بين جبهتين




التجارية ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٨م

جعفر حمزة*

كانت تلبس الكوفية الفلسطينية، ولم تكن تضع مساحيق التجميل وكل ألوان الطيف، فكانت بسيطة المحيا، متواضعة الصورة
عفوية، مباشرة، فأخذتها بين يدي، لتكون لباساً لي। وكان المجمع التجاري هو موطن اللقاء، وذلك في إحدى المحلات، كانت "تي شيرت" بسيط التصميم، ويحمل فكرة واضحة من خلال طباعة صورة الكوفية الفلسطينية على جهة الصدر، وخياطة الجزء الباقي منها، وكأنها معلقة على لابس "التي شيرت"। شدني التصميم وأذهلني بلد التصنيع، فلم تكن دولة عربية ولا حتى إسلامية. بل كانت دولة أوروبية "البرتغال".

وما هي إلا خطوات من المحل ، حتى التقيت بأخرى، وهذه المرة ليست "تي شيرت"، بل تصميم لتزيين المحل، حيث تم وضع شكل نجمة في المحل بواجهته وداخله، وكان باستخدام الخط العربي، وهذا اللقاء لم يكن يلفت نظري لولا الكلمات المكتوبة فيها. وهي آية قرآنية كريمة، وقد تم وضعها معلقة داخل المحل، وعلى واجهته وبالخلف "موديلات" لمجسمات نساء يلبسن القصير من الثياب. وبعبارة أخرى تم وضع الآية في مكان لا يناسبها أولاً، وتمثل نوعاً من الاستخفاف -ربما غير المقصود- بها ثانياً.
وبين صاحبة الكوفية، ونجمة الآية القرآنية، تتشكل جبهتان، ساحة حربهما العقول والجيوب، وخط المواجهة واجهات المحلات، وكل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة والمبتكرة مستقبلاً، والجنود في الصفوف الأمامية وكالات الإعلان، وفي الصفوف الخلفية أصحاب الماركات وموظفيها وصانعيها من جهة، والأعراف والتقاليد والسلوكيات المجتمعية وهوية المجتمعات والمقدسات والمحرمات من جهة أخرى।
وتلكم الجبهتان هما جبهة الماركات، والأخرى جبهة المجتمعات. وقد ظهر هذا النوع من الطرح عندما توسعت الماركات لتصبح جزء من حياة الفرد اليومية، وكنتيجة طبيعية للترويج وصناعة الهوية الخاصة بالماركات وتقديمها للمجتمع، لا بد في وقت ومكان وظرف معين أن تتعارض تلك الماركة في هويتها مع الجو العام والهوية للمجتمع المستقبل لها، إذ لا يمكن الاعتماد على شهرة الماركة أو هويتها "المعولمة" دون الإلتفات إلى الجمهور المخاطب، وخصوصاً ذلك المعتز بثقافته وهويته المحلية.
وبين شد وجذب بينهما "الماركات والمجتمعات" تبرز أهمية الحديث عن ملامح الجبهتين، مع التأكيد أن لا بوادر أكيدة لانتصار أحد الطرفين على الآخر، وما هو حاصل سوى انتصار في جولات فقط لا غير।
وقد وصلت القوة بالماركات إلى درجة تقديم نماذج لسلوك جديد ورؤية جديدة للفرد في العديد من المجتمعات، بل واستنساخها بنكهات مختلفة، لتكون النتيجة تأثر بهوية الماركات، واتباع الأفراد لها في المجتمعات، ولتتحول إثر ذلك إلى جزء مهم من جسم المجتمع، بل ويبات عرفاً يتعايشه الناس كل يوم.
فالعديد من موضات اللباس، الرجالي أو النسائي -على سبيل المثال- دخلت ضمن تركيبة السلوك اللباسي للرجل والمرأة، حتى أصبح غير ذلك النموذج "مهمشاً"، ولا قوة حضور له في المجتمع।
تعمل الكثير من الماركات على خلق أجواء وبيئات يعيشها الأفراد، ليتحولوا إلى وحدات استهلاكية في ما يعيشونه، وفيما يتلقونه من رسائل مكثفة ومتواصلة. بل يصل الأمر إلى تشجيع السلوكيات الشاذة في المجتمع، ما دامت تشكل مورداً كقوة استهلاكية جيدة لها، وعلى سبيل المثال، ذكرت أبحاث من شركة الكحول الأمريكية "كورس بريوينغ كومباني" بأن مستهلك الكحول الشاذ جنسياً يشرب ضعفي المستهلك العادي من الكحول، ومثل هذا الأمر معناه لزوم توسعة قاعدة الشواذ في المجتمع الأمريكي، لتزداد أرباح شركات الكحول من حال الاستهلاك المضاعف من قبل الشواذ للكحول، ويتم ذلك من خلال استصدار قوانين لهذه الفئة في المجتمع، فضلاً عن إفساح الإعلام لهم للتعبير عن أنفسهم. وبالتالي تتحول ظاهرة سلوك اجتماعي شاذ إلى واقع يجب التعايش معهم، وذلك عبر عمل كبرى الشركات لإظهارهم ومنح الحضور الملموس لهم، بغية جني الأرباح من وراء ذلك. وعندما نتحدث عن وجود جبهتين هما الماركات، والمجتمعات، لابد من رسم مناطق الحركة بينهما. والتي يمكن تقسيمها على النحو التالي:

المنطقة الحمراء: وهي تلك القيم والرسائل من ماركات تمس قيم ومقدسات وثوابت المجتمعات، لتتحول هذه المنطقة إلى مواجهة حدية بين الطرفين "الماركة والمجتمع". وسواء كانت تلك الماركات في أصلها تواجه المجتمع كالمشروبات الكحولية أو الترويج لبضاعة معينة عبر الاستهانة بقيم المجتمع، أو من خلال بلد منشأها الذي يتخذ مواقف سلبية تجاه مقدسات مجتمع معين كالدنمارك، مثلاً، فالكثير من منتجات الأغذية تمت مقاطعتها-ولو نسبياً- نتيجة قضية الرسوم المسيئة للنبي الأكرم (ص).
المنطقة الخضراء: وهي الماركات التي تقدم منتجاتها وخدماتها بما يتناسب مع المجتمع في مقدساته وثوابته وهويته، كالمنتجات الغذائية الإسلامية، والأجهزة الإلكترونية الخاصة بمجتمع معين. على سبيل المثال ساعات خاصة لتحديد اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.، فضلاً عن بقية المنتجات التي تتعلق باللباس للمرأة المسلمة، أو تلك التي تبيع ما يتوافق مع تراث وتقاليد المجتمع كالثوب العربي أو الساري الهندي.
المنطقة الرمادية: هي المنطقة التي تتقرب فيها الماركات نحو المجتمع، عبر تقديمها لمنتجاتها بنكهة محلية، لتعطي الطابع الخاص للمجتمع. مثل الكثير من منتجات الأغذية لماركات غربية تقدم منتجاتها على أنها "حلال"، بالإضافة إلى تقديم بعض من منتجاتها بصيغة محلية، كمنتج لماكدونالدز بالخبز العربي. وغيرها الكثير.
المنطقة الوردية:وهي التي تعلن فيها الماركات هويتها الحقيقة وبصورة مباشرة، عبر تقديم منتجاتها بالصور المبرمجة التي تود ترسيخها وإعلانها في المجتمع. وهو حال معظم الماركات الموجودة حالياً.
المنطقة المحايدة: وهي تلك التي تقدم منتجاتها وخدماتها بعيداً عن أي هوية قد تمس المجتمع، وهي تأتي ضمن سياق تطور عام في البشرية من خلال استخدامها للتقنية الحديثة. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الاتصال الحديثة، والسيارات وبرامج الكمبيوتر العامة.
ويمكن أن يكون جزء من المنطقة المحايدة ذو لون معين، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة "إل جي" الكورية الجنوبية للإلكترونيات أنها طرحت تلفزيوناً جديداً في أسواق الشرق الأوسط مثبت عليه نصوص قرآنية رقمية.فهنا تحولت الماركة في جزء منها إلى المنطقة الخضراء. وأكثر المناطق اتساعاً هي المنطقة الوردية، لتشكل قوالب بصرية جاهزة للطرح في المجتمعات لكسب سلوك شرائي متواصل لها. وتمثل تلك القوالب بمثابة مغناطيس ضخم يجذب إليه كل من لديه معدن القابلية لاتخاذ نموذج له من الماركات (اللباس، الأكل، أسلوب المعيشة بصورة عامة).
ويمكن للمجتمعات أن تقوم بتوسعة دائرة المنطقتين الخضراء والرمادية، وتحجيم الحمراء والوردية، وذلك لكي يكون المجتمع بأساساته وقيمة وهويته هو من يرسم ويقنن ويجعل من الماركات تتحرك نحو المنطقة الخضراء قدر الإمكان. وتسعى الكثير من الماركات لتوسعة المنطقة الوردية لكسب ولاء أكثر من الأفراد ، ليس لشراء منتجاتها فقط، بل والتفاعل معها والعيش معها بشخصيتها وهويتها، وما يتبع ذلك من ضخ للملايين إلى محفظة تلك الماركات. ويبقى الصراع بين الجبهتين مستمراً، بين شد وجذب، بين توسعة لمنطقة وتحجيم لأخرى، وأما مقولة تحويل الأفراد في المجتمعات البشرية إلى عناصر مستهلكة مكررة تحت راية العولمة، فهي ليست دقيقة البتة، فهناك الكثير من المجتمعات التي تشكل الماركة في ترويجها وهويتها نوعاً ما بالطريقة التي تناسبه، ولا ننسى أن الأمر يتعلق في الأخير بتقديم المنتج أو الخدمة لقضاء حاجة عند الفرد، لتكسب الماركة "مستهلكاً" يدفع قيمتها.
وبين تلك الجبهتين، يمكن للعديد من الماركات المحلية الاستفادة من المنطقة الخضراء وتوسعتها، ويمكن للماركات العالمية الدخول في المنطقة الرمادية، وذلك للتقليل من حدة المواجهة بين المجتمعات والماركات।
وما زال الوقت كافياً للمضي في توسعة المنطقتين الخضراء والرمادية، عبر الرجوع إلى المواد الأولية من المنطقة المحايدة لا لتغليب جبهة على أخرى، بقدر ما نصل إلى توازن معقول بينهما.

