300



التجارية ٢٨ أكتوبر ٢٠٠٨م

جعفر حمزة *

كانوا ٣٠٠ فقط قبال جيش جرار يحجب الشمس إن رمى السهام، ومع ذلك بقيت اسطورة أولئك النفر باقية لحد الآن، بغض النظر عن كل الملاحظات التاريخية عن القصة، والذي ترجمها الفيلم السينمائي الذي حمل عددهم اسماً له. ويشهد التاريخ تجارب من مختلف الديانات والحضارات أن العدد ليس هو الرهان الوحيد الذي يمكن الاتكال عليه للمضي قُدماً في تحقيق الانتصارات، سواءً على الصعيد العسكري أو الاجتماعي، أو الاقتصادي.

ومن الحكمة قراءة تلك التجارب، وأولها تجارب من حضارتنا الإسلامية، والتي تقدم أساساً للتنمية والتغيير، وتعتمد تلك المعادلة "المنتصرة" على مثلث تتمثل أضلاعه في التالي: الضلع الأول: وجود الرؤية. الضلع الثاني: وجود آليات تطبيق الرؤية. الضلع الثالث: وجود الكوادر التي تؤمن بالرؤية وتأخذ الأدوات لتطبيقها.
ولو لم تكن هناك رؤية واضحة للجنود ال٣٠٠، ما تحركوا شبراً واحداً من مكانهم، وكانت لهم الآليات الكفيلة بثباتهم في المعركة، عبر ما استفادوا منه من أدوات وذكاء। وقبل كل شيء كان هناك الجنود المؤمنون بما يقومون به، وبالتالي تحققت رؤيتهم، لتصل عبر آلاف السنين إلى يومنا هذا ليكون فيلماً سينمائياً بعد أن كان له حضور في القصص المصورة.

وفي العديد من تجارب العصر الحديث أمثلة أخرى للأخذ بمثلث التغيير، منها على سبيل المثال لا الحصر اليابان، فخلال ٦٠ عاماً تحولت من دولة منكوبة بقنبلة نووية مطأطأة الرأس مهزومة إلى ماسكة وبشدة اقتصاد قوي لا يُستهان به. وكذلك هي سنغافورة وهونج كونج وإيرلندا، والعديد ممن آمنوا برويتهم واستعملوا الأدوات اللازمة، وبين هذا وذاك كانت الكوادر التي طبقت الرؤية فظفرت مجتمعاتهم بالتميز والتغيير الإيجابي.


وفي جزيرتنا الصغيرة، فإننا نتطلع إلى٢٠٣٠، إذ تمثلت عبر رؤية وطنية تمت صياغتها ومشاركتها مع المختصين والخبراء والمعنيين، وذلك من أجل رفع مستوى الوطن والمواطن عبر ملفات عدّة ستضع البحرين عبر إنسانها على طريق العالم، بدلاً من الجلوس على جانب الطريق।
وليس ذلك ترفاً أو "مظهرة" كما يحسبها البعض والذي اختلف معهم بشدة، فوضع رؤية اقتصادية للدولة مع وجود خط زمني لتحقيقه أمرٌ أصبح ضرورياً لتلك الحكومات التي تريد أن يكون لها موضع قدم في خضم التغييرات الدولية والتي تتسارع بوتيرة لا مجال للتنظير والكلام، فالقطيع الإلكتروني لا ينتظر أحداً أبداً.(١)

إنّ رؤية البحرين ٢٠٣٠ هي حلم كل بحريني، لأنها تعكس أكثر من مجرد مطالب أساسية له، بل تتعدى ذلك إلى خطوات متقدمة في المجال الاقتصادي، والذي بات أمراً لا يمكن غض الطرف عنه، في ظل ظروف متغيرة بوتيرة سريعة جداً. وما نرمي إليه هنا ليس في مناقشة الرؤية، فواضعوها أولي خبرة واختصاص، بل إن ما نود طرحه هو إمكانية تحقيق تلك الرؤية عبر مثلث الإنجاز الذي ذكرناه بالمقدمة.

