات في كل من شركتي "ألبا" و"أسري" إلا مؤشراً على الإقدام الجاد للحد من الفساد أياً كان مصدره.
يقول ولي العهد (ثقوا تماماً يا إخوان، أن حملة مواجهة الفساد لن تستثني أحداً، وستطال يد المحاسبة والعدالة أي وزير أو مسئول في حال ثبوت تورطه في قضايا الفساد، وهذه الرؤية لن نتراجع عنها).
وبتلك الرؤية سيمكن الحديث عن رفع مرتبة البحرين في مكافحة الفساد من المرتبة 36، وتحقيق أكثر من 5.7 نقطة كما كان في مؤشر مكافحة الفساد لعام 2006.
ووجود تلك المؤشرات الدولية هي بمثابة شهادة جودة "آيزو" للحكومات في مكافحتها للفساد، والذي يعتبر بمثابة الثقب الأسود الذي يسحب كل الميزات والثروات نحو نقطة واحدة، وهي نقطة المتمصلحين والمفسدين، والأسباب التي تدعو لردم ذلك الثقب الأمور التالية:
إساءة تخصيص الموارد، خفض مستويات الاستثمار، الحد من المنافسة والفعالية، زيادة الإنفاق الحكومي، خفض الإنتاجية وتثبيط هِمّة الإبداع، خفض مستويات النمو، المساهمة في تفاقم الفقر وعدم المساواة، تُقويض حكم القانون، زيادة عدم الاستقرار السياسي، المساهمة في رفع مستويات الجريمة العالية.(1)
مع ملاحظة كل تلك الأسباب سيكون الحديث عن معالجة الفساد أمراً يحتاج للكثير من الخطوات، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: الرغبة السياسية في القضاء على الفساد.
ثانياً: وضع استراتيجيات وآليات جادة لمحاربة الفساد.
ثالثاً: رفض المجتمع المدني للفساد كوسيلة للعيش.
وتلك كانت الوصفة السنغافورية للحد من الفساد بصورة ملحوظة، ولتكون في مصاف الدول في العالم في مكافحة الفساد، حيث أنشأت سنغافورة "مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد الذي تم إنشاؤه في 1952م.


ويمكن إيجاز دور المكتب في التالي:

- إتباع سياسات من شأنها مكافحة الفساد في الجهاز الإداري والقطاع الخاص.
- التحقيق في سوء استخدام السلطة من قبل المسئولين.
- إرسال التقارير إلي الجهات التي يتبعها المتهمون بممارسة الفساد.
- مراجعة منظومات العمل في الهيئات الحكومية المختلفة وإعادة هندستها بما يعمل على التقليل من ممارسات الفساد.
- تقديم مقترحات لمكافحة الفساد في الجهات المختلفة.
- عمل لقاءات مع المسئولين خاصة الذين يتعاملوا مع الجمهور للتأكيد على مبادئ الشرف والنزاهة ومكافحة وتجنب الفساد.
- التحقيق فيما يرد إلى المكتب من شكاوى تفيد وقوع ممارسات فساد في أي جهة.
- التحقيق في ممارسات الفساد التي قام بها مسئولين في الحكومة.(2)
وبعد العروج على التجربة السنغاقورية، يمكن الحديث عن طريقتين في التعامل مع الفساد، الأولى وهي استصدار القوانين لمكافحته، وهذا سيفضي لزيادة كبيرة في القوانين، والثانية سياسة فتح الأبواب والشفاية وحرية المعلومة، ويمكن تعزيز ذلك عن طريق إعطاء المحققين سلطات مراقبة ورصد للحكومة عن كثب لمنع الهدر، والاحتيال، وإساءة الاستخدام.
وعوداً إلى المدير العام الذي اتبع الأسلوب الثاني في معالجة الفساد المستشري في دائرته، وقد كانت له الإرادة في محاربته، حتى لدى أقرب المقربين لديه.


(1)ورقة قضايا الإصلاح الاقتصادي، العدد 0409، 22 أيلول/سبتمبر، 2004.
(٢) وزارة الدولة للتنمية الإدارية، جمهورية مصر العربية.

البسكويت أو الخبز؟!




البسكويت أو الخبز؟!
جعفر حمزة
عندما هاج الشعب الفرنسي أثناء الثورة الفرنسية وسار إلى القصر الملكي، خرجت الملكة "ماري إنطوانيت" إلى الشرفة، وقالت: لماذا هم غاضبون؟ ماذا يريدون؟، فأجابوها: يريدون أن يأكلوا ولا يجدوا خبزاً، فقالت: لماذا لا يأكلون البسكويت؟! ويبدو أنها لم تكن تدرك الوضع المعيشي فضلاً عن إنطلاق الثورة الشعبية الفرنسية، وهذه مشكلة، أو أنها كانت تدرك وكان جوابها "البسكويتي" هو إشاحة وجهها عن الواقع وبسط "نرجسيتها" في خطابها، وهذه مشكلة أكبر. تأخذ التغيرات السلبية السياسية والاجتماعية مساحتها "الثائرة" في المجتمعات البشرية، نتيجة غياب العدالة "المعيشية" وخلق "الطبقية" وتعزيزها عبر الكثير من الصور الاجتماعية، وبالتالي تآكل الطبقات المتوسطة واختلال الميزان الاجتماعي عبر "تضخم" في الطبقات الغنية و"تخمتها" و"نحافة" الطبقة الفقيرة، وبالتالي يحدث الإختلال والهزات الإجتماعية المتتالية، وذلك لإعادة المعادلة إلى وضعها الطبيعي الكوني. "ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني"(1) معادلة رياضية بديهية تقدم "الطرح" في الحقوق من خلال إستلاب "ألف باء" حقوق المواطن في السكن والعمل المناسب والأمان والتعبير عن الرأي، ليكون حاصل ذلك هو "الجمع" الذي تأكله طبقة تتمتع بيد طولى لا أول لها ولا آخر. ولا يُساهم في تثبيت عملية الإتزان الطبيعي في المجتمع السلطة الحاكمة فحسب، وإن كان لها النصيب الأكبر من الدور في وضع الاستراتيجيات والميزانية العامة ورفع المستوى المعيشي العام للمواطن، ومع ذلك يكون للقوى المجتمعية الأخرى دور في رفع العَوَز وتحويله إلى استثمار بشري، وذلك بلحاظ "الاقتراب" التي تتمتع به تلك القوى من القواعد الشعبية من جانب، وقدرتها على توجيه القدرة المالية لها من جانب آخر، وتلك ميزة تغيب في أكثر الأحيان ضمن الخطاب السياسي الجماهيري الحالي، ويتم تسليط كل الأضواء على السلطة، مع إغفال ترك "مصباح" واحد على الأقل يسلط الضوء على البيت الداخلي للقوى المجتمعية وقدرتها المالية والشعبية، لتحويل معادلة "الطرح" الدئمة على الطبقات الفقيرة إلى عملية "قسمة" تؤثر في الحساب العام للوطن. الإهتزازات المتتالية للقمة عيش المواطن، والمتمثلة من جانب السلطة في ثبات مستوى الرواتب وارتفاع مستوى الغلاء المعيشي، وغياب خطة النهوض بالمستوى المعيشي من جانب القوى المجتمعية السياسية المؤثرة من جانب آخر، مما يجعل المواطن يعيش في أزمة دائمة مع "الدينار والدرهم"، ولذلك تداعياته الاجتماعية والتربوية، وانعكاساته في مجال العطاء الوظيفي بصورة عامة، إذ يكون هم المواطن "تغذية" منشار الإلتزامات المالية، وبالتالي تغيب روحية العطاء والإبداع في المجمل العام، وما هو موجود أقل من الحد الأدنى بكثير. الهمّ الذي يعيشه المواطن رسمته العديد من الخطب الرسمية "البسكويتية" والتي تقدم مرئياتها "الوردية" بعيداً عن واقعية مستوى معيشة المواطن، من خلال إعلامه، خطبه، خططه في الجوانب المعيشية بمجملها، مما يرفع من المستوى المعيشي للمواطن "صورة" لا واقعاً، وعبر خطاب "مكانك سر" في كثير من الملفات الساخنة اليومية، من توظيف وكهرباء وماء واحترام صوته السياسي والأمني، وغيرها من خطابات "البسكويت" الموزعة، في حين يبحث المواطن عن "خبز" يأمل أن لا يرتفع سعره هو الآخر. وفي قبال ذلك تتوجه خطب العديد من القوى المجتمعية "النارية"، لتزيد على حرارة المواطن حرارة، بدلاً من أن تقدم له سنداً عملياً وحلاً واقعياً لا يتعارض مع تقديم رؤيتها وأجندتها السياسية. حيث يكون وقودها "حرارة الناس" من المستوى المعيشي، في حين يمكن موازنة الخطاب وتقديم خططاً عملية وذات مردود ملموس للمواطن، عبر استثمارات داخلية وتدوير القروض الذكية من خلال مؤسسات وشركات تديرها القوى المجتمعية. ومن خلال خطاب حكومي يبتعد عن "الوردية" وخطاب شعبي يبتعد عن "السوداوية"، من حق المواطن العيش بكرامة اقتصادية دون الإستخفاف به بـ"البسكويت" ولا استغلاله لحاجته للـ"الخبز". ومن الجدير بالذكر أن "ملكة البسكويت" كانت نهايتها مأساوية، فقد أعدمت الملكة "ماري أنطوانيت" عام 1793م. بعد أن اقتيدت بعربة مكشوفة دارت بها شوارع العاصمة باريس، ليرميها الناس بكل ما يقع تحت أيديهم، ثم قاموا بعد ذلك بقص شعرها الطويل ليضعوا رأسها في المقصلة وينفصل عن جسدها.


(1) نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (ع).

شباب البحرين والخيارات المقدسة وغيرها


دراسة علمية حديثة لشباب البحرين!

عمر نوح أو مال قارون هما السبيل لإيجاد مسكن يأويك..

جعفر حمزة
هي ليست حسبة "ضيزى" كما يقولون بل إنها عملية حسابية بسيطة ومؤثرة في نفس الوقت، ولا يريد الكثير منا تذكرها لا لشيء إلا أنها حاضرة على الدوام حتى في المنام (كوابيس بطبيعة الحال).

عملية رياضية لا نستخدم فيها الجذور التكعيبية ولا التربيعية فيها، كل ما نستخدمه العمليات الأساسية من جمع وطرح وقسمة لا غير..

لو كنّا عصافير أو قططا لأصبح الحساب مختلفاً وبسيطاً جداً، إلا أننا بشر ويلزم لكونك بشراً أن تتعقد كل العمليات المتعلقة بك من مأكل ومشرب و"مسكن"!
لنأخذها ببساطة على متوسط عمر الشباب البحريني المتخرج:
عمر الشاب المتخرج: 23 سنة.
متوسط سنوات الاستقرار في وظيفة ليبدأ التفكير الجاد في الزواج: سنة أو سنتين، والشباب "المتحمس" يلزمه أقل من ذلك بكثير.
ولدينا هنا خياران أولهما أن "يسكن" في بيت أبيه: وهو ما يقوم به الكثير من الشباب المتزوج نتيجة قلة الميزانية "للاستقرار" في شقة.
والسؤال إلى متى سيستمر في السكن مع "أهله"؟ خصوصا بعد إنجاب الأطفال..
والخيار الثاني أن يسكن في "شقة" مع دفع الأجار الذي يبلغ متوسطه الآن 100 دينار فقط! (تمت كتابة هذا المقال قبل ٣ سنوات، وأجارات الشقق في ازدياد).
وللشاب البحريني للحصول على سكن بعد "الزواج" طريقان، هما:
أولا: أن يتقدم للإسكان بطلب وحدة سكنية وهذا يلزمها انتظار سنوات تصل إلى 12 سنة تقريباً (يق،ل،ن ستتقلص الفترة لتصبح أقل من ذلك، ربما 11 عاماً و11 شهراً)، بعبارة أخرى سيصل عمره حين "استلام" "البيت" ما بين 35 سنة إلى 40 سنة!
وإن كان يسكن في شقة يدفع إيجارها الشهري 100 دينار، فهو قد قام بدفع مبلغ قدره 14400 دينار في انتظار الحصول على "الوحدة السكنية"، ليس مبلغاً كبيراً من أجل الانتظار!
ثانيا: أن يتقدم بطلب "قرض شراء" وأقصى حد لقرض الشراء هو 40.000 دينار حتى لو كان راتبك 1000 دينار!