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

مليارات بين الوجبات


التجارية ٢٤ ستمبر ٢٠٠٨م


جعفر حمزة*
لم تكن للحيرة من سبيل إليه، فلم يكن يُطيق الإنتظار ليجهز الخبز مع الجبن من الخباز، مقارنة باصبعين من الشوكلاته الجاهزة والمغلفة في مكان بارد في الثلاجة। لذا قرر "قتل" الإنتظار و"دفع" مبلغ إضافي ليحصل على تلك "الوجيبة" التي ستسد جوعه لحين موعد وجبته التالية। ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الأطعمة الخفيفة المملحة (البطاطس، الكورن، المكسرات، بوب كورن)، الحلوى والسناك التي تحوي على الجبن، والسناك التي تصنع مع الخبز، بالإضافة إلى السناك المجمد. تغيرت العلاقة بين الإنسان والأشياء، فبالأمس المتوسط كان الإنسان "يذهب" للشيء ليأخذ حاجته منه، فإذا أراد مشاهدة فيلم أو برامج فعليه أن يجلس ويهيأ الجو للمشاهدة، أما اليوم فقد أصبح التلفزيون بين يديه وطوع أمره، حيث يمكنه وضع التلفزيون في سيارته بل وفي جيبه، والكمبيوتر الذي لم يكن يسع حجرة لاحتضانه أصبح بحجم كف اليد. وتحولت العلاقة إلى أن يكون الإنسان هو مركز الأشياء، ليصبح كل شيء إلكتروني أو طعام أو أي شيء "يخدمه" قريب منه، مع بذله لقليل من الجهد، ومن تلك الأشياء هي "وجبات الطعام"، والتي أصبحت "لصيقة" للإنسان أينما ذهب، فمع كثرة المحلات الكبيرة والصغيرة، فضلاً عن سهولة الاحتفاظ بها. أصبح بمقدور الفرد تناولها في أي وقت لإسكات جوعه. وبعبارة أخرى، إنّ التغير في أسلوب الحياة وعامل الوقت ساهما في تشكيل جديد في صناعة الأطعمة.ومن المتوقع أن تحظى صناعة الأطعمة الخفيفة "السناك" بنجاحات تجارية ملحوظة. وخصوصاً إذا علمنا بأن حجم استثماراتها في تصاعد ضخم، حيث يبلغ حجم صناعتها مليار دولار سنوياً، وهي في ازدياد، منذ أن تحولت إلى سوق يحوي الكثير من الفرص. وتتصارع الكثير من الشركات حول العالم على قلوب و"بطون" المستهلكين للحصول على نسبة أكبر منها أي "القلوب والبطون". وحسب تقرير أوردته مؤسسة "جلوبال إنديستري أناليستس إنكوربوريشين"، فإنه من المتوقع أن يزداد حجم تصنيع الأطعمة الخفيفة "السناك فوود" بمقدار ٩.٨ مليون طن بين الفترة ٢٠٠٧ و ٢٠١٠م. وبزيادة في هذه الصناعة بمقدار ٢٦.٨٪ في نفس تلك الفترة. وستبلغ حجم الواردات من تلك الصناعة ما يساوي ٢٧٨.٧ مليار دولار حتى عام ٢٠١٠م. (١) ومن أكبر أوراق اللعب التي تملكها شركات "السناك فوود" هو الماكينة الإعلانية، حيث تتميز الإعلانات الخاصة بتلك المنتجات بمستوى رفيع من الجودة والحرفية في إيصال الرسالة الموجهة عن المنتج، في قبال غياب حضور إعلاني للمنتجات الغذائية الصحية الطبيعية الأخرى كالفواكه والخضروات ومنتجات الحليب واللحوم بصورة عامة. وقد شكل ذلك موضوعاً جدياً في العديد من الدول الغربية، حيث رفع المهتمون فيها بصحة المستهلك عقيرتهم لمواجهة الحضور القوي لمنتجات "السناك فوود" . وتقدم منتجات "السناك فوود" ماركاتها التجارية بطريقة احترافية كبيرة في التسويق والإعلان وتأسيس قاعدة قوية لهويتها، وذلك من خلال ربط المنتج بقيم تتناسب مع الفئات المستهدفة من التسويق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، منتج "سنكرس" مع هويته "لا توقّف"، وتحوله إلى هوية عصرية لها القابلية في "التشكل" مع "الموضات البصرية"، حيث أصبح منتجاً مرافقاً لأحد الأفلام المشهورة "ترازنسفورمورز-المتحولون"على سبيل المثال لا الحصر. وكما أن المنتجات الغذائية عبر ماكينتها الإعلامية تُساهم في تشكيل سلوكيات المستهلكين، فإن وعي المستهلكين يؤثر بصورة مباشرة في تصنيع المنتج من المحتوى والقيمة معاً. فالناس أصبحت أكثر وعياً بصحتها، وما تحتويه تلك المنتجات الغذائية من مكونات، سواء كانت صحية أو معدلة وراثية لها أضرار صحية عليهم على المدى المتوسط أو الطويل. وتمثل السوق الإسلامية إحدى أهم الأسواق العالمية جذباً للعديد من منتجات أغذية "السناك فوود"، بل أن الكثير من الدول العربية تقوم بتصنيعها محلياً، ومن أشهر تلك الدول هي سلطنة عمان، والسعودية والكويت،ومصر وسوريا، وم الدول الإسلامية تركيا وإيران. ونتيجة لتنامي تلك الصناعات على المستوى المحلي في بعض الدول العربية تقوم كبرى الشركات العالمية بتعاونات ثنائية مع تلك الشركات المحلية، منها على سبيل المثال، اتفاق شركة بيبسيكو إنكوربوريشين مع شركة تسالي للأطعمة السعودية، وهي الشركة الرائدة في مجال الأطعمة الخفيفة "السناك فوود" في السوق السعودية، وستكون الشراكة تحت اسم الشركة السعودية والتي يقدر حجم استثماراتها في السوق المحلية بما يعادل ١٠٠ مليون دولار. (٢) وبالرغم من كل ذلك تبقى هناك خطوتين تنقص السوقين العربية والعاليمة الموجهة للسوق الإسلامية. فعلى المستوى العربي، هناك غياب خطوتين مهتمين، هما التسويق المبدع للمنتجات ومنافستها لتلك الأجنبية، وخصوصاً مع وجود كل مقومات التفوق، من ناحية التصنيع والميزانية للترويج وفهم ثقافة المستهلك و"أهل البيت أدرى بما فيه". والخطوة الثانية هو "تقشف" في التعاون الثنائي العربي، سواء من ناحية الشراكة بين المؤسسات تحت مظلة واحدة، أو شراكة تعاونية من حيث تبادل قاعدة المعلومات، خصوصاً إذا كان المنتجين للشركتين يكمل أحدهما الآخر، أو يشكلان ثنائياً جذاباً للمستهلك، كرقاق البطاطس وقضبان الشوكلاته. وأما على المستوى العالمي، فهناك توجه من كبرى الشركات والماركات العالمية لمراعاة الخصوصية للمستهلك المسلم من ناحية المكونات التي يجوز لها تناولها، وخصوصاً إذا علمنا بأن حجم السوق العالمي للمنتجات الحلال يبلغ ٥٠٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠١٠م، وهو ما يستدعي طلباً متزايداً على المنتجات الأولية لصناعة الأغذية الحلال حول العالم. ومع ذلك تبقى العديد من الشركات الأجنبية التي لا تراعي هذه الخصوصية، وكأنها تضمن -بطريقة ما- بأن المستهلك سيشتري المنتج حتى لو لم يكن متوافقاً مع مبادئه وقيمه الغذائية فيما يتعلق بالمكونات الحلال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أقدمت شركة ماستر فوودز البريطانية على استبدال المنفحات النباتية بأخرى حيوانية، وهو ما شكل ضجة لدى النباتيين في بريطانيا، ويذكر الخبر الذي أوردته وكالة "بي بي سي" البريطانية بأن الشركة الأم للكثير من المنتجات، مثل "سنكرس، مارس وتويكس، وباونتي، وملكي واي" ستسبدل الأنفحة النباتية التي يتم استخدامها في تصنيع تلك المنتجات بأخرى حيوانية. (٣) وتستخلص تلك الأنفحة من أمعاء بعض الحيوانات كالعجول والخنازير، لتشكل إحدى المواد الأساسية في التصنيع والذي يدخل فيه الحليب. ومع تنامي فرص الاستثمار والربح في مجال أغذية "السناك فوود" في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بصورة عامة، قد لا يكون المستهلك معنياً بالضرورة بشراكة مؤسات أو إندماجها أو باستثمارات مدورسة في هذا المجال من قبل شركات عربية أو إسلامية، إلا أنه سيوجه نظره-أي المستهلك- إلى تلك المنتجات إذا ما تمت مخاطبته بثلاث كلمات: الجودة في المنتج، والخطاب الإعلاني المبدع والمؤثر، ومراعاة الخصوصية الثقافية بطريقة عصرية وحديثة. وعندها يمكن الحديث عن بدائل ذات مستوى مرموق ومنافس في سوق تنتعش يوماً بعد يوم، وإذا لم يأخذ صاحبنا قطعة الخيز مع الجبن، والتي يمكن أن تكون منتجاً في المستقبل القريب، فلا أقلها أن يأخذ منتجاً عربياً أو إسلامياً يضمن مصدره ويتمتع بتناوله. لقد انعكس رتم الحياة السريع والمتغير في العمل والعلاقات الفردية، فضلاً عن تحول معظمنا إلى ما يشبه "الأسفنجة" بما نتلقاه من صور متتابعة عبر الإعلام بجميع وسائله، لقد انعكس ذلك في تشكيل سلوكنا اليومي اللغوي والبصري والغذائي الرئيسي منه "الوجبات الرئيسية" لتتحول إلى الوجبات السريعة "الفاست فوود" والفرعي" إلى طعام خفيف "السناك فوود" أو الوجبة الخفيفة، والتي يتم تناولها بين الوجبات بطريقة سهلة وسريعة، وتحوي الكثير من المُحليّات والمواد الحافظة.