الضلع الأول: الرؤية إن الرؤية المقدمة قد تم صياغتها بعد تشاور من قبل المختصين والمعنيين في البلد، وبما هو مطروح منها، فهي تمثل غاية كل مواطن ينشد حياة كريمة يستحقها، فضلاً عن دوره التغييري في عالم اليوم. وخصوصاً مع تصاعد التحديات في مجال الطاقة والاستثمار، وغيرها من الملفات التي تمثل تحدياً متواصلاً للدول، وليس البحرين ببعيدة عنها.

الضلع الثاني: الآليات قد تكون حجة ضعف الآليات وارداً قبل ٣٠ إلى ٤٠ سابقة، أما الآن فإن التقنية والتطوير في آليات التنفيذ وأخذ المشاريع وتطبيقها على أرض الواقع أصبح ممكناً، بل ومتاحاً لدى الكثير من الدول النامية. وبالتالي تسقط حجة غياب الآلية أوضعفها، بل أن تلك الآليات أصبحت في متداول أيد الدول عبر مفاوضاتها الثنائية ومعاملاتها الاقتصادية والتجارية مع دول العالم المختلفة. وعند الحديث عن دولة خليجية كالبحرين، فإن الآليات والتقنية تتمتع ببيئة يمكن أن تكون أكثر من مميزة ومعلماً في منطقة الشرق الأوسط. ولا أدل على ذلك من توافر التقنيات وعقد الاتفاقيات مع كبرى الشركات في العالم في مجال الحاسوب والاتصالات، والتقنيات الصناعية المبتكرة، وما يمكن الحصول عليه أكثر مما هو موجود حالياً. وبالتالي يتحقق الضلع الثاني في تنفيذ الرؤية. فمن التالي؟

الضلع الثالث: الكوادر
وتتمثل الكوادر في صفين، هما الصف الأول المتمثل في القيادات وماسكي الرؤية والمطالبين بتطبيقها والأخذ بها، والصف الثاني هو في الكوادر الوطنية التي يٌعتمد عليها في معايشة تلك الرؤية عبر عملهم وإبداعهم وابتكارهم وتفانيهم، بل وتنفس تلك الرؤية في كل يوم عمل، بل وفي كل سلوك يومي، لتصبح عقلية ممارسة بدلاً من رؤية اقتصادية مطروحة في المحافل الداخلية والخارجية.

وما يهمنا هو الضلع الثالث، والذي سيكون "الورقة الرابحة أو الخاسرة" لهذه الرؤية، بل ولكل مشروع يتم طرحه. فهل هناك كوادر مؤهلة لتبني الرؤية المطروحة للبحرين ٢٠٣٠م؟ تذكر التقارير من ديوان الرقابة المالية والتي تظهر قدراً واضحاً من الشفافية مقدار الخلل في العديد من الدوائر الحكومية، مما يسبب ضعفاً لا في الرؤية الموجودة ولا في الآليات المستخدمة، بل في الكوادر الماسكة بزمام الأمور، فالفساد المالي أو الإداري، لا يأتي من الرؤية ولا من الآلية التي ترسمها الرؤية، بل تأتي من الكوادر. لذا تم توضيح ذلك وبجلاء عند تدشينه للرؤية، عندما قال الملك بأن هذا البرنامج ملزم لجميع الدوائر الرسمية، مع أنه لها الحق أن تناقشه وتطوره... ونحن وجدنا أن الأفضل أن تكون لدينا آلية التواصل لإنجاز الأمور بصورة مشتركة، فالمسافات في البحرين قريبة، ومكاتبنا قريبة من بعضها بعضاً، ولدينا وسائل الاتصال المختلفة، فلا عذر لأي شخص أن يعمل في مسار لوحده خارج إطار الرؤية المطروح".

وبالتالي، تم وضع النقاط على الحروف وبصورة واضحة جداً، ليكون العنصر البشري هو المسؤول عن تطبيق الرؤية من أجل العنصر البشري نفسه أي المواطن، حيث تابع الملك قوله: «الهدف من هذه الرؤية الاقتصادية للعام 2030 هو المواطن، الفرد البحريني، فالتنمية التي لا يكون المواطن هدفها لا فائدة منها ولا نريدها... إن المواطن هو الثروة الحقيقية في البلد، والمواطن البحريني اثبت ذلك في مختلف المجالات»।
وللوصول إلى ذلك، لا بد من نزع العقبات التي يشكلها بعض الأفراد، لتتحول إلى عرف مُعاش ومعوق أساسي في التنمية، ومن تلك المعوقات التي لا يمكن إنكارها، مع الاختلاف في طريقة معالجتها، هو التمييز الوظيفي، فلا يمكن التنمية مع وجود تمميز وظيفي يوصلنا إلى وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وتبعات ذلك المالية والوظيفية والتطويرية وغيرها على الوطن والمواطن في نفس الوقت.