وهذا المبلغ غير كافي لشراء بيت قديم، ويلزمك الانتظار بين 2 إلى 3 سنوات للحصول على ذلك القرض وخلال هذه الفترة ستزداد أسعار العقارات تباعاً، بمعنى آخر ليس هذا الخيار مناسب أبدا للشاب أن يفكر فيه.
ومع استبعاد كل الخيارات الأخرى غير الطبيعية منها وغير الطبيعية كالفوز بجائزة ضخمة، أو الفوز باليانصيب، أو العثور على كنز مدفون، بالإضافة إلى "واسطة" كبيرة "تشفع" له عن سنوات الانتظار بالإضافة إلى "مكرمات" تستحق الانتظار!
مع استبعادنا لكل هذه الاحتمالات والنظر بواقعية طبيعية إلى الأمور سيكون للشاب البحريني أمران لا ثالث لهما:
الأول: إما يسكن في بيت أبيه بانتظار "الفرج" في الحصول على وحدة سكنية حتى لو ضاقت عليهم الأرض بما أنجبوا من أطفال، وهم ليسو الوحيدين في البيت بالطبع وهو خيار لا يخلو من "عدم استقرار" يؤثر في التربية والاستقرار النفسي للعائلة الجديدة في بيت الوالد.
الثاني: دفع مبلغ وقدره 14400 دينار خلال فترة الانتظار، هذا إذا لم تزد نسبة الأجار، فضلاً عن أخذه "قرضاً" للبيت الجديد.
وقد يلزمنا عمر نبينا نوح للحصول على وحدة سكنية أو لنرى أحفادنا على الأقل، أو نسأل الله تعالى أن يرزقنا مال قارون لنشتري به سكنا لنا.

ويمكنك سؤال الباري أن يجعلك من تلك العوائل "المقدسة" التي تسير لهم الأمور كما يريدون مثلهم مثل نبي الله سليمان عليه السلام.

فإما أن تكون نوحاً أو سليماناً أو يكون لك مال قارون، فاختر ما شئت وأدعو ربك أن يرزقك "قبرا" تعيش فيه على هذه الأرض قبل أن تسكن قبرك الذي لا أجار عليه لحد الآن!
ويمكنك أن تسأل الله أن يُلهمك صبر أيوب عليه السلام


ولادة فأر-The Quiet Wagon



ولادة فأر
جعفر حمزة
جريدة التجارية الاسبوعية ٢١ نوفمبر ٢٠٠٧

كانت تلاحقني أينما ذهبت، في مكان العمل في المنزل في الشارع، كانت تريدني بإصرار غريب أن تُثيرني أو على الأقل أن أُلقي عليها نظرة، ولم يكن لي بدٌ سوى التسليم لها، فصعب عليّ أن أغضّ النظر في كل مكان أذهب إليه، وظفرت بنظرات منّى إلا أنها لم تُلفت إنتباهي.
هي تلك الإعلانات التي ضاقت الأرض والسماء بما رحبت، فليس هناك بقعة إلا تم وضع إعلان فيها ولئن وجدتَ مساحة يمكن الإعلان عليها، فانتظر أيام قليلة لترى أنها تحولت إلى مساحة لحجز الإعلانات، وهكذا يتم السبق على حجز مساحيتن، مساحة الأعلان في الخارج ومساحة تأثيره في الداخل للفرد، ولم أكن خارج تلك المساحة، فلقد همّتَ بي وهممتُ بها!

تلك المساحات المحجوزة على الدوام هي حصيلة التوسّع العمراني والإنفتاح الاقتصادي في البحرين والمنطقة، ولا أدل على ذلك هو حجم الإنفاق الإعلاني، حيث ذكر رئيس مجموعة ماركوم الخليج الإعلانية السيد "خميس المقلة" أن حجم الإنفاق الإعلاني الخليجي في عام ٢٠٠٧ وصل إلى ٥.٦ مليار دولار مقارنة بــ ٤.٥ مليار دولار عام ٢٠٠٦، وذلك بزيادة قدرها ٢٠٪. وأما حجم الإنفاق الإعلاني في البحرين فقد ارتفع بنهاية العام ٢٠٠٧ إلى ١٢٣ مليون دولار.

ويحضرني وأنا اشهد هذه الطفرة "المحجوزة" للإعلانات بالطفرة الاقتصادية والاجتماعية التي تبعت ظهور النفط، حيث بدأت العديد من الشركات في الظهور إلا أن القليل منها استمر والكثير منها تقزّم واندثر، ويبدو أن العملية تُعيد نفسها مع وجود ثورة اقتصادية في المنطقة والعالم، فهناك العديد من وكالات الإعلان وعدد لا يُحصى من الشركات التي تريد أن تحجز مساحة وتضع لها قدم في خضم هذا السوق المتلاطم من المنافسة، ووصلنا إلى وضع يريد الكل أن يبيع نفس المنتج وبنفس الطريقة، دون أن تكون هناك هويّة جاذبة للفرد ليعيش ويتفاعل مع الماركة، لقد أدى التسابق بين الشركات إلى حجز المساحات إلى توالد الأفكار المكررة "كليشيه".

فبالرغم من وجود هذا الكم الهائل من الإنفاق الإعلاني إلا أن مرحلة الإبداع في الإعلان لم تتضح ملامحها بعد، ونعتقد أنها مسألة طبيعية في هذه المرحلة شريطة أن لا تطول مدتها، فالتطور الاقتصادي يؤدي إلى مزاحمة في تقديم الصور (الإعلانات) عن الشركات نتيجة تسارع الوقت وقصر التجربة عن النظر إلى مستويات مختلفة من الإعلان في الخارج، ويبدو أن المسألة تعدّت عقد إتفاقيات ثنائية بين الشركات ووكالات الإعلان لتكون محل إعادة نظر في طبيعة العلاقة القائمة بين الجهتين ونتاج الصورة المقدمة للفرد.

"ليس من المهم ماذا تبيع، بل ماذا تشعر بأنك تريده، وهذا ما نحتاجه في إعلاناتنا، شيء من قبيل السحر والخيال. وهو ما جعل مخازننا معروفة بأنها "مسرح”، لأنهم إن لم يكونوا مهتمين ومتأثرين ، فكيف السبيل إلى دعوتهم لمخازننا؟"
هذا ما ذكره السيد "توماس لاندجرين" مدير ومبتكر شركة "ذا ون" للأثاث في معرض حديثه عن مستوى الإعلان في المنطقة والعالم.
وقد صدم مستمعيه أثناء إلقائه كلمته في ندوة "ميديا اند ماركتينج" بدبي عندما قال إن "صناعة الإعلان تحتضر" ، ولا نعتقد أن "
الأمر مبالغ فيه إذا عرفنا مقدار الجهد المتواضع جداً من الإبداع المدروس الذي يتم توظيفه في صناعة الإعلان بالمنطقة. فالإعلان هي معادلة تقدم من خلالها المنتج أو الخدمة أو الرسالة للفرد ليتفاعل معها، لتكون جزءً من حياته كرسالة وصيغة جمالية إبداعية، بدل أن تكون "ضيفة ثقيلة الظل" تلاحقك أينما كنت برسائلها التقليدية وبألوانها الفاترة وبأفكارها التي لا تقدم الشيء الجديد المبتكر، وتلك العناصر المفقودة في معادلة الإبداع وصناعة العلاقة بين الفرد والإعلان.
ومن الجدير بالذكر هنا هو أهمية فهم العمليات التي يتأثر بها الفرد في علاقته بالمؤثرات البصرية والسمعية للإعلان، وهي مجموعة مختصرة ففي كلمة
"AIDA”
والتي ترمز للتالي:

1. Attention لفت الإنتباه، عامل ضروري لضمان استمرار عملية التفاعل بين الفرد والإعلان.
2. Interest يجب أن تكون الرسالة الموجهة موضع إهتمام الفرد.
3. Desire تولّد الرغبة في الفرد لتلبيتها من خلال الإعلان.
4. Action البدء بالفعل من خلال شراء المنتج أو استعمال الخدمة أو التفاعل مع الرسالة الموجهة في الإعلان.


ونتيجة للتخمة المتزايدة في كمية الإعلان من جهة وتحركه خارج دائرة الإبداع التفاعلي المؤثر من جهة، يبقى السؤال عن حجم الإنفاق الحقيقي للإعلان المبدع، وذلك من أجل الوصول إلى إعلان يحترم البصر والفكر عبر تقديمه وصناعته لعلاقة يستشعر بها الفرد بعيداً عن ضوضاء الصورة المزدحمة التي تلاحقك أينما كنت كضيف ثقيل الظل
.
ونتمنّى أن لا يكون ذلك الإنفاق ونتيجته كحال المثل العربي القائل "تمخّض الجبل فولد فأراً".


The Quiet Wagon
By Jaffar Hamza

(translated into English by Ali Al Saeed)

Following me wherever I go, at the workplace, at home, out on the streets, as it wants me so bad, wants to provoke me, get a reaction from me, at least to throw a glance at it, just one glance, and I was helpless, I had to oblige. It was impossible to keep looking away, avoiding it, I couldn’t keep my eyes closed.

Those advertisements. Filling every inch of our world, every spot, every space. No matter where you turn your head. They are there staring right back at you. And if there was one empty space, it would be only a matter of minutes before it was branded with yet another advertisement.

The constantly book advertising spaces are a result of the ongoing architectural development and economic openness in Bahrain and the region. And that is reflected in the annual spenditure by companies and business on advertising which witnessed a significant increase over the past few months. According to chairman of Marcom Gulf Advertising, Ahmed Al Muqla, Gulf spenditure on advertising in 2007 has reached a total of US$5.7 billion, compared to just US$4.5 billion the previous year, representing an increase of 20%, while spenditure on advertising in Bahrain totaled US$123 million in 2007.

Similarities can be drawn at this stage between this era of advertising and the period when oil was first discovered in the region. As a result of that, many firms and companies sprung up, but few managed to survive and sustain themselves. I see this repeating itself now with this new economic revolution in the region and the world as there are many advertising agencies and even more companies fighting fiercely for those same advertising spaces, so much so that we have arrived at a point where everyone wants to sell the same product in the same fashion without having a unique identity with which the individual can interact and relate to. This fierce rivalry between companies can be blamed for many of the current “clichés” within the advertising industry.

But in spite of that enormous financial influx into the industry, the creative aspect of it has been lagging behind, perhaps even suffering from it. This, again, is natural considering the circumstance as well as the period of time, as long as it does not stretch any further. The economical progression is in effect having a direct impact in how these advertisements are presented, once again, due to the competitive nature of the advertising companies, always in a race against time to be the first to reach the top. So much so, that it is now essential to revaluate the working relationship between companies and their advertising agencies to ensure a better product.

"It's not important what you buy; it's what you feel you want. That's what we need in our advertising, something magical,” said founder of The One stores, Thomas Lundgren, “That's why our stores are known as ‘theatres', because we need to excite our own people because if they don't get excited how do we get the people to come to our stores?" He added.

Mr Lundgren was addressing the 2007 Media & Marketing forum in Dubai when he shocked all present with his controversial quote “Advertising is dying!” which is a valid argument seeing that the creative input employed by the advertising agency currently can only be described as humble at its best. Advertising is an equation that presents the product, brand or service in a way that interacts with the consumer to the point of it being an impartial creative message, and avoids being “the unwelcome guest at the party” so to speak.

It is noteworthy to mention at this time the importance of understanding the basic and fundamental elements that have a direct influence on the individual which are known simply as the AIDA Model, a term used to refer to the following:

ATTENTION: attract the attention of the customer.

INTEREST: Interest: raise customer interest by demonstrating features, advantages, and benefits.

DESIRE: Desire: convince customers that they want and desire the product or service and that it will satisfy their needs.

ACTION: Action: lead customers towards taking action and/or purchasing

The question regarding the size of spending into advertising remains, because without it being creative and innovative, the message at the end of the day will be lost and it will be no more than a loaded wagon that makes no noise.