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي।



(١)
http://snack-foods.co.uk

(٢)
www.foodnavigator.com



(٣)
http://news.bbc.co.uk/1/hi/business/6653175.stm









السينما الإيرانية، إبداع بصري يرسم سينما الإنسان


مقال تم نشره في مجلة الرمضانية البحرينية



جعفر حمزة*

“لا يولد الإبداع إلا من رحم الحاجة، ولا تتجسّد القوة في الصورة المرسلة إلا بعد معاناة وملامسة للواقع”.

كان لا بد من التوقع أن التغيير لن يشمل نظاماً سياسياً فحسب، وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بل انسحب التغيير ليشمل عقلية ومنهجية تفكير وسلوك تشكل قبل وأثناء وبعد الثورة الفكرية في المجتمع الإيراني.، وكان التحول الحقيقي هو في التعاطي مع الدين بطريقة جديدة ألقت بظلالها على ميادين مختلفة من الحياة الإيرانية، وكان من بينها “الفن والسينما”.
إذ أن الفن لم يمثل ذلك “الشر المطلق” في ذاته ليُقصَى من الساحة بشكل عام، فقد حث الإمام الخميني على ضرورة الاستفادة من الفن والسينما لخدمة الإسلام، وقد كان هذا التوجه جديداً عندما نقرأ خطوط الساحة الدينية في العالم الإسلامي آنذاك.
إن ما يميز السينما الإيرانية خطابها البسيط في عفويته الإنسانية التي لم تعتمد على الجنس، العنف، أو المغامرات لتقديم أصل الفكرة في الفيلم، ولقد نجحت السينما الإيرانية بامتياز من دون اللجوء إلى تلك السبل، وهي السينما التي قدمت معاني الإنسانية في عنوانها العام والخاص للعالم، ولقد كسبت ثناءً محموداً من لدن نقاد ومشاهدين من شتى أنحاء العالم.
وللمرأة نصيب مشهود في السينما الإيرانية، فخلال السنوات التي أعقبت انتصار الثورة في إيران، لم تلعب المرأة الإيرانية دوراً مهماً في التمثيل فحسب، بل أخذت دورها المميز كمخرجة ومنتجة وكاتبة، ولم يكن حال سينما الأطفال بأقل شأناً وأهمية من سينما الكبار، فقد خصصت السينما الإيرانية بمؤسساتها المختلفة مهرجاناً دولياً لسينما الأطفال والناشئة، وقد قامت مؤسسة الفارابي التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بتشجع العديد من المخرجين والمنتجين بالتركيز على الطفل في السينما الإيرانية .
ومن المقومات الذاتية والخارجية لهذه السينما، والتي أصبحت قيد الدراسة لتفكيك “الحياكة البصرية” المميزة لها، خصوصاً بعدما سرقت الأضواء في المهرجانات العالمية.
هي السماوات الخمس التالية:

السماء الأولى:
الألم الذي يحتضنه المجتمع يمثل جزءً كبيراً من وقود الإبداع في السينما الإنسانية، والتي تحتل إيران مساحة كبيرة منها، ومن ذلك الألم يتحرر الأمل. وذلك من خلال “المرايا العاكسة” لا النظرة المباشرة، وبمعنى آخر يتم استعراض الألم، ألم الطفولة والفراق والاشتياق عبر دلالات ورموز بسيطة لا يجهد المشاهد فكره في تحليلها والوصول إلى المغزى من ورائها، بل هي بسيطة في التحليل وعميقة في الطرح والتصوير، ما يجعل المشاهد منغمساً في المشهد بالرغم من بساطته في التركيب وسهولته في العرض، إلا أن القوة تتركز في المعنى الذي يحتويه من خلال قسمات وجه طفل، أو دمعة أم أو إنكسار على وجه صبية، وهو نفس المعنى الجاذب بلا شعوريته المباشرة للمشاهد، والذي يتفاعل بحرارة من الداخل مع الفيلم من خلال مشاعر حقيقية تتفاعل مع المشاهد ضمن توليفة ثنائية مُحكمة.

السماء الثانية:
اعتماد السينما الإيرانية على “اللاممثلين” في أفلامها، إذ تلحظ تفاعلاً غريباً، لا يمكن أن يقوم به ممثل إن لم يكن هو بالفعل صاحب القصة وصاحب الألم وصاحب الموقف لتتجسد فيه الشخصية ليكونا واحداً، والنتيجة هي مشاهدة “حقيقية” للقصة عبر أشخاص “حقيقين” لا ممثلين.
ومن الأفلام التي يغيب عنها الممثلين -كما يقول أحد النقاد المصريين- هو فيلم “لون الجنة- رنك خدا”، والذي يبدع فيه الصبي “محمد” الضرير دوره لدرجة البكاء معه بل وقشعريرة لا يمكنك مقاومتها عندما ترى مواقفه التي تقطر شعوراً دفاقاً وألماً وأملاً وحياة ونظرة مختلفة للحياة.