ويمكن الرجوع إلى تقرير منظمة "إنترناشونل كرايسز غروب" حول التمييز الوظيفي في البحرين، فضلاً عن معاينة يومية بسيطة تتوضح عبرها الكثير من صور التمييز التي تهدر الطاقات البشرية المؤهلة على حساب فئوي أو عائلي أو مذهبي أو سياسي. إذاً هناك خلل في مثلث المضي نحو الرؤية بالرغم من وجود الأخيرة، وهي الآن أوضح من ذي قبل، وبالرغم من إمكانية توفير الموارد، ومع ذلك يبقى السؤال حول إزالة عقبات التفكير الذي يقدم للمواطن الصورة السلبية ويُفقده الثقة بما هو مطروح، حين يرى أن لا بيت يؤيه، ولا يعمل يتناسب مع دراسته، بالرغم من وجود العديد من الفرص، حيث تكون الأبواب مغلقة ولا يمكن فتحها إلا برقم سري لا يملكه، نتيجة تكاثر تلك العقلية التي تريد أن تجر النار لقرصها فقط. ملفات التمييز، الفساد الإداري والمالي، والتحرك خارج إطار القانون والمسائلة لبعض الأفراد، يشكل تحدياً كبيراً في تطبيق رؤية نؤمن بها ونسعى لتحقيقها، فلا بد من إنزال "الهاند بريك" لتسير السيارة، فلا يكفي شحنها بالبنزين والضغط على دواسة السرعة إن لم يكن "الهاند بريك" قد تم إنزاله.

فهل تسير البحرين كما مضى ال٣٠٠، في خضم تحديات لتبقى؟ أم أن بعض قادة الجيش باتوا ينشرون التفرقة بين أفراده، لينقسم ال٣٠٠ إلى عشرات هنا وهناك، وبالتالي تضيع وحدتهم على الرؤية।، ولنصفى على فرقة تؤمن نظرياً بما هو مكتوب، وأخرى تسعى بإخلاص وهي قليلة لتطبيقها، وفرقة ثالثة تسابق الزمن لوضع أكبر قدر ممكن لمصالحها الخاصة


وللابتعاد عن سيناريو الفرق الثلاثة، ينبغي وضع كافة الدوائر الحكومية بلا استثناء في حالة تأهب وتغيير في بيئة العمل للقيام بتطبيق الرؤية، ويكمن ذلك من خلال تأسيس مكتب متابعة لتطبيق رؤية البحرين ٢٠٣٠ في كافة المؤسسات والدوائر الحكومية، فضلاً عن مساندة القطاع الخاص في تنفيذها، وذلك بالتعاون مع مجلس التنمية الاقتصادية. ومع وجود جيش جرار من التحديات والعقبات على المستوى الداخلي والخارجي، ينبغي أن تكون لنا روحية ال٣٠٠ لتتم الرؤية وتُستخدم الآلية وتعمل الكوادر
فهل يكون؟ أم سيكون الرقم ٢٠٣٠ مثل الرقم ٣٠٠، مجرد عنوان وسيناريو فيلم استمتعت بمشاهدته واستذكرته الآن،بعد أن صرفت سعر تذكرة المشاهدة وحسب؟


(١) مثال ذكره توماس فريدمان في كتابه" السيارة لكزس وشجرة الزيتون"، بما يتعلق بضرورة اللحاق بالمتغيرات المتسارعة في عالم اليوم.

*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

العطر الخطأ والفستان القديم



التجارية ٢٢ أكتوبر ٢٠٠٨م
http://www.altijaria.net/

جعفر حمزة*
استقبلته بعد يوم عمل شاق، وكان يتمنى أن يرى غير الذي لاقته به، فبدلاً من الملابس التي يحبها، رآها وهي في نفس الملابس التي تطبخ بها، وبدلاً من العطر الذي يميل إليه ويحبه، شم منها رائحة الطبخ وكل البهارات। وإن كان يحبها، إلا أن تلك الصور للبصر والأنف تُحدث فرقاً في العلاقة، وبالرغم من أن تلك الصور أساسية في العلاقة الزوجية، إلا أن الكثير من النساء يهملنها। وكلها تراكمات ووقت قصير، لتحدث الطفرة والنفرة في العلاقة بين الزوجين.