مغناطيس الطائفية


مغناطيس الطائفية، وخيار التفتيت!
جعفر حمزة


"أنا شيعي، وأنت سني، ما الفرق؟"، يقدم سؤال "الفرق" هذا نتيجة طبيعية لتركيبة المجتمع، من خلال "فسيفسائه" المتوقع والمنطلق من معادلة كونية ثابتة لا تتغير، "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وبهذا النداء السماوي يفهم الإسلام معنى الإختلاف المتوقع والخاضع للفهم البشري الناقص، والتي تحركه وتُصيغه عوامل عدة، ويبقى المشترك في الحركة هو "الإقتراب" لا بمعنى الذوبان وهو ما لا يمكن تحقيقه، ولكن بمعنى "الإنفتاح" على الآخر في الفهم والسلوك والمفهوم "لتعارفوا"، ليكون المقياس في العمل هو الفيصل في الحكم "أتقاكم". فالمجتمع مكون من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد. ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. (1) وتمثل "الطائفة" أجلى صور "التجمع" و"الجذب" المستند على مشتركات دينية وفكرية وثقافية وسلوكية معينة، ولها طابع خاص يميزها عن بقية المدارس الفكرية الأخرى، وتكون بمثابة "المجتمعات المسيّجة" التي تخف أو تشتد عقبات الدخول إليها اعتماداً على "إنفتاحها" و"تقبلها" للآخر، لتكون أرقى مستويات الطائفة عندما تتحول إلى المفهوم القرآني "قل ادعو إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" أي بالمنطق وأسلوب التقديم. والطوائف أمر طبيعي لا بد منه، وهو ناتج عن اختلاف الفهم البشري للنصوص المقدسة السماوية، فبالرغم من "وحدوية" الرسالة المسيحية إلا أن وجود المذاهب المسيحية تعكس "النوافذ" التي تم فتحها لفهم المسيحية، والأمر سيان في الرسالة الإسلامية، فالنوافذ وصلت إلى 72 "ستفترق أمتي إلى 72 فرقة"، وأكبر نافذتين ماثلتين للعيان في العالم الإسلامي الآن، هي نافذتي الشيعة والسنة. فهل من اللازم "تكسير" نوافذ الآخرين، لتتم مشاهدة الإسلام عبر نافذتك فقط؟ أو هل من الضروري أن تفقأ إحدى عينيك لترى بعين واحدة وكفى؟! وجود الطائفية كواقع ممارس أمر لا بد منه ولا خوف منها، ما دامت تعكس التنوع والإختلاف الإنساني، وهي –أي الطائفية- بمثابة حقول مغناطيسية تجذب أتباعها كبرادة الحديد، ويزداد اتباعها كلما زادت قوتها الجاذبة، ووجود تلك الحقول المغناطيسية في المجتمع لا تشكل خطراً مادامت مساحتها تنحصر في الميدان الاجتماعي كممارسة ديمقراطية للشعائر والإنتماء الفكري، وينتقل التعامل مع "الطائفية" من خطاب "الواقع" الذي لا بد منه إلى خطاب "التصدي" لها والذي لا مناص للمجتمع أو الدولة إلا القيام بتلك الخطوة، في حال تداخل "الحقول المغناطيسية" واقترابها من بعضها البعض وخصوصاً إذا كان نمط الخطاب تنفيري، فإن النتيجة المتوقعة لتقريب قطبين سالبين أو موجبين هو "التنافر" لا محالة. ومن تلك المعادلة المتوقعة، دعا الإسلام إلى "الإنجذاب" إلى مغناطيس مشترك للابتعاد عن كل من شأنه أن يشوه الإسلام فهماً وسلوكاُ وفكراً من خلال "واعتصموا بحبل الله جميعاُ ولا تفرقوا". ولا تشكل الطائفية خطراً على المجتمع إلا إذا تحولت إلى أداة "إقصائية" للأطراف الأخرى في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث يتحول المجتمع حينئذ إلى "كانتونات" لا يمكنك دخولها إلا عبر "كلمة سر" و"صك غفران". ويذكر المفكر العربي "برهان غليون" بخصوص إسقاط الطائفية وغلبة مصلحة طائفة دون أخرى على السلطة "الدولة" بالقول: (استخدام الولاء الطائفي للإلتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون. وتحويل الدولة والسلطة العمومية من إطار لتوليد إرادة عامة ومصلحة كلية، إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة وجزئية. إنها تشكل ما يشبه الاختطاف للسلطة السياسية التي هي أداة تكوين العمومية لأهداف خصوصية. إن الطائفية تنشأ عندما تنقل إحدى هذه الجماعات هذا التضامن والتكافل إلى مستوى الدولة).(2) وبعبارة أخرى يتم دق ناقوس الخطر عندما يتم إنتقال مغناطيس الطائفية في المجتمع ومكانه أمر طبيعي إلى ساحة الدولة ومؤسساتها، حيث تتحول الطائفية حينئذ إلى أداة جذب كبيرة لمنتسبيها، وخصوصاً مع وجود أدوات قوة ومتمكنة من خلال وجودها في تلك المؤسسات؛ وبالتالي تكون النتيجة سقوط عناوبن المساواة والعدالة والكفاءة والموضوعية والمنافسة النزيهة، لتتحول الدولة إلى مركز سلطة ذات لون واحد لا أكثر. وبالتالي ينحرف مفهوم الدولة بذلك عن كونها سلطة عامة تضمن وحدة نسيج المجتمع باختلاف طبقاته وطوائفه، إلى "شركة خاصة" تضمن المصالح الخاصة والمنافع لفئة دون أخرى، وبالتالي تعزيز الجذب الطائفي السلبي، حيث يميل كل فرد وبشدة إلى طائفته للاستناد عليها "للاستقواء" على وضع التمييز ضدها. فهل ستبقى مغناطيس الطائفية الطبيعية في المجتمع، أم تتعاظم وتتكاثر في مراكز السلطة السياسية والاقتصادية في البلد لفئة دون أخرى ليتنوع الخطاب "المنفر" ونصل إلى مرحلة تكسير الحقول المغناطيسية التي تنتهي إلى "برادة حديد" متناثرة دون هوية؟


(1) برها ن غليون، مجلة الآداب البيروتية كانون الثاني 07

النبيان موسى ويوسف في شركة "دريم ووركس"







قراءة في الرسوم الدينية
النبيان موسى ويوسف في شركة "دريم ووركس"


جعفر حمزة

" ما زالت التقنية الحديثة في الإنتاج الكرتوني للأفلام تقدم أكثر من مجرد صورة، فهي تحاكي المشاعر وتنسج الأحلام، بل وتصيغ التاريخ وتعرضه من جديد". لم يكن الحديث فضلاً عن التنويه بالحقائق التاريخية الدينية في تاريخ السينما الأمريكية بالخصوص بأمر يمكن الدخول فيه بسهولة، فمن خلال أشواط متعددة في "الجرأة الدينية السينمائية" في الطرح مثلّت بيئة خصبة لكسر "الطوق الديني" الذي كان منسوجاً من قبل التزام كان جزء من البيئة الأمريكية في فترة من الزمن. واستعراض التاريخ الديني كان كلاسيكياً في كثير من الأحيان عبر السرد المستند على الكتب المقدسة أو الروايات الدينية، وفي قليل من الأحيان كان إبداعياً في طرح الصورة والفكرة، إلا ن القاعدة المشتركة لكل تلك الأفلام هو عرض المقدس من خلال دور السينما، وانتقلت مرحلة الأفلام الدينية لتدخل عصراً جديداً لم يكن معهوداً من قبل لا من ناحية التقنية ولا من ناحية السرد القصصي المحكم، والذي دخل إلى عالم الأطفال وتعداه إلى الكبار من خلال أفلام "الأنيميشن"، فهل هي مرحلة جديدة ترسم ملامحها بعض شركات الإنتاج السينمائي العملاقة لتكون "الأب الروحي" لصناعة جديدة من التاريخ والدين عبر الصورة الكرتونية؟ "أعمال الأحلام" هي الأيقونة التي بدأت في تأسيس فعلي لمفردات السينما الدينية الكرتونية - إن صح التعبير-، فشركة "دريم ووركس" التي تأسست في عام 1994 بتعاون كل من المخرج الشهير "ستيفين سبيلبيرغ"، "جيفري كاتزينبيرغ" و"ديفيد كيفن"، تعدت عملها كشركة لتصنيع الأفلام ومنها أفلام "الأنيميشن" لتكون منتجة لأفلام التلفزيون، والشبكات التلفزيونية في أمريكا، بالإضافة إلى الفيديو المنزلية الترفيهية.
"أمير مصر" بين الحقائق التاريخية والميول الدينية:
رسمت شركة"دريم ووركس" منهجها الكرتوني في المساحة الدينية من خلال إنتاج أول فيلم ديني كارتوني يتمتع بقوة إبداعية تأخذ بالأبصار نتيجة التركيبة الممتازة والاستخدام الأمثل للون والإضاءة والصوت والسيناريو، حيث يُعتبر فيلم "أمير مصر –برينس أوف إيجيبت " وهو من إنتاج سنة 1998م تُحفة فنية تأخذ ببصرك وسمعك وكل أحاسيسك بغض النظر بكل ما تعتقد حول نبي الله موسى (عليه السلام)، حيث أن ما تشاهده هي الصورة التي امتلكت القوة لتكون حاضرة بين يديك، والقصة مُصاغة بطريقة ممتازة وحبكة أحداث لا تستطيع أن تدير وجهك عنها حتى تُنهي الفيلم بأكمله (مدة الفيلم 93 دقيقة)، ونحن شخصياً شاهدناه أكثر من خمس إلى ست مرات لما فيه من إبداع لا يسعك إلا النظر إليه، وهناك الكثير مما ورد في القرآن الكريم فيما يخص المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد نبيه موسى (عليه السلام) من الضفادع والقمل والدم والجراد والجفاف فضلاً عن انقلاب العصا إلى ثعبان عظيم وانشقاق البحر وهو أقوى المشاهد التي يقف معها شعر الإنسان. (تحكي قصة فيلم "أمير مصر" على إظهار سيدنا موسى كداعية للحرية لشعب بني إسرائيل ضد استغلال واضطهاد المصريين القدماء الذين هم "نازيو القرون الماضية"!. والفيلم يبدو في مظهره بريئًا، ولكنه مخادع أشد الخداع، بما يبثه في وعي المشاهد، من خلال الإبهار البصري اللوني والضوئي والسمعي الموسيقي والمرئي والحوار من خلال التشكيل الفني للحركة، واستخدام الشخصيات الكرتونية التي تضفي البراءة على الشخصيات الإسرائيلية، واستخدام الخطوط الحادة المقوَّسة، التي تبرز ملامح القسوة والعنف على الشخصيات المصرية!)، وهذه المقولة تعني بعبارة اخرى تزوير لحقائق تاريخية قدمها الفيلم بدون أدنى دليل، يقول الأستاذ عبد الحليم نور الدين الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار وعميد كلية الآثار جامعة القاهرة فرع الفيوم في كتابه "آثار وحضارة مصر القديمة": ( أن السينما الأمريكية قد اسهمت بدور كبير في الافتراء على التاريخ المصري ضارباً المثل بالفيلم الذي دعمه "ستيفن سبيلبيرغ" (أمير مصر). ويقول نور الدين: ( إن كل من شاهد الفيلم الكرتوني "أمير من مصر" للمخرجين برندا شابمان، ستيف هكنر وسيمون ويلس، يعتقد أن المصريين كانوا يدبرون مؤامرة لبني إسرائيل، حيث حرص الفيلم على تصوير جداريات وهمية تسجل قتل أبناء اليهود، وهذا افتراء واضح فلا توجد لوحة أو بردية أو رسم يشير إلى ذلك إلا في خيال المخرج".
"ستيفن سبيلبيرغ" رسول يحمل الكاميرا
( وُلد ابني يحمل الكاميرا بيد والتوراة باليد الأخرى) تلك مقولة منسوبة لوالدة المخرج الأمريكي الشهير "ستيفن سبيلبيرغ" وهو أشهر من نار على علم، حيث أُشتهر بأفلامه الضخمة المتنوعة والإنسانية، منها فيلم "الفك المفترس" و "الحديقة الجوراسية" و"التيرمنال" وآخر أفلامه هي "حرب العالم"، ما يضع الكثير من علامات الاستفهام التي تتبدد عندما نقترب من الرؤية السينمائية الخاصة لهذا المخرج حول بعض القضايا الحساسة، ومنها القضية الصهيونية، وتعاطفه الملموس مع مدعيات المحرقة النازية لليهود، وذلك عبر إخراجه لفيلم "قائمة شليندر" التي تدور أحداث الفيلم حول تلك المدعيات، وترسم هذه التوجهات الرؤية العامة التي تنسج الحركة المميزة لسلوكه السينمائي في الإخراج. كان "سبيلبيرغ" من المؤسسين الأوائل لشركة "دريم ووركس" التي انتهجت سلوكاً تقنياً ميّزها عن غيرها، فهي من الشركات التي عملت وطورت تقنية (كمبيوتر جينيريتد- سي جي)، ويبدو أن ثنائية التقنية الحديثة والإبداع الإخراجي كانتا الذراعين التي مكنتا "سبيلبيرغ" في تقديم "رؤيته التوراتية" الخاصة بأسلوب "الأنيميشن" الذي لم توظفه بقية شركات الإنتاج الأمريكية كمثل الذي عملته "دريم ووركس". ويبدو أن المقولة المنسوبة إلى والدة المخرج لن تكن اعتباطاً او لغواً، حيث تثبت تجربة هذا المخرج المخضرم صحة الرأي القائل بأن "سبيلبيرغ" ما كان إلا رسولاً يحمل كاميرته بين يديه، في إشارة إلى التوجه الفكري الديني في بعض أفلامه، فهل تتكرر نسخ "سبيلبيرغ" عبر الرسوم المتحركة كمنفذ أولي لسبيل بات خصباً لتقديم الحقائق التاريخية أو تحريفها!
يوسف ملك الأحلام!
إحدى الروائع التاريخية الدينية التي أنتجتها شركة "دريم ووركس"، تحكي قصة الفيلم الكارتوني قصة صبي امتلك موهبة رؤية المستقبل في منامه، وبسبب تفضيل والده له دون أحد عشر أخاً مما كان سبباً لأخوته بأن يتخلصوا منه ويدعوا بأن الذئب قد أكله، وتتوالى الأحداث لتوصل يوسف إلى مُلك مصر بعد أن قام بتأويل ما رآه الملك في منامه، وأنقذ شعب مصر من المجاعة.
يتميز الفيلم بالبراعة اللونية في الإخراج، والتركيب المكاني الجميل بالإضافة إلى الاستعانة بالغناء كعنصر جذاب للأطفال، يقول المحلل السينمائي "ستيفين د.جريدانيوس" بشأن المقارنة بين فيلمي "أمير مصر" و" يوسف، ملك الأحلام"، بأن فيلم "أمير مصر" أكثر من مجرد فيلم كارتوني للأطفال، بل أنه يخاطب الكبار أيضاً، سواء من ناحية الشخصيات أو السرد القصصي.
الكتاب المقدس بعيون كرتونية
بالرغم من انقطاع التواصل الديني الكرتوني بعد تجربتي "أمير مصر" 1998 و "يوسف، ملك الأحلام" 2000، فإن تسليط الضوء على ما هو شرقي لم ينقطع من خلال إنتاج أفلام تتناول التاريخ العربي "سندباد" 2003، ونعتقد أن الحصيلة الدينية بصورة كرتونية ستكون على موعد معنا في قصص قد تلامس الخطوط الحمر لبعض الأديان والتاريخ لبعض لشعوب التي لم تسلم من تزوير تاريخها من قبل "هوليوود" فلا أقل من المساس بذلك التاريخ وإن كان دينياً بصورة كرتونية.