السماء الثالثة:
على الرغم من وجود “السجادة السينمائية الإيرانية” في تركيبتها المعقدة، إلا أن الشكل العام لها يمثل “راحة بصرية” للمشاهد، لذا بالإمكان ملاحظة “قوة البساطة” في السينما الإيرانية من خلال استخدام التقنية البسيطة من جهة، واختيار زوايا التصوير من جهة أخرى، ويكأن الفيلم تم تصويره من دون كاميرا، بل بعين بشرية هي عين المشاهد نفسه،وتلك البساطة هي مكمن القوة الجاذبة للمشاهد.

السماء الرابعة:
الموسيقى الإيرانية التصويرية ذات “النغم الحي” الملىء بالأحاسيس، ومن المعروف أن الموسيقى الإيرانية تتمتع بميزة نقل “النَفَس” من النفس إلى الآلة عبر مقطوعات مؤثرة تُلهب الأحاسيس وترسم صورة سمعية تتفاعل مع المشهد البصري.

السماء الخامسة:
طرق الأبواب المثيرة للتوجس نتيجة طبيعة “العلاقة الموضوعية” للفكرة المطروحة، سواء كانت من ضمن “التابو-المحرّم” أو المسكوت عنه، أو من خلال تقديم “إضاءة” لزوايا لا يوجد فيها إنارة للنظر إليها، ويسري ذلك الأمر على الكثير من العناوين “المحرمة” اجتماعياً أو ثقافياً، مع وجود “مبررات” دينية لا يكون للدين يدٌ فيها أصلاً، وذلك الطرق “الإبداعي” ميزة أخرى للسينما الإيرانية.

لقد باتت السينما الإيرانية ترسم سبيلاً سينمائياً عالمياً جديداً، وطريقاً يلامس الإنسان في إنسانيته بمفرداته المختلفة بعيداً عن صورة الجنس والعنف والخيال المفرط الذي يعزز الهّوة بين الإنسان وواقعه من جهة، ويُصنّع وحدات استهلاكية إعلامية من جهة أخرى، وتلك كانت الرسالة ببساطة إمكاناتها وصفاء رسالتها التي جسدتها السينما الإيرانية الماضية قدماً على الصعيد العالمي باعتراف جماهيري واحترافي في آن معاً.
وهي درس عملي، يقدم الرطار العام لمفهوم السينما الإنسانية، والتي بإمكان أي مجتمع تقديم ألمه وأمله عـبر مقاسه الخاص باحتفاظ هويته دون المراهنة على استنساخ التجارب الغربية أو الشرقية، بل عليه أن يستنسخ تجربته الذاتية ويقدمها كما هي دون “مكياج” أو “قناع” لتصل إلى قلب المشاهد عبر عينه وسمعه، وتبقى السينما الإيرانية وبعض السينما من دول أوروبا كإيطاليا ومن الشرق كاليابان والصين وكوريا نماذج تقدم سينما الإنسان للإنسان.



الغزو الثقافي، ترف فكري أم حقيقة واقعة؟ لقاء مع سعوديات نت




الباحث البحريني جعفر حمزة في لقاء خاص مع سعوديات نت حول الغزو الثقافي، ترف فكري أم حقيقة واقعة؟

أجرى الحوار: محمود النشيط


http://www.saudiyatnet.net/wesima_articles/discussions-20080908-56393.html

سعوديات نت - أجرى الحوار/ محمود النشيط من مملكة البحرين -

في لقاء مع الباحث والمختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي الشاب البحريني جعفر حمزة، وحديث مفصل عن الغزو الثقافي، وهل هو ترف فكري أم حقيقة واقعة؟ ليجول من جانب إلى آخر، يبين نقاط القوة والضعف التي يمكن أن يتقبلها البعض ويرفضها الآخرين كلاً حسب وجهة نظره، ومفهومه لمعنى الغزو الثقافي، وهل يعتبرونه كما يعتبره الباحث بأنه ترف فكري أم حقيقة واقعية جسدتها بعض الواقعيات في زمن كثرت فيه التناقضات، حتى بات البعض لا يسمي الأسماء بأسمائها خشية الدخول في دهاليز لا يعرف الخروج منها.
ويرى الباحث أن ما نطرحه من "رأي" لايمس "مسلمة" أو "مقدس" أو "خطوط حمراء"، رغم أن هذه المساحة الرمادية بدأت تكبر بسرعة، وضحكت على من يسأل عن "الغزو الثقافي" وهو يعد العدة لغزو آخر في عقول الناس بتوسيع دائرة "ممتلكاته" ووضع اليد عليها.
اللقاء مع الباحث البحريني يطول، ويطول إذا ما ترك في تحليله الموضوعي لقضية أختلف الكثيرون حولها، وجسدها الضيف الكريم في عدة نقاط، هي محاور لقاؤنا الأول معه في صحيفة سعوديات نت وفيما يلي تفاصيل الحوار.


*هل هناك غزو ثقافي؟

- لا أعتقد بوجود غزو ثقافي. اُستخدمت هذه التسمية لغرضين؛ توصيف الثقافة الحاضرة بقوة في حقول الحياة، والتي تأخذ نمطاً فكرياً وسلوكياً معيناً، وقد يكون ذلك إيجابياً لإيجاد خطة مواجهة مدروسة وتقديم بدائل منافسة. أما الغرض الثاني فهو توصيف تستخدمه الثقافة الأضعف حضوراً، بغرض تسميم كل ما يأتي من الثقافة الأقوى حضوراً، وجعله محل نبذ وتخوف وتجنب، بدل أن يكون محل قبول وأخذ. تفعل ذلك خوفاً على أتباعها من تأثرهم بتلك الثقافة ذات الحضور القوي.

ونعتقد شخصياً بأن مفهوم الغزو الثقافي قد تم استخدامه في الأدبيات العربية عموماً ضمن الغرض الثاني، فمع وجود العديد من الكتب والبحوث والمنتديات التي رفعت أكثر من راية تحذير و"تهويل" من الثقافة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، إلا أن وجود أطروحة ممنهجة وسلوك عملي كان غائباً، لذلك نرى أن الحديث عن مفهوم "الغزو الثقافي" سيكون محصوراً بين أفواه المثقفين وأشباههم، وبين طيات الكتب التي لا يقرأها الكثيرون، وإن قرأوا لا يعون، وإن وعوا لا يعملون. وهذه حقيقة لا يمكن إنكار وجودها، وليس هو توصيف سوداوي.

وأكبر دليل على ما نقول هو غياب مشروع بديل يواجه ما يسمى بالمد الثقافي الغربي، فيكون الحديث عن "الغزو الثقافي" أو أي مصطلح نصنعه مجرد سراب لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فإن كان ابني وابنك وأختي وأختك يتنفسون الثقافة الغربية بسلبياتها الواضحة يومياً، لذا سنكون كمن يناقش دورة حياة الفراشة، في الوقت الذي تغرق فيه السفينة التي تُبحر بنا في ليل عاصف وموج هائج.

وأؤمن أن ما نسميه الغزو الثقافي ما هو إلا آية من آيات الله المذكورة في القرآن الكريم، والمشكلة هو في الاختلال الحاصل في تطبيق الآية لا أكثر ولا أقل.

الآية هي قول الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (البقرة: ٢٥١)، تبين الآيات أن الفساد المترتب على المدافعة والضرر المتوقع من الجهاد لا يُقارن مع نتائج ترك الجهاد. بمعنى آخر إنّ عملية "المدافعة" ضرورية لحفظ التوازن لصالح قوى الخير بتحفيزها بالطريقة الصحيحة والتي قدمها الباري عز وجل من خلال قاعدة واضحة الملامح، وهي تقديم كل مقومات القوة لوقف زحف "الفساد" في الأرض، ولا يمكن ذلك إلا بوجود قوة ممكنة الاستخدام، وما نسميه "الغزو الثقافي" ما هو إلا نتيجة الإنكفاء عن "الدفع"، وبالتالي تسيطر المناهج السلوكية والفكرية البعيدة عن روح الإسلام في الحياة اليومية، وما يستتبع ذلك من تفاعل يومي مع صور تلك الثقافة سلوكاً وفكراً وثقافةً.

لذا، لا وجود لغزو بالمعنى "الهجومي" المتناول في استخدام كلمة "غزو"، بل هو "مد" طبيعي قد يعقبه "جزر" أو تسونامي، وهذا يعتمد على موقعنا من تطبيق مبدأ آية التدافع المذكورة سابقاً.