وهذا الأمر ليس ببعيد عن علاقة قد تكون أكثر قرباً في المكان والزمان والالتصاق، وهي العلاقة بين الفرد والماركة التجارية، حيث يعيش الفرد معها أكثر من عيشه مع زوجته أو أحد آخر قريب منه، فهي -أي الماركة- جزء منه في كل شيء، من ملابسه الظاهرة والباطنة، ومن أذنه الثانية "الهاتف النقال" إلى رجله الثانية "السيار"، ومن مشروب لا لارتواء أكثر منه امتعاء إلى الآيس كريم الذي قد يتناوله تلذذاً لا جوعاً.

وتجهد الكثير من الدراسات لكبرى شركات الأبحاث والمصانع ووكالات الإعلان العالمية على توطيد العلاقة بين الفرد والماركة، لا ليكون لها حضورٌ فاعل فحسب، بل حضور لا ينفك عن وجود الإنسان وحركته اليومية من السرير إلى السرير، أي منذ نهوضه في الصباح حتى خلوده إلى النوم مجدداً।
وتتمثل تلك الدراسات والبحوث في خلق تلك العلاقة الوطيدة ودعمها بالاختبارات وجس النبض في أكثر من زاوية للمنتج أو الخدمة، لتتحول تلك الماركة من مجرد شيء يُعرض في الرف، إلى جزء من شخصية الفرد لها "رفها" الخاص في عقله ومزاجه وذوقه وميوله، وبالتالي تتحول الماركة إلى "وقود" لا يمكن الاستغناء عنه ليُرضي لفرد عبرها شخصيته المتكونة والمتشكلة عبر الكثير من الأدوات المحيطة، من الفضائيات إلى الإنترنت، إلى الكلام المحكي والأفكار التي تسير معه يومياً.

والماركة مثل الزوجة للفرد، فكلما زاد فهم الزوجة لما يحبه الزوج ويرتاح إليه دامت العلاقة بينهما، عبر التفاهم والاتساق فيما بينهما، وكلما فهمت الماركة التجارية ما يميل إليه الفرد كلما تعزز وجودها في ذهنه، وبالتالي في سلوكه، لتصبح جزء من كلامه وشخصيته، ولا يحيد عنها ما دامت "متفهمة" "ذكية" و"جميلة" في نظره।
ومع ذلك يقولون أن "عين الرجل زايغة"، أي أنه لا يقتنع بما عنده، ويطمح لما ليس بين يديه، ومن هذا المدخل، تقوم الماركات المنافسة بلعب دور "الزوجة الأفضل"، فتقوم بالتزيين ووضع العطر الجذاب، والحديث بكلام جميل، لتستميل قلب "الزوج" إليها، وتتحول إثر "التكرار" الذكي إلى "ضرة" للزوجة الأولى، أقصد الماركة الأولى، وللشكل عبر الهوية أهمية كبيرة في رسم العلاقة بين الفرد والماركة.

في أوائل الثمانينيات، شعرت شركة كوكا كولا بتوتر شديد بشأن مستقبلها। فقد كانت هذه الشركة تهيمن ذات يوم على سوق المرطبات في العالم دون منازع। لكن أخذت بيبسي تقلص بانتظام الفارق بينهما وبين كوكاكولا। بالرغم من أن كوكا كولا أوسع انتشاراً وتنفق ١٠٠ مليون دولار على الأقل في السنة على الإعلان। وقد وصلت حدة المنافسة بين بيبسي وكوكا كولا فما سُمي بتحدي بيبسي إلى درجة الاستعانة بنتائج مختبرية للذواقة، مما جعل كوكا كولا، تعيش هاجساً انصب أكثر فيما تعنيه التركيبة الكيميائية التي تعطي المذاق المميز لها। تلك الاختبارات التي نجحت فيها "بيبسي" وانهزمت في قبالها كوكا كولا، وبالرغم من سعي الأخيرة لتبديل ملابسها عبر منتج جديد أسموه الكولا الجديدة، إلا أن النتائج كانت كارثية، وتبين من خلال غضب واحتجاجات حصلت في كل أنحاء الولايات المتحدة। وهذا يبين مدى العلاقة والتي ليس من السهل التهاون بها بين الفرد وزوجته "الماركة"। وقامت الشركة بإعادة الصيغة القديمة للكوكا كولا باسم الكولا الكلاسيكية। وقد لاقت نجاحاً، بل وتفوقاً على بيبسي، مما جعل الصراع على أشده، وما زالت كوكا كولا شركة المرطبات الأولى في العالم। وبعبارة أخرى، تشكل قصة الكولا الجديدة توضيحاً جيداً لمقدار التعقيد الدي يكتنف معرفة ما يفكّر فيه الناس حقاً। (١)