فراشة «شريعتي» النبيهة..



فراشة «شريعتي» النبيهة..
جعفر حمزة:
ست سنوات ‘’سِمان’’ كان بمقدروها أن تفكك جزءاً لا بأس به من الرموز ‘’المقدسة’’ التي تشربتها وترعرعت عليها ‘’فكراً’’ و’’سلوكاً’’ في مجتمع ديني محافظ، ست سنوات كانت مفاتيح ‘’شريعتي’’ تتوالى عليّ تباعاً لأفتح باباً تلو باب، وهي ليست أبواب عجائب لـ’’أليس في بلاد العجائب’’، ولا أبواب ضياع وتشتت لـ’’نيو’’ في المصفوفة ‘’The Matrix’’، بل أبواب لفك الشيفرات ‘’المُبهمة’’، والتي يصعب الوصول إليها من مداخل طبيعية. فتح هذه الأبواب يتيح لي أن أقرأ ما يحيط بي قراءة بسيطة لا تعقيد فيها ولا ‘’تهويل’’، قراءة ‘’اقرأ’’ فقط. من ‘’سِمان’’ تلك السنوات بدأت قصتي مع شريعتي.
بين خيار اللمس والفتح!
كانت البداية في الفصول الأولى من دخولي جامعة البحرين، حيث العالم الجديد والمهمة الصعبة. كان السيناريو الطبيعي بالنسبة لي كطالب جامعي، هو التحصيل الأكاديمي فقط، لم يخطر ببالي أن الأنشطة الدينية والاجتماعية التي تمرنت عليها في قريتي المالكية، ستدخل معي إلى الجامعة، تلك التي يحك جلدها حساسية دائماً لدى سماعها ‘’أنشطة طلابية’’ خارجة عن فلك قبلتها ‘’الروتينية’’ التي لا شريك لها.
لم يلقَ السيناريو الذي وضعته بداية، صدىً في نفسي، إذ كان المخرج هو غيري ‘’عرفت الله بفسخ العزائم’’ .( ثمة كتيب خجول استلمته من صديقي ‘’علي شمس’’، كان بداية لتبدل الحوار والأدوار ومواقع التصوير، في سيناريو الطالب الجامعي عندي.
تغيير عقلية طلاب الجامعة، كانت المقدمة التي أعارني بها ‘’علي شمس’’ ذلك الكتيب. لم أدرك حينها أن الوريقات الصغيرة التي يضمها عنوان ملفت ‘’النباهة والاستحمار’’ كان المفتاح الأول للبحث عن المفاتيح الأخرى، للغوص عميقاً في الإنسان، والإنسان الشيعي بالخصوص لما لديه من قدرات فكرية غنية تحتاج تفعيلها بصورة أكبر.
ففي كل معتقد سواء كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو خاطئاً معتقدات وأفكار تضعك في حجرة قد تكون واسعة وقد تكون ضيقة، إلا أن المشترك بينهما هي أن الحجرة لديها أكثر من باب وعلى كل باب ‘’معتقد’’ أو ‘’مقدس’’ أو ‘’ثقافة’’ أو ‘’عُرف’’، ولا يمكنك سوى العيش داخل تلك الحجرة بوجود أبواب لا مفاتيح لها، ما عليك إلا العيش داخلها وكفى.
تلك كانت العقلية ‘’الجامدة’’ لدى الأمم، والتي أرسل لها الله أنبياءه ليخرجوهم من تلك الحجرة إلى فضاء أوسع ‘’ليخرجهم من الظلمات إلى النور’’.
كان الأنبياء وأوصياؤهم يرشدون الناس إلى المفاتيح الصحيحة ليخرجوهم من عتمة المكان الواحد، إلى ضياء الفضاء. أي ضياء ما وراء الأبواب المغلقة.
وتأتي مهمة ناقصي الفهم والمندسين وحكام السلاطين والمثاقلين إلى الأرض ليعطلو عمل تلك المفاتيح من خلال ‘’التلاعب’’ في شفراتها في حياة الأنبياء وبعدها.
لقد كان ‘’النباهة والاستحمار’’ المفتاح الأول الذي لم أدرك معناه جيداً، إلا أنه أشعل فيّ البحث عن المفاتيح الأخرى، فكانت بداية التغيير. لم يكن التغيير في أحلام اليقظة أو عبر أفكار ترسمها الكلمات أو عبر مقال هنا أو خاطرة هناك. بل عملت هذه البداية مع الصديق ‘’علي شمس’’، على غرس أرضية للتغيير انطلاقاً من العمل داخل الجمعيات الطلابية في الجامعة. فكانت صولاتنا عبر شتى القنوات التي استمرت حتى بعد تخرج ‘’علي’’ من الجامعة، فما دام المفتاح معك، فليس من الهم أن يكون معك ألف شخص أو بمفردك، لأن الهدف هو فتح الباب.
عرفتُ كتب’’علي شريعتي’’ من ‘’علي’’، وعرفت ‘’شريعتي’’ من زوايا الضعف التي انتابتني، وعرفته من خلال سلوكيات اجتماعية وعرفية دفعتني أكثر لأعرف من هو ‘’شريعتي’’، الذي زجرني أحد الاخوة في بدايات قرائتي لكتبه، باعتبارها كتب ‘’ضلال’’، ولم أدرك ما وراء الكلمة من دوافع ومبررات، وقد يرددها البعض إلى حد الآن، فلا أدري إن كان الفكر الذي يزيح الطبقات العرفية للدين، ويجعلك تنظر له بلا حواشي ‘’التبرك البارد’’، وبلا صور ‘’المقدسات الساكنة’’ (كصور لا فكر)، لا أدري هل هو ‘’ضلال’’ لأنه يقدم لك الدين من دون ‘’المكسرات المُحلاة’’ الاجتماعية و’’المقبلات الحامضة’’ العرفية، و’’المياه الغازية’’ السلوكية؟!
لقد كنتُ بين خياري الفاجعة والفلاح(1)، فاجعة البقاء داخل الأبواب الموصدة والتقديس والتمجيد لكل باب من دون فتحه أو حتى طرقه، وبين فلاح البحث عن المفاتيح وفتح كل باب باسم الله والتوكل عليه لمعرفته، ‘’أول الدين معرفته’’.
وهي ‘’مسؤولية المثقف’’ التي كنت أضعها في السيارة لزمن(2). يتضاعف شعورك بالمسؤولية ويتحتم عليك الإقدام حتى لو كنت بين فكي الاستهزاء العرفي والاقتراب النَسَبي، كالنبي نوح (عليه السلام)، فبين استهزاء قومه واقتراب ابنه نَسَباَ، رغم السنين الطوال التي قضاها داعياً صباحاً مساءً، خرج ‘’راكباً’’ سفينة المسؤولية المطلقة التي أبعدته تحت نظر الإله عن كل تلك الهموم والتحديات لتبدأ قصة جديدة وحياة جديدة. المثقف أيضاً محصور بين غضبين، غضب العُرف الذي يتصور أن القيام بفتح تلك الأبواب يُسقط قدسية الصورة المعلقة عليها، وبالتالي تنهار ‘’المرجعية الفكرية المقدسة’’، وبين غضب السلطة التي تسمح لك بالحديث عن كل شيء من الله إلى الذرة، ما عدا الحديث تصريحاً أو تلميحاً عن ‘’ألوهيتها’’، فهي لا تُسأل عما تفعل وتسأل عما نفعل، وهي ضد فتح الأبواب أيضاً، فما وراءها قوة لا تستطيع التعامل معها، هل رأيت كيف يجتمع الغضبان، ونتصور أنهما نقيضان؟؟
الفراشة والعثة
كان ذلك تحليقاً بين يدي كتاب ‘’الإنسان والإسلام’’، عبر كتاب ‘’مسؤولية المثقف’’، الذي يرفع يده بـ’’الدعاء’’ ليعرف كيف يكون مثل ‘’الحُر’’، الذي نطق عملاً بأن ‘’التشيع مسؤولية’’، ولكي لا نضع ‘’الإمام علي في محنه الثلاث’’ من جديد(3).
قد تختلط على المرء الكثير من الأمور والتي يدخلها المقدس أو يتم إقحامه إقحاماً للتقريب من هذا أو الابتعاد عن ذاك، ويبقى السؤال كيف السبيل لفك شفرة الإنسانية المطلقة والتي يمثلها الإسلام بأجلى صوره. هذا ما قدّمه كتاب ‘’التشيع العلوي’’ بأسلوب عملي، يملأ الفراغات العملية والروحية، التي يستمدها من روح الإسلام المحمدي الأصيل(4)؟
هل اختلط عليك يوماً الفرق بين الفراشة والعثّة؟ كل منهما له خصائصه التي ‘’تميزه’’ وبالتالي لا مجال للخلط. الأمر سيان في مسألة الخشية من ‘’الخلط’’ بين المقدس الجامد القاتل والمقدس المحرك الفاعل. الفراشة تتحرك نحو الأزهار وتمتص رحيقها، فضلاً عن أنها تستمر في ذلك مرفرفة ناشرة جناحيها لوناً وشكلاً وشاعرية، في حين ‘’تندفع’’ العثة بـ’’جنون’’ نحو ضوء المصباح ‘’النور المطلق’’ لها، و’’تتدافع’’ ويضرب بعضها بعضاً لتسقط في النهاية ميتة بالقرب من ‘’معشوقها’’ القاتل. قد يكون ذلك ‘’مبلغ سعادتها’’ ولا يهمها ما نحلل ونكتب عنها.
شريعتي يحاول أن يجعل من المسلم فراشة لا عثة. فراشة تمتحن رحيق النص، لا عثة يحرقها ضوؤه.
لقد حاول شريعتي عبر كتبه أن يقدم للقارئ مسيرة الفراشة التي ‘’تنتقي’’ الزهرة المناسبة، بدلاً من ‘’اندفاع’’ العثّة نحو ‘’ضوء’’ حتفها المحتوم.
مسبّق العثة وفضاء الفراشة
اقترابي وبعض الاخوة في قريتي من المساحات ‘’المحظورة’’، والمتمثلة في مساءلة بعض العادات والأعراف المتسمة بالدين لباساً، تلك التي لا ينبغي السؤال عنها، فضلاً عن ماهيتها، لم يكن مرحباً به. وأنّى يكون لتلك ‘’الجرأة’’ المتسائلة من ترحيب، وهي الدخول في ‘’المحرم’’، ويكفي من كل ذلك أنه ‘’هذا ما وجدنا عليه آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون’’.
الكثيرون اعتبروها ‘’مراهقة فكرية’’، وكأن تلك المراهقة مرض أو نقص طبيعي، أو بعبارة أخرى ‘’جنون شبابي’’ ولا يمكن أن يُعار أهمية. لكنهم لم يدركوا أن ذلك الجنون الشبابي، هو أصل البحث عن الله والدين. ألم يكن حديث الأنبياء مع قومهم عبر تقديم الأسئلة البديهية من دون ‘’مقدسات’’ مسبقة من الطرفين، ‘’وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين’’؟
قدّم شريعتي من خلال ‘’بديهياته’’ المتمثلة في كتبه ‘’ألف باء’’ معنى الإنسان والإسلام، ودخل في زوايا الكثير من ‘’المقدسات’’ ليستخرج منها حركة تغييرية بدل تلك الزوائد العرفية (لا المعرفية) التي تحولت إلى دين جديد.
ينزعج شريعتي كثيراً من المسبقات الذهنية التي تحول بين الكثيرين، أن يكونوا فراشة تمتص رحيق الأزهار. يتحدث عن شعبه الإيراني قائلاً (ليته لم تكن هناك صورة مسبقة عن الحسين، عن محمد، عن القرآن، عن الإسلام، وأن شعبنا لم يكن له أي تصور ذهني عن الدين، عن الأدب الفارسي، عن التصوف والعرفان، والتاريخ، عن الفلاسفة والحكماء، وعن فنوننا؛ حتى نتكمن - أنا وأمثالي- المثقفين في هذا العصر، من أن نعرّف جيلنا بهؤلاء الأناس الجدد، الإمام الحسين، أبي ذر، ... لا أدري ... ملا صدرا المفكر العظيم، الإمام محمد الغزالي، وفي مثل هذه الصورة فلن يحدث تداع في الذهن للصورة الخرافية الموهومة المنحطة، وعندها فإن الأذهان ستصغي إلى الكلام بصورة منطقية، من دون أن تكون هنالك سابقة ذهنية منحرفة ومنحطة.)
مفهوم شريعتي للمسبق الذهني الذي يحول بين الإنسان وانفتاحه على الأفكار الأخرى والمعتقدات، نسج لي ‘’سجادة’’ بحياكة إيرانية متقنة وبروح إنسانية مطلقة، لأكون في لوحة الله التي خلقها من دون خَلقِ خَلقِه، فبسطت جناحيّ كفراشة تبحث عن رحيق من زهرة إلى أخرى، دون السؤال عن نسب هذه الزهرة ودين تلك!. وإلا لن تعيش الفراشة وستكون علاقتها بالزهرة ‘’مؤدلجة’’ بوجود ذهنية مسبقة، ما حاول ‘’شريعتي’’ تقديمه للناس وكان له كبير الأثر في قراءاتي وتفكيري، هي محاولة إعادة الفراشة إلى طبيعتها، وكانت دعوة الأنبياء لقومهم بالرجوع إلى فطرتهم ‘’صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة’’، أصبحت أفكار العالمين زهوراً وأصبح تحليق الفراشة مفتوحاً، لم ‘’تكره’’ الفراشة أو ‘’تحقد’’ على هذه الزهرة أو تلك، فهي تأخذ الرحيق أينما حلّت، بعكس ‘’العثّة’’ التي ‘’احترقت’’ بضيق رؤيتها، وماتت تحت ظل أو ضوء معتقدها الذي لامجال للحوار أو النقاش فيه، فالمصباح هو الحب المطلق لا سواه، وما عداه سراب.
لقد تمثلّت الفراشة في نمط القراءة التي اتبعه، عبر النافذة التي فتحها لي شريعتي، فكانت لي الزهور ورحيقها، عوضاً عن المصابيح وحرقة ضوئها.
من الصعب أن تفكك الفكر وتعيد بناء مفرداته الأولى عبر قناعة جديدة، إذا كان الفكر مبنياً منذ سنين وبنت عليه أمور أخرى أيضاً.
ما يقدمه شريعتي - مع اختلاف الكثيرين معه - هو محاولة التفكير الأولي للكثير من العناوين التي يرفعها المجتمع إيماناً وممارسة، وبالتالي وجود فرصة لإعادة التفكير يحرك المواقع الجامدة في المجتمع لتتم الاستفادة القصوى من تلك العناوين الموضوعة في ‘’ثلاجة’’ الُعرف تارة والفهم الناقص للدين تارة أخرى.
جرأة أبي ذر وخشبة الخزاعي
لم يكن قول البعض لي أو ‘’نصيحتهم’’ بالتقليل من قراءة شريعتي آتية من فراغ، فشريعتي عاصر فترة حبلى بالتغيرات السياسية والإيدلوجية، عبر تزاحم الكثير من الأفكار التي أرادت أن تثبت نفسها وتستقوي باتباعها، فمن الشيوعية إلى الماركسية، وردود الفعل التي حاولت أن تثبت أنها البديل الأمثل عبر القومية تارة والإسلامية تارة أخرى.
وكانت تلك الأمواج المتلاطمة تحجب رؤية الشاطئ بكامله، مما جعل ‘’التدافع’’ في الأفكار أمراً واقعاً لا بين خط المتدينين بالمعنى العام وخط المبتعدين والمقدمين لمنهج آخر غير الدين، بل كان الصراع بين اتباع كل خط على حدة، وبالتالي كانت الصورة المتوقعة نوعاً ما هو تجاذب بين شريعتي والمفكرين الإسلاميين الآخرين، إلا أن ما يتفق عليه الكثيرون أن شريعتي كان كأبي ذر، لم يتوانَ عن فضح مكائد النظام الشاهنشاهي ومقارعته، ليكون ‘’مشرداً’’ من مدينة إلى أخرى ومن جامعة إلى مدرسة، ومن دولة إلى أخرى، لينتهي به المطاف مسموماً بمسكنه في لندن.
كان لسان حاله مثل الشاعر دعبل الخزاعي، حين قال : (أنا أحمل خشبتي على ظهري منذ خمسين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها).
لقد حمل كلمته ‘’الخشبة’’ عبر مؤلفاته ومحاضراته التي اجتذبت آلافاً من الطلبة المتعطشين لنور الإسلام الحركي، الإسلام الذي يبتعد عن تقديسيين، تقديس السلطة وتقديس رجال الدين، فكان نصيبه من الأولى الملاحقة والسجن والقتل، ونصيبه من الثانية التشويه والاتهام بالزندقة.
كانت جرأته كأبي ذر، بسيطاً مباشراً وقوياً وسلساً، وكانت تلك كلماته ‘’كتبه’’ التي جذبت الكثير من الشباب وأنا واحد منهم، يريد أن نفتح صندوق الإسلام ونستخرج كنوزه بدلاً من التغزل ودراسة شكل الصندوق وزخرفته.
لا ينكر أحد دوره في تثقيف الشباب الإيراني خصوصاً أيام الشاه، ليبقى معلماً وطبيباً يدور بطبه بين الناس، يقول الإمام الخميني في حقه : ( لقد أثارت أفكار شريعتي -الشهيد- الخلاف والجدل أحياناً بين العلماء لكنه في الوقت نفسه لعب دوراً كبيراً في هداية الشباب والمتعلمين إلى الإسلام).
ويبين السيد محمود الطالقاني ‘’الحمض النووي’’ الذي اعتمد عليه شريعتي بالقول: (أرجو منكم أن تدرسوا مؤلفاته وأفكاره وأن تطوروا موضوعاتها. ناضلوا وسيروا على الدرب الذي انتهجه شريعتي من أجل تشخيص ومعرفة الإسلام الذي نريد، إسلام الثورة الإجتماعية، لا إسلام تقليدي وذاتي.. فهذا ما كنا ننتمي إليه دوما دون جدوى).
مازالت كتب ‘’الشهيد’’ بانتظاري لقراءتها لتحصيل مفاتيح الأبواب الأخرى، وما زال فكره كالفراشة حتى وإن كان عمرها قصيراً، فاسمها لا يُمحى من اللغة!.