وما يُقدم من أدبيات دون وضع أطروحات عملية ما هي -حسب وجهة نظرنا المتواضعة- إلا تبرير لضعفنا الذي نتوارى منه وراء مصطلحات تختزن في داخلها "القوة" و"السيطرة" و"الهيمنة" للطرف الآخر، وما هو حاصل لدينا من تمثّل للثقافة الغربية والأمريكية إلا واقع لما قاله ابن خلدون "المغلوب دائماً يتشبه بالغالب".

ليس هناك غزواً ثقافياً بل مداً ثقافياً قد يطول أو يقصر اعتماداً على من يزود ذلك المد بالقوة والاستمرار، لتتشكل كل مفردات تلك الثقافة في نمط التفكير والسلوم والتفاعل مع الذات والآخر.


*هل لكل مجتمع الحق في التبشير بثقافته لباقي المجتمعات؟

- ليس من حق كل ثقافة إيصال أفكارها إلى بقية المجتمعات، بل من واجبها فعل ذلك، لتجسر الهوة مع بقية المجتمعات لتصل إلى "التعارف"، وهو الهدف من وجود الملل والنحل على وجه الأرض.

قال تعالى "وجلعناكم شعوباُ وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم" (الحجرات ١٣). ويبقى السؤال في طريقة وهدف طرح ثقافة أمة وشعب على الآخر،فهناك فرق بين أن تتحاور بصوت مسموع ليفهمك الآخر أو أن ترفع صوتك لتُرهب الطرف المقابل بحجة الحوار.

وما نراه من واقع طرح الثقافات في عالم اليوم، ليس "تعارفاً" بل "تنافساً" للثقافات القوية، وإما الضعيفة منها فهي تكون "تابعة" لا "متعارفة" ولا "متنافسة". والثقافة الإسلامية "مترنحة" بين "التنافس" و"التعارف" بدرجات متفاوتة؛ نتيجة غياب مشروع نهضوي ممنهج في خطاب الداخل الإسلامي ومن هو بالخارج. وذلك بالرغم من وجود مقومات ذلك الخطاب والمشروع، إلا أنه غائب عن التطبيق لأمور يعرفها الكثير، ويطول مقام شرحها في حال طرحها الآن.


* ما السبل التي يتبعها الغرب لإيصال أفكاره للغير؟

- للغرب قوتان صلبة وناعمة، كما يطرحها "جوزيف س.ناي" في كتابه "القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، والذي يطرح فيها نظريته للتفوق الأمريكي المستديم من خلال ثقافتها وصورتها التي يريد لها أن تعيش في كل عين وفكر عبر "سبايدر مان وأفلام هوليوود"، وفي كل "معدة" عبر "ماكدونالد"، وعلى كل جسم من خلال "كالفن كلاين" و" قوتشي" وغيرها من ماركات الثياب الأمريكية وتوابعها.

ونعتقد بأنها وسائل مباحة في "تدافع" الأمم الذي ذكرناها سابقاً.ولا يمكن مصادرة تلك الوسائل، وما ملاحظتنا كمسلمين إلا في محتوى تلك الوسائل لا في نفسها، وهو أمر طبيعي حسب خلفيتنا الثقافية والفكرية والدينية. لذا فواجبنا هو "إشباع" تلك الوسائل بالمحتوى الذي نريده، لتقديمه للآخر. لقد أصبحت الهوّة بين الأمم في المجال التقني متقارب نوعاً ما، وما الاختلاف إلا في وضع المنهج العملي للاستفادة منها متمثلة في السياسة الداخلية والاقتصادية، فضلاً عن "العقلية الجماعية" للمجتمع، والتي تزرع "البذرة" الأساس للتغيير من الداخل.


* لماذا نجح الغرب؟

- نجح الغرب عندما أخذ بأسباب القوة في تنظيم أمورهم، وجعل رؤيتهم للحياة جزء يومياً يعيشونه ويتفسونه ويشربونه ويرونه. ولم يقتصر تقدمهم في المجال الصناعي فحسب، وإن كان الأخير مهماً في تصدير منهجهم للحياة عبر تلك التقنيات والبضائع. حيث أصبحت الرسائل الموجهة من قبل المجتمع الغربي مدروسة وفي قالب "بضائعهم" التي يستهلكونها، وفي تلك المصدرة للعالم، حتى بات كحصان "طروادة"، ولكنه مصنوع من تقنيات عالية ومحشو بداخله أفلام هوليوود، وأطعمة الوجبات السريعة والتقنيات الحديثة وكل تلك الصور التي ترسم طريق "الحصان" وهدفه.

لقد نجح الغرب في ميادين متعددة وأخفق في أخرى، نجح في تقدمه وتسويقه لنفسه كل يوم كرافع لراية الحرية والتقدم، وبذينك العنوانين اللذين زودهم الغرب بالأدوات العملية أصبح حاضراً بقوة، ولا يمكن إنكاره. وأخفق في زاويته الأخلاقية والنفسية ليصبح ويبيت على كل أنماط السلوك العائمة دون هداية، لتصبح النتيجة "هجوم خفي" من زاويتهم المظلمة في الجانبين الأخلاقي والنفسي على "الزاوية المضيئة" في جانبهم العملي والعلمي.

لقد تعدّى الغرب مسألة التنظير، ليجعل ما على الورق سلوكاً يتعامل به الفرد ويعيشه. في حين بقي الآخرون ممن لديهم مدارس مختلفة ومناهج وديانات -ومن ضمنهم المسلمون-يحتفظون بأوراقهم ويتناقشون فيها وعليها ومنها ولها. وذلك دون الحراك الفعلي لتقديم أنموذج "ملموس" ليصبح تجربة تنافس تجربة الغرب، ليكونا في موقع خيار للعالم، بدلاً من أُحادية مفرطة الجانب عن الغرب.

وإن كانت تجربتي إيران وماليزيا حاضرة إلا أنهما لم تخرجا من حدود تلك الدولتين لتشكلا منهجاً أو خطاً أو مشروعاً يمكن الاستدلال به والعمل عليه.




* كيف نستفيد من تجربة الغرب في الترويج لأفكارهم وثقافتههم؟

- لقد اعتمد الغرب في "نشر" ثقافته على ثلاثية مهمة، وهي النشر والنشر والنشر، بمعنى أنهم لم يقدموا نموذجهم إلا من خلال وجود منهج أولاً، وابتكار الأساليب لتقديمها ثانياً، ومتابعتها لتكون مستمرة ثانية، وبالتالي فإن تلك الثلاثية ستركز في الذهن،وعندما يكون ذلك، فيمكنك الإطمئنان بأن رسالتك قد وصلت ولصقت، والنتيجة بقاءك في سلوك الآخر.

وإن حصل ذلك، فإنك ستبقى معه وتكون جزءً منه، ومعنى ذلك أنك ستكون في كل مكان مع كل منتج وفكرة وموسيقى وفيلم وكتاب.

* ما السبيل لصد تلك الهجمات الغربية على مجتمعاتنا؟
- إذا إردت أن تواجه مداً عاتياً، فهناك طريقتين لا ثالث لهما، إما بتحوير مسار المد أو التخفيف منه عبر بناء سدود أو حفر خنادق، وإما بتوظيف المد وتحويله إلى طاقة للاستفادة منه، وبالتالي تحويل "التهديد" إلى "طاقة" بشرط توافر الآليات والمعدات اللازمة لذلك.

وفيما يتعلق بالمشاريع الإسلامية التي يمكن أن "تحور" و"تخفف" أو "تحول" المد الغربي، فالأمر متعلق بتوفير "العدة" اللازمة لذلك، وإلا فلا داعي للسؤال، وسيبقى المد وأمواج منه مستمرة لا تتوقف، وليس لديك خيار ثالث إما السباحة ضد التيار وستتعب وتهلك، وإما السباحة معه، ولا تدري إلى أين سيوصلك.

أولاً: لا يكفي طرح مشروع هنا ومشروع هناك تحت الإطار التثقيفي فحسب، فالبطن الجائع لا يهمه فكر، والعين التي ترى "الزخارف" وحلو الحياة من على الشاشة، لا يهمها ما تقدمه إن لم يكن من القوة لتوقفه وتجعله يتفاعل مع ما تطرح.

واعتقد أن ما يُطرح من مشاريع ما هي إلا بمثابة "إكمال حجة نفسية" على الذات، بأنها قامت وفعلت ونظمت، هو تخدير موضعي وحلم مؤقت بدعوى "تقديم البديل" و"المواجهة"، لا أكثر ولا أقل.