ويبدو أن تلك النتائج المختبرية كانت هي الكارثة في تعزيز العلاقة بين الماركة والمنتج "الكوكا كولا"، حيث أن تلك العلاقة لا تقتصر ولا يمكن حصرها بصورة علمية بحتة، من خلال المذاق فقط، إذ يقول "مالكوم غلادويل" أن مبدأ الاختبار المذاق المعمّى سخيف بأكمله। "حيث تجرى اختبارات لتذوق المنتج مع تصميد عيون الذواقة" لم يكن يجدر بها الاهتمام كثيراً، لأنهم يخسرون في اختبارات المذاق المعماة للكولا القديمة، ويجب أن لا نفاجأ بأنّ هيمنة بيبسي عى اختبارات المذاق المعماة لمم تُترجم كثيراً في العالم الحقيقي। لم لا؟ لأنه ما من أحد يشرب كوكا كولا مغمض العينين في العالم الحقيقي. ويضيف "غلادويل" القول: أننا ننقل أحاسيسنا بمذاق الكوكا كولا كل الارتباطات اللاواعية التي لدينا عن العلامات التجارية، والصورة والعلبة، وحتى اللون الأحمر الذي لا تخطئه العين في الشعار.(٢)
وهناك تجربة أخرى يمكن الإشارة إليها هنا فيما يتعلق بتجديد العلاقة أو توطيدها بين الفرد والماركة التجارية. "لواحد مش لاثنين" كان "الفستان" الجديد للمنتج "تويكس"، ففي السابق، كانت الرسالة في أن يكون اصبع من التويكس لك والآخر لصديقك أو صديقتك، أما الآن فقد تغيرت الرسالة، وأصبح من الضروري تقديم صورة جديدة للمنتج، بالرغم من بقاء التركيبة الغذائية للمنتج، وذلك لإنعاش ومنح "قوة حب وعلاقة" جديدة لتويكس، لتصبح الرسالة الجديد الآن، أن كلا الإصبعين من الشركلاته لك وحدك-تعزيز للفردية والأنانية-، لتقول "لواحد مش لاثنين"، بعد أن كانت "ليس قطعة وإنما قطعتان"! حالها -تويكس- كما يعمل العاشق، عندما يهدي حبيبته في كل مرة شيء مختلف، وعندما تغير في كل مناسبة ملابسها، وتنتعش العلاقة من جديد في كل لقاء بينهما، وهكذا.

إن الإنسان يميل إلى التجديد، وينجذب نحو الماركة التي تؤصل فيه حب نفسه من كل زاوية، والقيم التي يتم تقديمها عبر منتجات غذائية -على سبيل المثال- ما هي سوى ربط بين المنتج والقيم التي يحبها الإنسان لنفسه. وتمثل الماركات العربية "الزوجة المنافسة" للزوجات الأجنبيات، أقصد الماركات الأجنبية، فهي أي الماركات العربية لها أفضلية الأرض والجمهور، و"أهل البيت أدرى بما فيه". ومجال المنافسة مفتوح على مصراعيه من المنتجات الغذائية إلى التنظيفات، وبالرغم من الغياب أو القصور في حقول مختلفة من المنتجات كالإلكترونيات، إلا أن مساحة التصنيع العربية الموجودة ليست بالصغيرة، وعليها أن تتحول من الزوجة التي تتشبع ثيابها برائحة المطبخ والغسيل، بالرغم من طيبتها وعملها الدؤوب، إلى الزوجة التي تستقبل زوجها برائحة العطر الذي يحبه، وبضربات مكياج خفيف يميل إليه، وهكذا تستمر جمرة الود بينهما متقدة.