الهوامش
(1) مقتبس من كتاب شريعتي’’الحر، إنسان بين خيار الفاجعة والفلاح’’.
(2) أقصد وضعي لكتاب شريعتي ‘’مسؤولية المثقف’’ في سيارتي لفترة.
(3) الأسماء بين علامتي تنصيص هي بعض كتب الدكتور شريعتي، والتي قرأها الكاتب.
(4) هناك إسلام أموي وعباسي وعثماني وصفوي.
(5) نسبة إلى كونها أولية غير مركبة.

كانتونات إلكترونية


:: التقنية كإيديولوجيا، أم الإيديولوجيا كتقنية؟
الجمعة, 15 يونيو, 2007

دخلت الآلة التقنية (الكمبيوتر والانترنت) المجتمع البحريني منذ العقد التسعيني. سبقت المؤسسات الأهلية المؤسسات الرسمية في استخدامها. تلقفها الشباب ونشط فيها الصبية الصغار قبل أن تدخل بوابات المدارس الحكومية. برعت الجهات الشعبية في استخدامها بشكل فاق الجهات الرسمية وتجاوزها. على خلاف المتوقع، كانت القرى سباقة على المدن في استخدام الانترنت. ساعدها على ذلك تلاصق البيوت وسهولة وصلها بشبكة واحدة لتوفير كلفتها. "في كرانة شيئان من المدينة: حب التقنية الجديدة، واهتمام غير عادي بكلّ ما هو جديد في مجال التواصل. فلما جاء الكمبيوتر الشخصي، وخدمات الانترنت تحوّلت القرية إلى شبكة عنكبوت لا يعرف أحد كيفية تداخلك أسلاك هذه الشبكة. أربعون بيتاً تديرها شبكة إلكترونية واحدة. صارت الشبكات الآن تضم بيوتاً أكثر لكنها من دون أسلاك". [1]

نشطت الحركة الالكترونية في نهاية التسعينات، وصارت جهازاً إعلامياً شعبياً ينافس الجهاز الرسمي، كلما نشط الجهاز الاعلامي الرسمي في ممارسة لعبة الخفاء، نشط الجهاز الشعبي (التقني) في ممارسة لعبة الفضح والكشف. وكلما أظهر الجهاز الاعلامي الرسمي صورة معينة للواقع البحريني، تفنن الجهاز التقني الشعبي في إظهار الوجه الآخر من الصورة إن لم يكن أظهار عكسها تماماً.

مع الانفراج السياسي في البحرين عام 2001، برز عدداً من المجموعات الحوارية، والمنتديات الالكترونية، ثم المواقع الخاصة بالجمعيات الدينية والسياسية التي بدأت في التشكل. قرى البحرين شهدت ثورة فيما يعرف بالملتقيات والمنتديات الخاصة، صار لكل قرية ملتقاها الخاص: ملتقى كرانة، ملتقى جد الحاج، منتدى الدير، منتدى شبكة دار جليب، منتدى النويدرات، منتديات المالكية، منتدى قرية شهركان، منتدى قرية أبو قوة، منتدى قرية بوري، ملتقى عراد الثقافي، منتديات جرداب، منتديات السنابس..الخ. الملتقى وسيلة القرية للتواصل الداخلي "في القرى البحرينية كانت الناس تستعلم الأحداث عن طريق الإعلان في مسجد القرية أو مأتمها، الآن صارت المسجات الهاتفية والايميلات والملتقيات هي وسيلة نقل الأخبار وذياعها" جعفر حمزة.

§ وجه القرية

من جهة أخرى يعمل الملتقى على تعريف المجتمع بالقرية التي غالباً ما تكون مهملة من قبل أجهزة الاعلام الرسمية، وابراز وجهها الغائب للخارج. في هذه الملتقيات والمنتديات، يجري عرض أخبار القرية وأنشطتها وفعالياتها التي غالباً ما ترتبط بمناسبات دينية واجتماعية، في المواسم الدينية الخاصة مثل عاشوراء، وشهر رمضان، يجري نشر البرامج المعدة لهذه المناسبات مسبقاً، كما تقوم بعض المنتديات بتحميل بعض هذه الفعاليات وتغطيتها بشكل موجز أو مسهب حسب أهميتها بالنسبة للقائمين على الموقع أو لأهل القرية والمشتركين.