وليس هذا بتقليل للجهود، فنحن نملك من الطاقات ما يجعلنا نتعدّى دائرتنا المحلية لتصل إلى الغرب في قعر داره -إن أحسنا استخدام الأدوات المناسبة لذلك-. وعوداً إلى أحد "أدوات العدّة" اللازمة للخطاب الإسلامي، وهو وجود منهج واقعي متكامل يخاطب الذات في الداخل الإسلامي، ويحاور الآخر الغربي، ونعتقد بأن دائرة مخاطبة الذات لم تأخذ حقها بعد.

فليس وضع "فعاليات ثقافية" بمشروع، وليس وجود قنوات شيعية بالصورة المطروحة في أغلبها بمشروع، وليس إنتاج مسرحيات أو أفلام قصيرة متفرقة هنا أو هناك بمشروع، وليس إصدار مجلات ونشرات بمشروع، كلها جزر متفرقة أو "فتات طعام" لا يُسمن ولا يغني من جوع.

وإذا أردت الدليل فانظر إلى ما يشاهده الناس وما يلبسون وما يأكلون وما يسلكون، فإذا لم تستطع أن تصيغ سلوك الفرد، فما تقوم به إلا تقديم "حبة بندول" لإرضاء ضميرك، وتعتقد بأنها "إكمال حجة" على الآخر.

وإذا أردت العلاج، فالقرآن يقدمه من خلال منهجية الخطاب الدائم والمستمر للأنبياء، ومنها قصة سيدنا نوح (ع)، حيث يوصف حالة الدعوة لديه "قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً،....ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً"."نوح".

وبالمثل كانت دعوة نبينا المصطفى (ص)، كانت دعوة "ممنهجة" ولديها خطة زمنية موضوعة، وكذلك الأئمة (ع) من أهل بيت النبوة، لم تكن منهجيتهم في "التنظير" والدعوة لمواجهة خطابات الطرف الآخر المشوه للإسلام، بل كانت دعوتهم مخططة ومرسومة، وفي الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مثالين يستحقان الدراسة المعمقة لمعرفة آليات المواجهة وأساسياتها من منظور قرآني ونبوي.

لا يكفي الإدعاء بغنانا بإسلامنا إن لم تستفد من جواهره وكنوزه، فأين نهج البلاغة دراسة وتطبيقاً وبحثاً وتحليلاً في حياتنا، أين الصحيفة السجادية كدروس في تربية النفس والجيل الحركي في مجتمعاتنا، بل أين قبلهم القرآن الذي جعلناه "قراطيس" عبر حفظ وتجويد وترتيل-وإن كان جيداً- بدلاً من أولوية طرح منهجه في التغيير والمواجهة وبناء المجتمع.

ثانياً: بعد وضع المشروع والتزود من مصارده الطبيعية، لابد من تحويل تلك الطاقة إلى مفردات وسلوكيات يومية يتفاعل معها الفرد، فإذا أردت أن تحرق ورقة على سبيل المثال، لا بد من توافر (المادة القابلة للاشتعال (الوقود)، والحرارة، والهواء ).

ويتمثل الوقود في القابلية الموجودة في المجتمع ومدى تقبله للأطروحات المقدمة له من خلال العناوين العامة لمشروع الإسلامي، فإذاٍ القابلية موجودة، وأما الحرارة فهي تأتي من المشاريع نفسها، إن كانت لها القوة الكافية للتفاعل مع الناس، وأما الهواء فيمكن القول بأنه الدعم بنوعيه المادي والاستراتيجي الذي يمد تلك الحرارة باستمرارها في المادة القابلة للاشتعال.

إن البحث في "الغزو الثقافي" يستدعي أولاً "فهماً ثقافياً" لما هو موجود بيننا، وإذا كان الحديث جول هذا الموضوع بدافع الدراسة والتجليل والبدء بدفع ذواتنا للعمل، فلا بأس، وإما إن كان تقديماً لكواد مخدرة للفكر وتنظيراً عن مساوىء الثقافة الغربية ونحن "نجترها" يومياً بدون نية التغيير، فلا داعي لطرح الموضوع أصلاً. فشتان بين من يريد أن يغير ومن يريد أن ينظر.



* جعفر حمزة - باحث ومختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

ملاحظة: تم التصرف في الصور المتعلقة بالموضوع المنشور فقط لا غير

أسئلة القلوب الصغيرة



جعفر حمزة*

التجارية ١٧ سبتمبر ٢٠٠٨م

كان مستعداً لقدوم المولود الجديد نفسيا ومالياً، وكانت كتب التربية أحد صور الاستعداد التي لازمته لفترة، ليعرف كيف يتعامل مع ابنه البكر، وقد أسعفته تلك الكتب لترسم له نهجاً عملياً في تربية ابنه، إلا أن الزمن كفيل بتغيير قناعته في جدوى تلك الكتب، فهي لا تحوي كل شيء، ولا تستطيع الإجابة عن كل سؤال.
وعند عودة ابنه من المدرسة، كان السؤال الأول من الابن لأبيه -ويبدو أنه ليس الأخير-: بابا، زميلي في الصف يقول ان بيتهم قديم جداً وصغير، وهو ليس لهم بل مؤجر، وقد رأيت أراضي شاسعة مسورة ونحن في طريقنا بالباص الذي ليس فيه مكيف إلى المنزل. ألا يمكن لأصحاب تلك الأراضي أن يعطوا جزء صغيراً من أرضهم الكبيرة لعائلة صديقي؟

توقف الأب للحظات في التفكير، وأراد أن يصرف الإنتباه عن هذا السؤال "المحرج"، والذي إن نطق به هو شخصياً في المجتمع لتم وضع علامة على باب بيته -كما فعلت عصابة الأربعين حرامي على باب بيت علي بابا-، وما زال الإبن ينتظر الإجابة الشافية و"المنطقية" لهذا السؤال، فكانت الإجابة: إذهب وغير ملابسك وتابع فروضك المدرسية.

لم تكن تلك الكتب الذي وضعها في مكتبته تملك الإجابة، فهي تربوية وليست غير ذلك.
ومضى السؤال الأول مع تغيير الابن لملابسه المدرسية.

تجمعت العائلة حول مائدة الإفطار لتتناول الإفطار وتشاهد مسلسلها المفضل.
"بابا، صديقي حسن يقول أن أخاه متخرج من الجامعة ولديه شهادة كبيرة، ولم يحصل على وظيفة لحد الآن. وكلما ذهب لتقديم وظيفة قالوا له أن ليس هناك شاغر. لماذا؟ أليس من لديه شهادة يمكنه العمل؟ هناك الكثير من الأجانب، لم لا يعطون أخ حسن الفرصة للعمل؟
لم تصل قطعة "الثريد" إلى بلعوم الأب بعد، ليكون السؤال "الطلقة الثانية" بعد إطلاق مدفع الإفطار، وشتان بين الطلقتين، فالأولى ليفطر الصائمون، والثانية ليفكر ويعمل من عليه إصلاح الأمور، والمهمة صعبة، لا يستطيع القيام بها حتى "توم كروز".
وكانت الإجابة: بابا، عليك الإهتمام بدروسك، ولا تهتم بما يقوله غيرك.

هل هذه هي الإجابة النموذجية أو على الأقل الواقعية؟. ربما نعم، وربما لا. من يدري.
ولم ينتهِ طبق "الثريد" المفضل للأب حتى بادر الأب ليسبق أي سؤال "محرج" لا يود الخوض فيه: بابا، ما أخبار المدرسة في لأيام الأولى؟

ليكون الجواب ضمن "عقد" يبدو أن الأبن يشكّه بعفوية افتقدناها وابتعدنا عنها عمداً أو قسراً: بابا، المواصلات غير كافية، وبعض الصفوف ليس فيها تكييف، وكثير من الطاولات غير صالحة لاستعمالها. ألا توجد عند الوزارة المال؟

ويبدو أن الإجابة على هذا السؤال ممكنة، إلا أن الأب فضّل السكوت والإشاحة عن هذا السؤال، لكي لا تفتح له أبواب لا يعرف كيف يخرج منها، وخصوصاً أنه يتعامل مع ابنه ذو السنوات العشر. فهل يفتح له كتاب الاستملاك للأراضي من غير حساب، أم يتصفح فصل التمييز الوظيفي في سوق العمل، أم يقرأ له قبل النوم حكاية غياب التخطيط الأساسي في أهم وزارة في أي دولة بالعالم، وأقصد بها وزارة التربية والتعليم.