إن عملية "الود" بين الفرد والماركة تتمثل عبر ثلاث مراحل، الأولى هي المنتج نفسه بجودته ومنافسته في أصل تصنيعه، الثاني في شكله وتغليفه، والثالث في ترويجه وصورته المقدمة للفرد. وتلك الثلاثية لم تُتقنها كل الماركات العربية، والمشوار يمكن اختصاره لتكون العلاقة بين الفرد والمنتج العربي دافئة ومتينة، ويمكن أن تكون-في حال إهمال استخدام العطر المناسب والملابس الجميلة والكلمة الشاعرية- إلى الانفصال والطلاق. وما تزال الماركات العربية بحاجة إلى هضم العلاقة ومعرفة سر قوة وجودها في سلوكيات الفرد، عوضاً عن استنساخ "الزوجات الأجنبيات" في شكلها وعطرها ومكياجها، لتكون "الزوجة-الماركة" العربية لها خاصيتها وجاذبيتها.

لكي لا يكون حالها كحال الغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس، فلم يستطع تقليد الطاووس في مشيته، ونسى مشيته هو، فأصبح بين هذا وذاك فاقد الهوية منسي الذكر. فهل تضع الماركات-الزوجات- العطر الخطأ وترتدي الفستان القديم؟ ليكون بعدها العجب مفقوداً عندما يتزوج- يتعامل الفرد مع الماركات -الزوجات-الأجنبيات؟


مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

(١) التفكير اللمّاح في طرفة عين. مالكوم غلادويل.








الكرة أم الرقاقة؟


جعفر حمزة*
التجارية ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨م

لم تبدأ المباراة حتى تبيّن لي أن الفريق الذي اخترته للعب به في "البلاي ستيشن ٣" قد كان يحمل شعار طيران الإمارات على قمصانه، وانتشيت فرحاً، فطيران الإمارات أصبحت من أشهر الماركات العالمية، وامتد إنتشار حركتها لتكون داعمة لإحدى الأندية الأوروبية، وانسحب الأمر إلى كل التغطيات الإعلامية والإعلانية،لتكون إحدى صورها وجود شعارها في لعبة يتمتع بها الملايين حول العالم، وبطريقة تفاعلية مباشرة أيضاً عن طريق الإنترنت.

وقد أنعش ما رأيته خبر شراء بعض الأندية الإنكليزية من قبل بعض المستثمرين الخليجيين، فهل أصبح دعم أو شراء الأندية الشهيرة كحصان طروادة للترويج أو الربح والاستثمار الذي يستحق ضخ الملايين فيه؟ وهل شراء بعض المستثمرين العرب الخليجيين لبعض الأندية الإنكليزية الشهيرة يمثل خطوة مهمة في الاستثمار المطلوب؟ وخصوصاً في ظل تغيرات وتقلبات وتحديات اقتصادية قد ترسم سياسة الاقتصاد العالمي من جديد، وخصوصاً بعد الأزمة المالية التي ضربت أرض العم سام وكل العالم؟
وفي قبال ذلك يحصل الآسيويون على جرعة قوية من أولويات الأبحاث التي تقودها السوق جراء تدفق الشركات الأمريكية। ففي السنوات الخمس الماضية أقامت أكثر من ١٠٠ شركة، بما فيها "جنرال موتورز"، و"بوينغ"و"موبيل"، مراكز أبحاث وتطوير في الهند. وقد وضعت "جنرال إلكتريك" أكبر مختبر لها خارج الولايات المتحدة في" بانغلور"، حيث توظف الشركة ١٦٠٠ باحث معظمهم من الهنود.
كما أن "جونسون آند جونسون" و"دوبونت" و"بروكتر آند غامبل" وغيرها من الشركات تعكف على النظر في أمر إقامة مختبرات خاصة بها. ويقول "آر آيه ماشلكار" رئيس مجلس الأبحاث العلمية والصناعية: (لقد أدرك العالم أنه إن لم يكن لديك عنوان في الهند -في مجال الأبحاث والتطوير-، فإنك غارق في مشاكل). (١)
وبين ضخ الأموال لدحرجة الكرة وهتافات جمهور الملعب الأخضر، وبين جذب الأموال لتصنيع رقاقة، لابد من التوقف عن اللعب والبدء في فتح اللعبة ومعرفة ما بداخلها.