كان موقع "قرآن نت"، أول موقع الكتروني بدأ البث المباشر للفعاليات الدينية في المناسبات المختلفة، يسجل الموقع عدداً هائلاً من الزيارات في المناسبات الدينية، خلال أحد المواسم العاشورائية أشار مديره إلى أن "الموقع أستقطب أكبر عدد من زوار البث المباشر على الإنترنت، حيث ذكرت احصائيات الموقع أن اكبر عدد للزوار في ثانية واحدة بلغ 175 ألف متابع للبث المباشر، مما حدا بأصحاب الموقع إلى مضاعفة قدرات الموقع الإستيعابية" [3]

تسجل الجماعات الدينية حضوراً أكبر على الشبكة العنكبوتية، وتبدي في هذا الحضور، مهارة شعبية تفوق مهارة الدولة في كثير من الأحيان، يعود ذلك لمهارة الصبية والشباب وتمكنهم من استخدام التقنية وتشغيلها، ومعرفتهم بمهارات استخدامها وتوظيفها، الكثير من التقنيات الحديثة تلقفتها المؤسسات الشعبية وطورتها قبل أن تدخل المؤسسات الاعلامية الرسمية.



§ التقنية كإيدلوجيا

في كتابه "الانسان ذو البعد الواحد" الصادر عام 1964، يحذر ماركوز من خطر التقنية التي تسير باتجاه إخضاع الانسان والسيطرة عليه. توسع التقنية أسباب الراحة أمام الحياة، كما تسرِّع من انتاجية العمل وتحسنه. تتحدى التقنية الإنسان، وتبرهن استحالة أن يعيش مستقلاً أو منفرداً أو معزولاً عنها، تتغير الطبيعة الإنسانية والحياتية. تصير التقنية ضرورة من ضروراتها. لا يستغني الإنسان عن العيش بدونها. لذلك فهي تسيطر عليه وتخضعه لها. يسميه ماركوز بالاخضاع المكثف. إنه الخضوع للآلة ولأسياد الآلة المتحكمين بها. في هذا الـ(لا إستغناء)، تغيب حرية الفرد ويصير الخضوع واللاحرية أمراً مشرعاً. يؤكد هابرماس ذلك في كتابه "العلم والتقنية كإيدلوجيا"، ويرى أن العلم والتقنية صارا يشكلان (إيديولوجيا) جديدة، بمعنى أنهما تخضعان الإنسان وتسيطران عليه، وتجعلانه عاجزاً عن ممارسة نقده لسلطتهما، أو إعمال فكره في التحرر من هيمنتهما. في حين أنه لا يمكن التفكير في التحرير دون تثوير كل من العلم والتقنية ذاتهما.

لكن كيف يجري هذا الأمر في الحالة البحرينية؟

تمكنت الآلة التقنية من اخضاع المجتمع الديني اقتصادياً. أصبح يعتمد عليها بشكل أساس، لا يمكنه الاستغناء عنها، دخلت الآلة التقنية الجمعيات الدينية والحوزات الدينية والبيئات الدينية والبيوتات الأكثر تشدداً، لكن هل تمكنت هذه الآلة من اخضاع المجتمع الديني ثقافياً ومعرفياً؟ كيف تعاطى المجتمع الديني مع التكنولوجيا والتقنية؟ هل استفاد منها في تطوير خبراته واتصالاته وثقافته ومعرفته؟ هل استفاد من تمكنه من الآلة التقنية، في الانفتاح على الآخر (محاورته، التداخل معه، التعايش معه..الخ)، أم أنه عززمن انغلاقه في داخل وسطه رغم تطوير أدواته وأساليبه؟



§ الايدلوجيا كتقنية

يقول ماركوز "ما أحاول أن استخلصه هو أن العلم قد رسم صورة العالم. وفيه بقيت السيطره على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الانسان". إذا كانت التقنية نجحت في أن تصنع انسانا على مقاسها الخاص، كما يظن ماركوز، وافقدته أن تكون له ميزات خاصة به. فجعلت منه إنساناً مقلدا، مستهلكا، متماهيا معها. فإن المجتمع الديني كما يبدو، أكثر تحفظاً من أن يجعل من آلة تقنية، تحكمها قوة رأسمالية، أن تصوغه وفق مقاسها الفكري والثقافي. قد يسمح لهذه الآلة في ظل استحالة الانفصال عنها أو العيش خارجها، أن تصوغ إنسان المجتمع الديني وفق مقاسها التقني. لكنه لا يسمح لها بأكثر من ذلك.

دخل المجتمع الديني تقنية الآلة لكنها لم تدخله. يمكننا أن نقول أن المجتمع الديني قام باخضاع الآلة وفق مقاسه الديني، وقام بتبيئتها وتكيفها لتناسب إيديلوجيته. اخترق المجتمع الديني التقنية، وجعل من آلتها وسيلته لنشر معتقداته وللتعريف بها وللترويج لأنشطته وللتبشير بها، جعلها وسيلته التي يوصل بها نفسه وفكره للعالم، لكنه لم يمكّنها من أن تخترق ثقافته أو تمازجها بغيرها من الثقافات.
رسمت التقنية صورة شكلية للعالم، صورة متشابهة للإنسان في كل مكان، في كل بيئة وفي كل بيت وفي كل مؤسسة وفي كل جماعة، لكنها لم تستطع أن تدخل ثقافة الجماعات ولم تستطع فتحها للحوار المشترك. استفادت الجماعات المختلفة مما توفره هذه الآلة من قدرة على التحميل والتخزين والتوصيل والتقريب والاعلان والاعلام والبث والنقل والتعريف والاخبار. لكنها وظفتها في دائرتها أو ما أسماها جعفر حمزة (متخصص في شؤون الاعلام) بكانتونتها المغلقة. " أعتقد أنا ببراعتنا في استخدام الآلة التقنية، صرنا أقرب إلى كانتونات إلكترونية مغلقة، هذا الأمرلا ينطبق فقط على الدينين والاسلاميين، بل حتى الليبراليين، إلى أي مدى ساعدتنا التقنية على أن يفهم أحدنا الآخر أو يتحاور معه؟ كأننا أمام دكان كتب عليه من الخارج (هنا الذبح إسلامي). من الطبيعي أن لا يدخل (هنا) إلا المسلمين. ودكان آخر كتب عليه (هنا يباع لحم الخنزير). من الطبيعي أن لا يدخل (هنا) إلا غير المسلمين. هكذا صار واقع أغلب مواقعنا ومنتدياتنا وغرف محادثاتنا. (هنا) تحدد فكر من هم في الداخل ومن هم في الخارج. (هنا) تحدد من يسمح له أن يكون (هنا) ومن لا يسمح له إلا أن يكون (هناك). مع المختلف الحوار حرب افتراضية وصدامات. وفي داخل الفكر الواحد ليس سوى صوت واحد وفكر واحد وعقل واحد ومعرفة واحدة".

الحسين، غائب في الصورة

لإمام الحسين.. حاضرٌ في القلوب وغائب عن السينما العالمية

شبكة راصد الإخبارية - « تحقيق أجراه - أحمد رضي* » - 7 / 2 / 2007م - 1:53 ص
مشاهد من تمثيل «واقعة الطف الاليمة» ببلدة أم الحمام

هل تنقصنا الكفاءة والقدرة المالية لصناعة فيلم سينمائي؟!

من الملاحظ في مجتمعنا العربي والإسلامي غياب الرؤية الإستراتيجية لتجسيد التاريخ الماضي عبر الشاشة السينمائية، وذلك خلاف للقصص التاريخية والحكايات الشعبية، في الوقت الذي تقدمت فيها وسائل التكنولوجيا كمرحلة متقدمة لصناعة الصوت والصورة فنياً وتقنياً، الأمر الذي يجعلنا كعرب ومسلمين نتساءل حول سبب إخفاقنا في إبراز الصورة الحضارية لديننا الإسلامية واستعراض أهم مراحل التاريخ وشخصياته العظيمة لهذا الجيل والجيل القادم.

أحاول في هذا التحقيق الموجز مناقشة فكرة تقديم تجربة النهضة الحسينية بأبعادها المأساوية والإنسانية عبر شاشة السينما العالمية، ومحاولة التعرف على إمكانية تقديم نص إسلامي برؤية معتدلة، واستعراض أهم المعوقات التي تعيق تنفيذ هذه التجربة من خلال اللقاء مع أصحاب الشأن.

قضية كربلاء في السينما:

جعفر حمزة

يحدثنا الباحث الإعلامي «جعفر حمزة» حول بروز قضية كربلاء في السينما فيقول: «كانت قضية الإمام الحسين من أهم المواضيع التي تم طرحها في السينما العربية والإسلامية على أكثر من صعيد. فهناك بعض التجارب العربية المتمثلة عند بعض المخرجين المصريين، فضلاً عن استعداد للمخرج العراقي «قاسم حول» الذي لم تسعفه المادة والدعم لعمل ذلك الفيلم، حيث كان من المقرر إخراجه في العراق وخصوصاً في كربلاء. وأما التجربة الإيرانية فقضية الإمام الحسين فقد كانت «موتورة» بمعنى وقوفها عند تجربة فيلم «الواقعة» بصورة مباشرة، وفيلم عبدالله الأنصاري بصورة غير مباشرة. بالرغم من تجربتي مسلسل «غريب طوس» و«مريم المقدسة» الذي تم إجادة الإخراج والتمثيل فيهما على حد سواء، وبصورة عامة فإن الإمكانيات الإيرانية لإخراج فيلم عن الإمام الحسين ممكنة وقوية».

الفيلم ممكن.. والمعوقات كثيرة:

ويعتقد حمزة بأن أبرز المعوقات التي تمنع ظهور الفيلم الحسيني تتمثل في عدم تركيز الجهود على الرؤية التاريخية والإخراجية الكفيلة بإخراج الفيلم أو المسلسل بسبيل يوصل الرسالة بطريقة إبداعية ومؤثرة، فإذا كانت قصة كربلاء تثير الشجن عند قرائتها فما عساك تتخيل عند مشاهدتها. بالإضافة إلى نقص الدعم المالي، إذ أن عقلية الدعم للأفلام الرسالية لم تترسخ بعد، وهذا يستدعي توجهاً مدروساً من أصحاب الخطاب الديني الملتزم من جهة، وتقديم دراسات اجتماعية واقتصادية متخصصة من جهة أخرى.

ويرى حمزة بأن تجربة فيلم «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد، أثبتت قدرة الوصول إلى مساحة «مشتركة» يمكن من خلالها الإنطلاق لإنتاج فيلم تاريخي يتفق على مصادره ورؤيته التوثيقية علماء الفريقين، نظراً لمصادر الطرفين المعتبرة ولن يكون ذلك مانعاً أو حاجزاً عن الدخول في مشروع مشترك لإنتاج الفيلم.

موقف التجار والحوزات الدينية:

أما بخصوص الموقف المطلوب من قبل التجار أو الحوزات الدينية يشير حمزة إلى أن الموقف المطلوب من التجار هو توضيح الجدوى الاقتصادية في حال تبني المشروع والقيام به، وتبيان الأهمية الدينية كمصداق لدعم القضية الحسينية وإحياء الشعائر. أما بالنسبة لموقف الحوزات الدينية، فالمطلوب هو العمل على البحث من النواحي الشرعية للأمور المتعلقة بشؤون السينما والفن، ونشره للمهتمين، وإقامة ندوات مفتوحة لمناقشة مثل هذه المشاريع أو إقامة ندوات متخصصة تجمع بين التجار وعلماء الدين وأولي الاختصاص تحت مظلة واحدة.

بين آيران.. وهوليوود الأمريكية:

ويؤكد حمزة بأن إيران قد قطعت في المجال السينمائي عموماً وفي الأفلام الدينية خصوصاً مسافة مميزة على المستويين الإقليمي والعالمي، ويعتقد بأن التفكير في القيام بفيلم أو مسلسل عن الإمام الحسين ينبغي علينا الاستعانة أيضاً بالسوريين، لوجود الخبرة الكافية في مثل هذه الأعمال التاريخية، فضلاً عن لغتهم العربية المميزة، والتي ستعطي رصيداً للفيلم عوضاً عن دبلجته إلى العربية.

وحول إمكانية التعاون مع الدول الأجنبية أو شركة هوليوود مثلاً لصناعة فيلم إسلامي يرى حمزة أن إمكانية التعاون واردة ولكن بتوفر السيولة المادية «الضخمة» والتي لا تتوفر حالياً، وإن الإنطلاقة الفعلية ستكون من خلال التجار والممولين، الذين ينبغي عليهم الإقتناع أولاً بجدوى المشروع، فضلاً عن الاستحقاق «الشرعي» للنص والإخراج والتمثيل «الممثلين».