لم يرد الأب أن يفتح أي كتاب من تلك الكتب أو حتى أن يلق نظرة على الفهرس أو بداية المقدمة، فكانت الأسئلة تمس صميم أساسيات المجتمع، ووقع الأب في حيرة هل يُجيب على تلك الأسئلة لينشغل الولد الصغير بملفات "معقدة" لم يستطع كبار القوم حلها، فضلاً عن الحديث عنها بصراحة تامة، أم يتغافل عن تلك الأسئلة التي لا تتوقف، وربما يدع غيره ليجيب ابنه عليها؟

وبدل أن تكون هناك "حكاية قبل النوم"، كانت حكاية الابن القاسية على الأب، عندما قبله على جبينه قبل أن يخلد للنوم: بابا هل سيأويني بيت عندما أكبر وأتزوج. هل سأحصل على بيت؟، فسأله الأب: ولم تقول هذا؟
فأجاب الابن: سمعت في الصف أن زميلي محمد لديه أخ انتظر عشرين سنة لم يحصل على بيت.
فكم سنة سأنتظر أنا؟
"حكاية قبل النوم" لم تعد بنهايات سعيدة كما كان معهوداً فيها.ومع الكثير من "الملفات الاقتصادية والسياسية" المتراكمة لم يعد هناك وقت للتفكير في الحكايات، ويبدو أن اسئلة الابن ستزداد يوماً بعد يوم، ولن تنفع معه كل كتب التربية وعلم النفس للإجابة على أسئلته "البديهية" التي تمثل "حكاية" على المعنيين بصناع القرار السياسي والاقتصادي الإجابة عليها بطريقة "بديهية". وفي غير تلك الحالة فإن تلك الأسئلة ستكون جزء مهموماً في عقلية جيل يفترض به أن يمسك راية المستقبل لهذا البلد الغالي على الجميع، فعندما يتضوّر "الموظف" جوعاً ومديونية قاصمة للظهر، فهل سيفكر في تطوير العمل، فضلاً ْن أداء أساسيات العمل الملقى على عاتقه؟

ونعتقد بأن من أهم أساسيات التطوير والتحديث في الدول، هو أخذ الأمور والملفات بشفافية، وهي "العفوية" التي سألها الابن لوالده، وفي غياب "العفوية" في السؤال، سيتبعها غياب مماثل في الإجابة والمعالجة، وبالتالي تتراكم الأسئلة والملفات لتتعقد وتتشابك لدرجة يصعب حلها من الأساس، لتتم معالجة الطبقة الخارجية منها دون معالجة اللب.

وما تلك الأسئلة "العفوية" التي طرحها الابن إلا حقيقة بحاجة إلى معالجة "صريحة" في قطاع الإسكان وسوق العمل والتجنيس العشوائي، وغيرها من "الملفات" المسكوت عنها، والتي ستظهر إن عاجلاً أو آجلاً آثارها المتراكمة، ولا ينفع أسلوب معالجة الطرح الإعلامي الداخلي والخارجي لوضع يحتاج لدراسة جادة ومواجهة علمية وعملية، وفي غير ذلك سيكون "الاسم شائع والبطن جائع" كما يقول المثل. وعندها ما الذي سيجيبه الوالد لابنه على تلك الأسئلة إن سألها مرة أخرى، أو أسئلة جديدة قد تتناول التجنيس والسواحل والطفرة النفطية والمشاريع الضخمة دون الحصول على بعض "فتاتها" للمجتمع؟
أعتقد بأنه سيشيح بنظره عن تلك الكتب وسيقرأ شيئاً آخر ليتعرف كيف يجيب على اسئلة ابنه الواقعية।

* مختص في ثقافة الصورة، والاقتصاد المعرفي.


عرفني ففكر وسبقني فابتكر



جعفر حمزة*

التجارية ١٠ سبتمبر ٢٠٠٨م

كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي "الفوانيس" التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.

إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها "ضيف" من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و"الأرخص"، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.

تقول السيدة "لميس الحديدي" وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة "سي إن بي سي العربية"، تقول "الحديدي" بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)

ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس "رقاقة دقيقة" تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية "بكّار" الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.

ويذكر المؤلف "توماس فريدمان" بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)

ونقول للسيد "فريدمان" ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم "هضمها" بطريقة إبداعية عبر "معدة" محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة "لميس الحديدي" من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة "الزئبق" الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك "نيّة مُبيتة" ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين "مصر"، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني "شهر رمضان" بأداة يستخدمونها "الفانوس" سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.

ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع "منتجات" ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات "الحلال"، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية "الحلال" معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي "ماكدونالد" بوجود منتجات "حلال" ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع "التفاعل" مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي "على القياس" دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن "الصين" محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
"مسايرته" بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)

ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع "التنين" عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي "تحوّل" ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من "التنين الصيني" عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن "يعرف الآخرون ثقافتنا ف"يفكرون" كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي "يسبقنا" الآخرون في "الابتكار" ، أو على وزن المثل القائل "ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح "عرفني ففكر، وسبقني فابتكر".

(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman

ملعقة وحقيبة



جعفر حمزة*

التجارية ٣ سبتمبر ٢٠٠٨م


يبدو أن الحكمة من وجود جيبين في الثياب هو دفع المال بكلتا اليدين، لو كان للإنسان ثلاثة أيدٍ لكان الجيب الثالث موجوداً। وقد تراءى لي استخدام آخر لذلك الجيبين في الموسم الذي نعيشه الآن، حيث أصبح جيب لمستلزمات شهر رمضان "كما يحب البعض أن يسميها" وجيب آخر للأدوات المدرسية، وكأن تزامن شهر رمضان والمدارس يقدمان "حكمة" جديدة لوجود الجيبين।

فما يراه المرء من "احتفالية" في عرض البضائع من أطعمة بألوان قوس قزح وأكثر و"تهافت" موسمي عليها لدرجة أن يُخيّل للمرء بأن حرباً على الأبواب، وما ذلك إلا استعداداً لتخزين "المؤونة" والاعتماد عليها في فترة "القحط أو الضرب في الحرب"، تلك الصورة التي تقدم سلوكاً لا ينبغي "الفلسفة" فيه لبداهته وبساطته المعروضة، يستدعي التأمل وقراءته بإنصاف قد لا يعجب البعض إن لم يكن الكثيرين।

هل السلوك الدافع لتشكيل نمط الشراء لحاجيات رمضان أو للمعدة يمثل أمراً طبيعياً ولا داعي للخوض فيه أم أن الحديث حوله بات ضرورياً لإعادة قراءة ما صار مُعتاداً وأمراً ثابتاً لا يتغير، لمعرفة تداعياته إن وُجدت؟
وبعبارة أخرى هل أصبح السلوك الشرائي ما قبل وأثناء وبعد شهر رمضان (العيد) "ملعقة" لا يمكن الاستغناء عنها في تناولنا للطعام؟ أم أن استخدام اليد يبدو خياراً عملياً آخر؟

وفي الجانب الآخر، نرى أن شراء مستلزمات المدارس ذات مواصفات من جهتين "المدرسة والطالب"، حيث أصبح للطالب مواصفاه الخاصة لشراء ما سيكون له لصيقاً له طوال الفصل الدراسي. فهل أصبحت لل"الحقيبة" مواصفات معينة من لون ورسم وشخصية كرتونية أو بطل فيلم لتتم الموافقة على اقتنائها من قبل الطالب؟ حيث لا يمكن تجاهل تلك "الموضات" والاكتفاء بحقيبة لا وجه لها ولا شخصية؟

وبين "الملعقة" (شراء حاجيات رمضان) و"الحقيبة" (شراء المتسلزمات المدرسية)، لا بد من وقفة لمعرفة بذور ظهورهما (الأسباب) وثمارهما (النتيجة).