فأين الكرة؟

يقول نجم فرنسا السابق ورئيس الاتحاد الأوروبي كرة القدم "ميشيل بلاتيني"، تعليقاً على ظاهرة إقدام الأثرياء والممولين الأجانب على شراء نوادي الدور الإنكليزي :( إذا جلبت أناساً من قطر إلى نادي ليفربول أو مانشستر على سبيل المثال دون أن يبقى فيهما أحد من المدينتين। ماذا تبقى من ليفربول أو مانشستر؟ لا أعتقد أن ذلك شيء جيد. فعلى القطريين استثمار أموالهم في قطر).وأضاف :(عليهم تطوير كرة القدم في بلدانهم). وهل هناك أوضح من هكذا رد قوي وواقعي؟
ويبدو أن هناك توجهاً لوقف المد الأجنبي عموماً والعربي منه خصوصاً في استملاكهم للأندية الإنكليزية. حيث يمثل ذلك تشويهاً لهوية كرة القدم، كما يشير إليها "بلاتيني" بالقول :(ما هي كرة القدم؟ كرة القدم مجرد لعبة اكتسبت شعبيتها من قضية الهوية، فالهوية أساس شعبية كرة القدم، إذا فقدتها فقدت شعبيتها). (٢)

وتدفع مثل هذه الصورة من الإنفاق كما يسميه البعض أو الاستثمار، سمّه ما شئت، إلى التفكير في السلوك الاستثمارأو الإنفاقي على مستوى الفرد والمؤسسات والحكومات في دول الخليج العربية خصوصاً، نتيجة ما تعيش عليه من نعمة نفط بدت الدوائر الاقتصادية الغربية والشرقية بالتفكير الجاد في التخفيف من الإعتماد عليها شيئاً فشيئاً.

فعلى مستوى الأفراد يطرق سمعنا إنفاق مبالغ طائلة من أجل لوحة سيارة ذات رقم "مميز" في الإمارات، وحجز البعض لرحلات فضائية سياحية من السعودية، وطلبية خاصة لسيارة مرسيدس مرصعة بالألماس من أجل "زبون" إماراتي। هذا فضلاً عن السلوكيات الفردية في الإنفاق والإنجذاب "الجمعي" نحو المسابقات والحفلات التي تدر الأموال الطائلة।

وأما على مستوى المؤسسات والشركات، فقد أصبح الإندفاع نحو الاستثمار العقاري "موضة" الكثير منها، فمن تدشين المشاريع على البر، إلى غزو البحر، بل وحتى تحت البحر أصبح "هوساً" مبرمجاً لدى الكثير من المؤسسات والشركات الاستثمارية، والتي يبدو أنها "تنفخ" في فقاعة قد تكون مشابهة لتلك التي انفجرت في الولايات المتحدة إثر أزمة الرهن العقاري. وأما على مستوى الحكومات، فالملاحظ في معظم توجهاتها النية عبر الإعلان عن الرغبة في تنوع مصادر الدخل والسير نحو ذلك، وإن كان بخطوات بطيئة في أغلبها، وعبر تصريحات إعلامية، في حين نرى الخطط الاستثمارية في الموارد البشرية والاقتصاد المعرفي شبه مغيبة، ولا تفرد لها مساحة من الاستثمار، في قبال التغني بتنوع الاستثمارات، وفتح المجال للاستثمار الأجنبي المباشر "إف دي آي".