عدم تفاعل الطائفة الشيعية:

جابر حسن

ومن جانب آخر يشاركنا الرأي الممثل «جابر حسن» قائلاً: «يمكن إيجاد نصوص متفق عليها بعد جمع المصادر الموثقة والمتفق على مصداقيتها، ومحاولة البعد عن التعرض للمسائل التي تثير الحساسيات الطائفية ومحاولة سد الثغرات التي يمكن أن يستغلها العدو في الخدش أو التعرض للقضية الحسينية».

ويضيف حسن بأن أهم معوقات تنفيذ فكرة صناعة فيلم كربلاء الحسين يتمثل في: «عدم وجود تفاعل أو تحمس لطرح القضية الحسينية عبر السينما من قبل أهل الطائفة الشيعية، نتيجة عدم وجود النظرة المستثمرة والمقتنعة بأهمية السينما في طرح القضية الحسينية. بالإضافة إلى عدم تفاعل السينما العالمية والمهتمين بها بالقضايا الدينية المسلمة، مع تزايد الشعور بالنقص والتحجيم عند المسلمين في الجانب الفني والسينما بالذات، ووجود كثير من المحظورات المبالغ فيه والتي تمنع من طرح القضية على السينما».

أهمية خلق كوادر فنية:

وحول كيفية خلق كوادر فنية مؤهلة للعب أدوار في الفيلم الإسلامي يقول حسن: «يمكن خلق تلك الكوادر بالتدريب وزرع الثقة وخلق روح التنافس ودراسة كل النقاط المهمة والممكنة لتأهيل الممثلين بل كل طاقم العمل السينمائي والمشارك في القضايا الدينية والقضية الحسينية بالذات».

وحول مسألة التعاون مع دول أجنبية أو شركة هوليوود يقول حسن: «يمكن التعاون معهم في تأهيل الكوادر والاستفادة من الإمكانيات الفنية الموجودة لديهم وهي ليس متوفرة في الدول العربية أو الدول الإسلامية، فقضية الحسين يجب إبرازها بقوة حتى لو لجأنا الى الأجنبي، ولكن بحيث لا يترك الأجنبي بصمته على العمل ويكون النتاج من صنع الأيادي المسلمة الشيعية الملتزمة».

ضرورة اتفاق أهل الطوائف والمؤرخين:

حبيب حيدر

ويشاركنا الشاعر حبيب حيدر «ناقد وكاتب مسرحي» الحوار قائلاً: «لم أتتبع بشكل دقيق حضور قضية الإمام الحسين في الساحة السينمائية، ولكن هناك بعض الأعمال التي جسدت القضية بشكل مباشر أو غير مباشر مثلاً كفيلم تسجيلي أو توثيقي أو كفيلم يستلهم الظاهرة بشكل إبداعي، وتحضرني هنا بعض التجارب كالآفلام الإيرانية التي شاعت في الفترة الأخيرة. وأهم المعوقات برأيي تتمثل في تخوف البعض من المساس بالحالة المقدسة لبعض الشخصيات كالنبي والأئمة ، وأيضاً العائق المالي، والخوف من الدخول في التفاصيل التاريخية لفترة من الفترات الحاسمة التي بطبيعتها تفجر الكثير من القضايا».

اختلاف الرؤى في قراءة التاريخ:

وبخصوص إمكانية وجود نصوص إسلامية متفق عليها أدبياً وتاريخياً لتقديم مأساة كربلاء بصورة ترضيّ جميع الطوائف الإسلامية يجيب حيدر: «هذا السؤال يفترض حالة مثالية نأمل الوصول إليها، بينما دونها الكثير من التفاصيل التاريخية التي يعتمدها أهل الطوائف والمؤرخين على اختلاف مشاربهم. وأن كنت لا أبحث أبداً عن نص واحد للحادثة، فلكل حدث تاريخي الزاوية التي يمكن للمؤرخ أن يرصدها برؤية خاصة. كما أنه لكل عدسة مخرج يسلط عدسته على الحدث الذي يريد تقديمه وصياغة رؤيته من خلاله، فاختلاف الرؤى في الأحداث التاريخية كفيل بتوليد أفلام ونصوص متعددة للحدث الواحد».

ويختم حيدر قوله بخصوص التعاون مع الدول الأجنبية أو شركة هوليوود لصناعة فيلم إسلامي قائلاً: «ليس هذا صعباً إذا توفرت إرادة قوية بهذا الاتجاه، فسوف تتيح السينما العالمية لنا نقل صورة من صور كربلاء، بحيث يستلهم الناس من خلالها أداة عالمية حديثة قادرة على التواصل فيما بينهم وإيصال رؤية واضحة بخصوص واقعة كربلاء. ويضيف توجد مشاريع صغيرة ينبغي نقدها وتشجيعها حتى تستطيع أن تثبت أقدامها، وتمتلك أدوات الفعل الفني والإبداعي لترتقي في مجال تقديم الصورة الفنية والإبداعية لشخصية الإمام الحسين ».

السينما العربية عاجزة..!!

عبدالله يوسف

ومن جهة أخرى يطرح المخرج والمصور «عبدالله يوسف» رؤية مغايرة لما سبق بالقول: «لم تتمكن التجربة السينمائية العربية بكل ما قدمته في تاريخها من تحقيق وتكريس الجدارة الصناعية المأمولة والجودة التقنية الباهرة في فن السينما، بحيث تكون مؤهلة لإنتاج فيلم مرموق عن قضية الإمام الحسين ، بينما السينما العالمية المتقدمة، تستحوذ على كل جدارة إنجاز ذلك بحرفية منقطعة النظير ومستويات بالغة الإتقان والتفوق. ولعل معوقات تحقيق ذلك -في نظري- لا تكمن في وجود المقدرة من عدمها، بل في مدى درجة الإقتناع السينمائي العربي أو العالمي، بوجاهة تلك القضية وأهميتها التاريخية، وبأهدافها الثورية وأبعادها الإستشهادية ونتائجها، وما أفرزته في التاريخ اللاحق المستمر حتى اليوم من تداعيات أدت إلى نشوء فريقين –أرادت لهما القوى المتفننة في إبتكار المكائد وتأليف المؤمرات وصياغة الضغائن- أن يكونا متضادين ضمن نسيج قطيفة إسلامية واحدة، باتت هدفاً للإختراق والتمزيق كل يوم!!

أين الأمة الحضارية لقراءة رسالة الفيلم؟!

ويضيف يوسف إذا كان الهدف من إنجاز الفيلم إعادة الحادثة الكربلائية دون محاولة إسقاط الماضي ودحر الحاضر وإبتكار المستقبل، فإن نتيجة ذلك ستكون في تقديري بمثابة «إضرام نار في الهشيم»، وتلك هي معضلة كل «المعوقات» التي تجعل عدم بزوغ بادرة تفكير في إنتاج ذلك الفيلم تذهب أدراج رياحها. لأن الفيلم السينمائي الحقيقي، غالباً ما ينطوي على رسالة إلى الأمة التي أُنتج من أجلها، لكن في مثل حالنا أين هي الأمة الحضارية الواعية القادرة أو المؤهلة فكرياً لقراءة الرسالة، وهي متجردة كل التجرد من أدران الأورام الطائفية؟؟؟

أهمية وجود العقلاء.. القضية خطيرة:

وبخصوص توفر نصوص أدبية تاريخية لتقديم الفيلم يجيب يوسف قائلاً: حتى إن توفرت أو وجدت نصوص متفق عليها أدبياً وتاريخياً تتناول مأساة كربلاء بصورة ترضي جميع الطوائف الإسلامية، وإعتمدت لإنجاز مثل ذلك الفيلم، كيف يمكن ضمان توفر عدد وافر جداً جداً من العقلاء المتفكرين في الفريقين المتضادين يقبلون التعاطي والتوافق والتعاضد والإختلاف الحضاري المبدع مع كل مخرجات فيلم سينمائي جريء يرصد في مشاهده المتعددة ما سبق قضية كربلاء ثم الواقعة ذاتها وبعدها النتائج التي إنتهت إليها وصولاً إلى الأوضاع والأحوال التاريخية المستجدة التي بدأت منها، في يوم غابر من تاريخ العرب والمسلمين، ولم تنتهي بعدها «إلى يومنا هذا»».

ويختم يوسف قوله بإن حادثة «كربلاء» باتت من بدأت، قضية تاريخية مفصلية في تاريخ هذه الأمة، ووفق ما إنتهت إليه من نتائج، قد شكلت النسيج العربي والإسلامي في مدى أربعة عشر قرناً،، والطموح في إستثمارها مادة لأخطر وأهم الفنون الحضارية الإنسانية المتمثلة في الفن السينمائي، لهو طموح بالغ الإثارة، ولتحقيقه وفق بلاغة موضوعية رصينة لا بد -في رأيي- من تطهير العقول والنفوس من الأفيون الطائفي المقيت.. وحتى يتيسر لنا تحقيق ذلك، يصبح بمقدورنا مخاطبة الفن السينمائي العربي أو العالمي لإنجاز الفيلم/ القضية!

من الحرف إلى الكتاب.. سيرة برائحة الورق


فرشت كتبي للبيع أمام جامع المالكية..
من الحرف إلى الكتاب.. سيرة برائحة الورق


الوقت - جعفر حمزة:

ومن القلم كانت البداية

كانت علاقتي بالكتاب عبر الحرف، ولم يكن الحرف بالنسبة لي إلا رسماً، وهل سيكون غير ذلك لصبي لم يدخل المدرسة الابتدائية بعد؟
منافسة بيني وبين أخي الأكبر ‘’محمد رضا’’ أيّنا يرسم أو يخط الحرف بإجادة أفضل وكانت الحَكَم أختي الكبرى ‘’زهرة’’، وكان مثلي في الخط أخي الأكبر ‘’علي’’. أصبح الخط فني الأول واستمر معي إلى سنيّ الجامعة. من يعشق الحرف رسماً أو خطاً أو فناً يعشق صورته ‘’الكلمة’’. ومن يعشق الكلمة يقع في هوى ‘’بيت الكلمة’’ وهو الكتاب. حالي كحال من يعشق العطر فيعشق الزهرة ثم الروضة التي تحتضن الزهرة.
بدأت بخط وانتهيت بكتاب. لا أراها معادلة غير طبيعية أبداً. مما زاد في عشقي للحرف هو تلقّف أستاذ اللغة العربية ‘’الأستاذ عبدالظاهر’’ في مدرسة شهركان الابتدائية لي وهو مصري الجنسية، وله الفضل بعد الله، في صقل قدراتي وتذوقي الفني عبر تشجيعه لي وإمداده غير المنقطع بالنماذج والملاحظات.
لم أنس تلك الملاحظات حتى اليوم. وما زال كرَّاس اللغة العربية للصف السادس الابتدائي بحوزتي، أحتفظ بملاحظاته المكتوبة بقلمه الحبر الذي تمنيت أن أقتني واحداً مثله وأكتب به.
تطرفتُ في الخط. صرت أكتب بجميع أنواع القصب والأعواد والأشياء، بل إني كتبت بعود الثقاب وبجذع شجرة كبير على ورق، وكأنّ بي مساً من حرف، وما رأيت نفسي إلا في عالم الكتب أبحث عن الخطوط وأقرأ عنها شعر ‘’لا أفهمه’’ وتاريخاً ‘’لم أدركه’’، لكني حاولت أن أخوض غمار بحر الحرف، فانحل لساني وأنطلق منطقي وإذا بي في وسط كتب لا أريد منها سوى أن أقرأها وأغوص فيها لأقول في نفسي، ما هو الكتاب التالي الذي يجب علي قراءته؟

حين غسلت الكتاب بالماء

أرأيت الطفلة الصغيرة التي تحاكي دميتها؟ وكأن روحاً حلّ في تلك الدمية لتخاطبها الطفلة ببراءة وتتجاذب معها أطراف الحديث؟ أرأيت كيف أن الطفلة تعتني بدميتها وتحمّمها وتلبسها وتذهب بها إلى الفراش وتطعمها و..؟
لقد كانت علاقتي بالكتاب أكثر من علاقة الطفلة بدميتها، ولا وجه للمقارنة عندي، فقد تستغني الطفلة عن دميتها بدمية جديدة، وقد تذبل الدمية أو تعتق فتتركها صاحبتها من غير رجعة لها، أما الكتاب أياً كان حجمه أو عمره فهو أنا في ذاته، يعكس تجربة زمنية وفكرية مررتُ بها، وهي ليست مجرد ذكرى، بل هي صياغة عقل لا يمكنني أن أتخلص منه، حتى لو فقدته مادياً، بل كان الكتاب لي كمثل ‘’الثقب الأسود - Black Hole’’ أميل له لا تلقائياً لأني أرى فيه - في تلك الفترة العمرية - تجربة وخلاصة فكر ومجهود تم إخراجه على الورق. كنت في الصف الأول الإعدادي حين شاهدت كتاباً ملقىً وسط وحل وماء في أحد شوارع قريتي ‘’المالكية’’، وشعرت به يناديني كطير جريح يريد من ينقذه، فأخذته من أحضان الوحل واحتضنته، وسارعت إلى غسله وصب الماء عليه لعله يتنفس ويكشف لي عن وجهه الذي بلله الماء وكساه الطين، وكان للشمس نصيب من الحكاية حيث ‘’نشرته’’ على خيط الغسيل لساعة من الزمن، وطفقتُ مسرعاً إلى سطح بيتنا لأراه وأقرأه، فقد كان كتاباً في علم النفس، لم أفهم منه شيئاً لكني احتفظتُ به لعلّه يكون مرجعاً لي في يوم ما، لعلّ. وكان ذلك ديدني مع كل ما يضم حرفاً أو كلمة من قلب صحيفة أو من غلاف كتاب، أو من إعلان مجلة، فقد كانت الكلمات المكتوبة شيئاً براقاً لي لا أستطيع مقاومته البتّه.