بذرة الملعقة
كنتُ في محادثة مع إحدى النساء الكبيرات في السن حول شهر رمضان، ولم تكن تتخيل أن يغيب عن "سفرة" الإفطار بعض أصناف الأطعمة، والتي باتت لصيقة بشهر رمضان حضوراً في المائدة. وذلك بالرغم من إخباري لها بعدم أهمية الأمر، فهو مجرد طعام يفطر عليه الإنسان المسلم بعد صيام نهار يوم كامل، فما الذي سيضيفه هذا الصنف أو ذاك إلى معدته بعد الشبع؟
لم يكن كلامي معقولاً أو مقبولاً لها، ولها حق في ذلك، فالارتباط الشرطي والصورة "التزاوجية" بين شهر رمضان والعديد من أصناف المأكولات، لا يمكنك أن تفكه بكلام أو مناقشة ولا حتى بتحليل علمي واقتصادي.
ويكمن سر بقاء "الملعقة" معززة مكرمة هو "انتقال" ذلك الشعور الذي بات "عرفاً" لدى الناس عبر الزمن ليحتفظ بإطاره الذي لا يتغير بالرغم من تغير الظروف المحيطة وتبدل الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة لذلك "الإطار المتعارف عليه" الذي لا يمكن نزعه أو تغييره أو حتى مجرد النقاش فيه، لكونه أصبح "جزءً" من سلوك ذلك المقتدر مالياً وذلك المغلوب على أمره، أي بعبارة أخرى تحول إلى "عقلية ممارسة موسمية" في كل سنة.
ويدفع الكثير من الناس أنفسهم لبقائهم ضمن ذلك الإطار ليعيشوا-حسب تصورهم- أجواء شهر رمضان وأساسياته الأولية.
وقد لعب الإعلام إلى جانب العرف الإجتماعي دوراً بارزاً في تضخيم ذلك الإطار وتثبيته، بتقديمه للدعايات التلفزيونية والصور البصرية المتعلقة بشهر رمضان، والتي تعزز بقوة وجود ذلك الإطار في السلوك الشرائي للفرد، لتنتقل من صندوق العرض "التلفزيون" إلى صندوق المنتج الغذائي، عبر ربط لا ينقطع.

ويدخل عبر بوابة شهر رمضان بند مخفي للصرف اليومي طوال ثلاثين يوماً، متمثلاً في عناوين الربح والظفر بالجوائز عبر برامج ومسابقات تضع لك الشمس في يد والقمر في اليد الأخرى لتمنّي نفسك بالظفر بأحدهما أو كلاهما.
وبالتالي تكتمل الصورة ويشتد الإطار متانة وقوة، سلوك شرائي لا يتوقف لحاجات الشهر وآخر تفاعلي لا يمكنك مقاومته، عندما تُعرض لك الجوائز والأموال بين ناظريك، فلا قيمة لدينار أو نصفه تصرفه على المكالمة أو الانتظار، وكأنّ بنا مسحة ساحر أو حلم شاعر.


ثمار الملعقة
تحول السلوك الشرائي إلى جزء من سلوك جماعي من الصعب الابتعاد عنه بل حتى التعليق عليه بنقد أو ملاحظة.
ونتيجة لذلك يصبح الفرد "ماكينة صرف" موسمية، يستفيد منها المعلنون والمروجون و"القطط" -بعد الإفطار-، ويتحول شهر رمضان إلى "غنيمة سمينة" لا يمكن تفويتها، فمن يفوت "بقرة حلوب" تدر عليه الأرباح ويعزز الكثير من القيم والسلوكيات السلبية في إطار زمني معروف ومحسوب، ويمكن الإعداد له مسبقاً.
وتتحول "الملعقة" إلى "هواء" لا يمكن الاستغناء عنه، لتكبر تلك الملعقة لتصبح "مُعلَّقة" على جدار كل بيت.
وارجاع تلك الملعقة إلى حجمها المعقول، لا يبدو ممكناً في ظل تصاعد الصور وتراكم الأعراف التي تحولت إلى شيء من "الطقوس" التي لا يمكن الحديث عنها، فضلاًَ عن المطالبة بإنزال الملعقة إلى مكانها الطبيعي.
ويتطلب الأمر تقوية في الجبهة الداخلية لكل بيت، لينتشر "مضاد الفيروس"، ولا نعتقد بأن المهمة مستحيلة، مع وجود العنصر الديني في المعادلة، والذي لم يتم توظيفه بالطريقة الصحيحة بالتزامن مع منهج عملي ملموس في المجتمع، ليتم تصغير حجم "الملعقة" والتعامل مع شهر رمضان بواقعية أكثر وإنتاجية أكبر، بدلاً من الصورة النمطية المقدمة من إنتاجية قليلة في النهار وأكل وسهر ولهو في الليل.
وعند الحد من تلك العقلية سيتم "تقليم" أظافر بعبع الاستهلاك للشهر الفضيل.
ولا يمكن إغفال جانب "الغلاء" من ضمن عناصر تشكيل السلوك. والذي بات "صداعاً" يمكن للحكومة الإسهام في التخفيف منه، ليس عبر توزيع "بندول" بل من خلال معالجة أساس المشكلة. ولا يمكن ذلك من خلال توزيع الأسماك، بل توزيع السنارات.




بذرة الحقيبة
لكل زمان أهله، كما لكل زمان ماركاته أيضاً. كنا أيام الدراسة نمنّي نفسنا بالحصول على الدفاتر السوداء ذات الخط الأحمر على طرفها، والتي كان يستعملها صاحب الدكان أو البقالة في القرية لجرد حسابته البسيطة.
أما اليوم فقد تحولت تلك المساحة ذات اللون الواحد إلى "ساحة" لعرض الهويات المختلفة من أبطال أفلام إلى شخصيات كرتونية، ومن الصعب منع تلك الموجة من "كسر اللون الواحد" في المستلزمات المدرسية، من القلم إلى الحقيبة.
لقد تحولت "الحقيبة" إلى جزء من ضمن باقة يختارها الطالب لتعكس نمط ذوقه الذي يميل إليه ويعيشه تلفزيوناً ورسوماً ودراسة!
ونتيجة لذلك تحول شراء الأدوات المدرسية إلى مهمة أخرى يجب فهمها والعناية بها، ليتشكل لنا إطاراً جديداً سنعيشه لسنوات قادمة.
إطار من الصعب أن تبتعد عنه، لأنك ستكون مختلفاً ووحيداً عن البقية، وسيشعر ابنك أو ابنتك بانعزال الصورة عن الطلبة الآخرين. لذا لا بد من "حشر مع الناس عيد"، ومن الذي أسس السلوك الأولي، أي من الذي نشر ذلك الفيروس في السلوك الشرائي؟ لا أحد يدري..
ذلك الفيروس الذي حول الأفراد إلى وحدات استهلاكية ترسمها الماركات والموضات، بدل أن يكون الفرد هو المركز، تحول إلى الأطراف ليبحث بل ويدفع من جيبه ليكون في هذا المركز الذي تحتله الماركات.
ولتكون هذه الشخصية الكرتونية محور الإهتمام، ليتطلع الطفل إلى كل زاوية من سلوكه ليجدها فيها، مأكله، مشربه، ملبسه ودراسته.



ثمار الحقيبة
دخول طرف ثالث في العلاقة المباشرة بين الطالب والسبورة، لتكون "الحقيبة" بينهما، فبدلاً من أن تكون حاوية للكتب والكراسات، أصبجت حاوية لأدمغة الطلبة والطالبات ضمن جوقة موسيقية أبطالها الشخصيات الكرتونية والممثلين والممثلات، ليقتحموا الأقلام والكراسات والمساطر والحقائب وكل الأدوات المدرسية، لتكتمل الحفلة الموسيقية اليومية التي ستثمر عن صرف مضاعف من الجيب وتشتيت مضاعف من العقل للطالب.
ولا يمكن الاستناد على هذا التحليل كرأي علمي بقدر ما هو ملاحظة سلوكية تحتاج إلى دراسة وتعزيز، وعندها ينبغي اتخاذ الخطوات اللازمة من كل بيت، والذي يمكن أن يغير "الحقيبة" ليجعلها سلوكاً اجتماعياً إيجابياً جديداً، بدل أن يساير الموجود ويصرف ما عنده ويجود.

وبين "الملعقة" و"الحقيبة" مساحات شاسعة تفصلنا عنهما كعقلية ينبغي مراجعهتا وتوجيهها بالطريقة الصحيحة. فبداية التغيير تتمثل في إرجاع الأمور إلى نصابها الواقعي، فالملعقة يجب أن تكون في مكانها وحجمها صغير، والحقيبة يجب أن تكون حاملة للكتب لا مشتتة لها.

وإن كان لا بد من تلك السلوكيات إلا أن تفرض وجودها، يمكن من خلال الحكومة تأجيل الدراسة كما قامت به السعودية لما بعد شهر رمضان، على الأقل يمكن الصرف من جيب واحد بدلاً من كليهما.



مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.