عندما وضعت الجمرة في فمي

كنتُ كما الطفل، مختبره فمه ومختبري عيني وفهمي. الطفل يضع كل ما تطاله يداه في فمه، لأن الأخير هو محل تجربته للحكم، فإذا تذوق الطعم الحلو استساغه وأراد المزيد، وإن وضع شيئاً مراً استنفر منه ولا يريد تجربته مرة أخرى، وما يحكم فيه هي فطرته الدافعة والرافعة كما يقول الفلاسفة.
قرأت الكثير من الكتب تفاوتت من عالم الجن والقوى الخارقة وعلوم ما وراء الطبيعة، إلى الفلسفة وعلوم الروحانيات والتصوف، ومنها إلى العلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات البحتة، ومنها إلى كتب العقيدة والفكر الإسلامي والتاريخ، ومنها إلى بحر الشعر والأدب وكتابة القصة القصيرة والخواطر. أخي الأكبر ‘’عبدالحكيم’’، كان خير معين في جلبه لأنواع مختلفة من الكتب العلمية والتثقيفية.
كنت أستعيرها على الدوام، قد كانت نهاية الابتدائية هي مرحلة ‘’الفطام’’ بالنسبة لي، فقد آن الأوان لي أن أعرف ما أريد أن أتناوله، فوقع الاختيار في تحديد هويتي بقراءتي، ولا يمكن الخوض في عالم الكتب من دون وجود ‘’مرشد’’ أو ‘’دليل’’ وقد كان ذلك لي عبر أساتذة فضلاء في مدرسة الخليل بن أحمد الإعدادية وخصوصاً الأساتذة ‘’صادق الفردان’’، ‘’عبدالله عبدالكريم’’، و’’عباس العرب’’، وقد كان حبي للكتاب يدفعني لأكتب، فلا يكفي أن تتناول الطعام إن لم تترجمه إلى حركة ونشاط، وهكذا كانت البداية والانتقال من مجرد القراءة المحضة إلى الكتابة وتمرين عضلات الفكر والقراءة على حد سواء. وقد كان هناك عهد بيني وبين الأستاذ ‘’صادق الفردان’’ في كتابة مقال بحجم ‘’A4’’ يومياً في شتى الموضوعات طيلة السنة الدراسية ليقيمها الأستاذ ويقدم ملاحظاته لي، وكنت استعين في كتابة موضوعاتي من مجلة ‘’ماجد’’ والصحف والكتب الدينية، ولم أنسَ مشهد درج الأستاذ الذي لم يسع أوراقي المتراكمة فيه ليفتح بعد عناء وتخرج كل تلك المقالات.
لقد كانت تلك التجربة بمثابة التمييز بين الطعام الصالح من غيره.
لم أعرف سبيل الفكر والتأمل والتحليل إلا بعد أن خضت تجربة وضع الجمرة في فمي والمتمثلة في مفاهيم احتضنتها كتب لم تقدّم لي سوى أن أعرف أنها لن تفيدني في علاقتي العاشقة مع المعرفة، وهكذا توقفت عن الخوض في تناول الجمر وبدأت بتناول التمر المفيد عبر كتب الشيخ مرتضى مطهري، السيدعبدالحسين دستغيب، الإمام الخميني، والسيد الصدر، فضلاً عن الكثير من كتب المؤلفين المصريين، منهم ‘’يوسف ميخائيل أسعد’’ في مجال علم النفس والتربية والشخصية. وأذكر أن أول كتاب قد تم إهدائه إليّ هو ‘’قصص الأبرار’’ للشهيد الشيخ مرتضى
مطهري. وقد كانت تجربتي التي صاغت منطقي هي عبر كتب السيدمحمد حسين فضل الله بكتيباته الصغيرة التي كنتُ أتلقفها واحداً بعد الآخر لأقول ‘’هل من مزيد؟’’.

بطني يقرأ الكتب قبلي


لم يكن عشقي ‘’المجنون’’ للكتب بخافٍ على الأهل، وقلت ‘’المجنون’’ نتيجة تراكم الكتب والقصاصات الصحافية والمجلات في مختلف الموضوعات في غرفة صغيرة ومساحة أضيق كانت مخصصة لي، حتى فاض ‘’كبتي’’ من ‘’كتبي’’، وبالتالي أصبحت القوانين صارمة من قبل والدتي التي خشيت أن جنوني بالكتب ستصرفني عن الدراسة والتركيز عليها، وبالتالي وضعت قاعدة ‘’لا كتب غير كتب المدرسة’’، ولم يكن بإمكاني وقف عشقي وتغزلي بالكتب، فلا يمكنني الصبر على ‘’طعام واحد’’ وبالتالي كان لا بد من وسيلة لإدخال الكتب إلى ‘’بيت العاشق’’، فكانت الثياب خير معين، فقد عملتُ على ‘’تهريب’’ الكتب داخل المنزل عبر إخفائها تحت ثيابي وبالقرب من بطني، لأتسلل إلى المنزل بهدوء ومن دون اضطراب لأضع الكتاب وكأنه سبيكة ذهبية بجوار السبائك الأخرى ‘’الكتب’’، وبهذا تشكلت لي ثروة لم أرد التفريط بها يوماً أبداً، ولكن.
«ليت رقاد» وكتب.. لا يتناسبان أبداً
لكل شيء ثمن، وثمن عشقي للكتب هو ضعف بصري، وكأنني أراها معادلة منصفة نوعاً ما، فالكتب تقدم لك ‘’البصيرة’’ لتأخذ منك ‘’البصر’’ أو شيئاً منه.
كنتُ أنام في غرفة تضم بعضاً من أخوتي الصغار ووالدتي التي تنام مبكراً، ولم يكن النهار كافٍ بالنسبة لي لأتغزل وأجلس مع العشيق ‘’الكتاب’’، في قبال ‘’سكون’’ الليل وكأن الكتاب خُلق ليُقرأ ليلاً، ربما، ألم تنزل ‘’اقرأ’’ ليلاً؟؟
وبالتالي كان لا بد من محادثة ‘’المعشوق’’ ليلاً، ولم يكن بإمكاني الخروج من الغرفة والقراءة في جو ‘’لظى’’ ليالي الصيف أو في ‘’زمهرير’’ ليالي الشتاء، لذا سلمتُ أمري لأقرأ الكتب تحت إضاءة ‘’ليت الرقاد’’ أو ما نسميه ‘’مصباح النوم’’، وكانت قراءتي تمتد لساعتين أو أكثر وكانت نتيجة ذلك العشق ضعف بصري. وأعددتُ نفسي المسؤول عن شراء ‘’ليت الرقاد’’، وعرفتُ أنواعها وميزاتها وقوتها، فقد كنتُ أقرأ كل شيء مكتوب، وبالتالي كان الأمر سهلاً عليّ. وتطورتُ قليلاً بعد فترة حين اشتريت مصباحاً للمكتب وأضعه تحت غطاء السرير وأناجي الكتاب الذي بين يديّ.

استنساخ لا بد منه.. ونمو طبيعي لعضلات الكتابة

لم تكن لي القدرة المالية لأشبع نهمي في القراءة، فكانت مكتبة المسجد الشرقي القريب من منزلنا، منهلٌ آخر لم أبخل في الرجوع إليه كلما شئت، وقد كانت فترة التسعينات بالنسبة لي هي مرحلة ذروة القراءة، حين أصبح في جعبتي مسؤوليتان اثنتان هما ‘’العَرَافَة’’ في الاحتفالات التي تُقام في القرية وخارجها في المناسبات الدينية، فضلاً عن الإخراج المسرحي لتمثيليات تاريخية واجتماعية، والثانية ‘’الإذاعة’’ العربية بطهران، فالموضوعات المتنوعة هنا وهناك أخرجتني من ساحة العشق للكتاب في ذاته إلى ساحة الحركة ومعرفة ما يدور حولي والتفاعل معه، وبالتالي أصبحت القراءة لي ‘’رسالة’’ وليست ‘’طعاماً’’ فقط. وشتان بينهما.
فقد كانت الموضوعات التي أشارك بها في إذاعة طهران متنوعة بين ثقافة واجتماع ودين، وبالتالي كانت المهمة أن أقرأ أكثر لأهضم ما أريد أقوله لأول إذاعة ساهمت في دفعي للقراءة بصورة متقدمة.
وكنت استعير الكثير من الكتب دفعة واحدة ولا أرجعها إلا بعد أن أبحر فيها، وأرجع بغنائم فكر وقصص ونكات.
إلا أن اقتناءك لكتاب يختلف عن استعارتك له، وقد دفعني ‘’حس الاحتضان’’ للكتاب ليكون بين يدي إلى نسخه، كأني أريد لروح الكتاب أن تبقى في أصابعي الناسخة، وهكذا كان، في العام 1995 قمت بنسخ كتابين كاملين ‘’تقريباً’’ في دفتر ‘’كراسة’’ مدرسي. الكتابان هما كتاب ‘’الاحتجاج’’ و’’الوصية السياسية الإلهية’’. لم أكتفِ بالقراءة حتى بدأتُ بالتأليف - أو هكذا خيِّل لي-، فبدأت بكتابة ‘’كُتيب’’ صغير بعنوان ‘’التلفاز، خطره على المجتمع’’ في العام 1993م.

هل يبيع الإنسان عمره؟

لا تسير الأمور في سبيل الأخذ على الدوام، فهناك وقت لا بد منه للعطاء والبذل، فكانت ‘’الصاعقة’’ عليّ عندما أضطررتُ إلى فرش كتبي للبيع بالقرب من جامع النبي محمد (ص) في قريتي المالكية، فقد كنتُ مضطراً لبيعها وليس الاستغناء عنها للحصول على كتب جديدة تناديني في معارض الكتاب والمكتبات.
كنت حينها في الصف الثاني الاعدادي، وكانت تلك أشد الأوقات صعوبة عليّ ولا زلتُ أتذكر حتى أسماء بعض الكتب التي بعتها.
وقت من دون قراءة أو تأمل وقت ميّت من عمرنا
يقولون إن الغربيين يستغلون أوقاتهم في أماكن الانتظار بالقراءة والإطلاع، ولم يكن ذلك بجديد عليّ، حيث لم أخلُ من كتاب أو كتيّب بين يدي ليكون صاحبي وقت انتظار حافلة المدرسة ومن بعدها الجامعة، وفي وقت الفرصة، بل حتى الآن، وأنا بانتظار دوري في صيدلية السلمانية أقرأ الكتاب، وأتذكر أني أنهيت أكثر من ثلاث كتب وكتيبات أثناء زياراتي المتعددة لمستشفى السلمانية في الأشهر الأخيرة.
‘’المعرفة هي العملة الجديدة للتقدم’’، وأي حاضن للمعرفة مثل الكتب. سيرتي مع الكتاب سيرة الحرف بداية والعشق الجنوني ثانياً، وبعدها العشق المسؤول.
عندما تعشق المعرفة ستكون مطلوباً على الدوام، إذ أن عضلات فكرك دائمة الحركة والنشاط، وفي ظل تغيرات متسارعة لا بد من وجود معرفة نشطة بين يديك، وفي كل مراحل الدراسة والعمل، كان الكتاب خير معين لي، لأنك تتحدث مع الحياة عبر تجارب وخبرات تضعها بين يديك وتحملها في جيبك أو حقيبتك، فأي نعمة هذه نغفلها؟
وكما أن الكلمة مسؤولية، فإن قراءتها أيضاً مسؤولية، ولم تنتهِ قصتي مع الكتاب
.