وأين الرقاقة؟

هناك العديد من الفرص، والتي تجعل من دول الخليج العربية أكثر من مجرد مشاريع "الأكبر، والأطول والأضخم" في قبال استثمارات بعيدة المدى تسعى لتنوع مصادر الدخل القومي، وتجعل من أراضيها ساحة لاحتضان استثمارات تعود بالفائدة على مواطنيها وحكومات تلك الدول، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الهند وتايوان وسنغافورة، حيث تمثل "بنغلور" في الهند أنموذج متقدم ومتطور في مجال الأبحاث العلمية والصناعات المستقبلية من أدوية بالخصوص وغيرها من الصناعات الذكية।
والحديث عن الاستثمار في المجال التقني مهم وضروري، بلحاظ حجم الإنفاق الذي تحتضنه أسواق منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً للمنتجات التكنولوجية. وذلك ما ذكره ولي العهد عند زيارته لليابان، حيث ذكر ما قاله وزير التجارة الخارجية الإماراتي قبل حوالي شهر أن سوق دول مجلس التعاون الخليجية المستهلكة للإلكترونيات نمت بمعدل ٣٠٪ هذا العام، لا سيما أن سكان هذه المنطقة في نمو مستمر. (٣)

وبالرغم من وجود ثلاثي الاستثمار الممتاز، وهي الوفرة المالية والقوانين الحكيمة المشجعة والأيدي العاملة الماهرة، وكلها متوفرة في دول الخليج العربية، إلا أن التوجه الحاصل عملياً هو النفخ في فقاعات تزداد حجماً، تُنذر بفراغات لا يمكن ملؤها عندئذً। فمن الإفراط في الاستثمار العقاري الموجه نحو فئات مُتخمة أصلاً إلى فتح الباب على مصراعيه فيما يتعلق بالشركات الأجنبية دون وجود خطة في إدماج العمالة الوطنية فيها، ومن "تطرف" في الإنفاق على لوحة سيارة بالملايين أو مئات آلاف لرحلة فضائية إلى شراء أندية أجنبية وكأنها الحصان الرابح والذي يمكن المراهنة عليه।

تأتي تلك العقلية ضمن بيئة خصبة يغذيها بطء في إصلاح السوق المحلية، ويتمثل ذلك في أبسط صوره عبر غلق الأبواب لأخذ وكالات للسيارات بدلاً من "وقفها" على اسم واحد.ومن جانب آخر هناك تعثر لا يمكن تبريره في مجال تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في بعض المجالات، والتي يعتبرها البعض ممن لديه حضور "هاموري" في السوق، بأنها "زيادة" لا داعي لها، وبالتالي ينتفي وجود تعزيز للتنافسية في السوق. فضلاً عن تواجد لا يمكن إغفاله للفساد، بدليل حلول البحرين في المرتبة ٤٣ على مستوى العالم في مؤشر مدركات الفساد للعام ٢٠٠٨، متخلفة عن كل من قطر والإمارات وعُمان بين شقيقاتها في دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي ". (٤)

وللوصول إلى مستوى مقارب لمدينة "بانغلور" أو "تايوان" في الاقتصاد المعرفي، والذي سيوصلنا وأجيالنا إلى اقتصاد مستقر ومتطور ومنافس، علينا وقف الخطابات ووضع الخطط وتنفيذها، والشفافية والمصارحة للخروج من عقلية نفخ الفقاعات المتتالية، وترك الكرة قبل أن يتم حجر الاستثمار فيها في الدول الأجنبية من جهة، ووقف سكب أموال النفط هنا وهناك وتوجيهها نحو توظيف ذكي وبعيد المدى।

فهل يستمر السعي نحو شراء الأندية وترك الأندية المحلية من جهة، في حين تسعى دول ليست ببعيدة عنا في الاستثمار المعرفي الذكي من إيران وتايوان والهند وسنغافورة؟

*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
(١) نيوزويك، العدد ٢٢٨।
(٢) الوقت، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٨م.
(٣)الوقت، ١١ أكتوبر ٢٠٠٨م.
(٤) الوقت، ٥ أكتوبر ٢٠٠٨م.

العنزة الطائرة



التجارية ٨ أكتوبر ٢٠٠٨م

جعفر حمزة*

كان التخمين سبيلهما لتوقع ما يتحرك من وراء الشجيرات، فقال أحدهما هو "طير"، فرد الثاني بل هي "عنز"، واستمر تخمينهما مردداً صداه حتى قطع نزاعه جناحي الطير مرفرفاً منزعجاً من جدالهما، إلا أن صاحب "العنز" قد "نزع" - في ذهنه- جناحي الطير ووضعهما على"عنزته" ليثبت أنه على حق، فقال رده المعروف "عنزة وإن طارت".

وقد اُتخذ من هذا الموقف المتعنت أثراً ما زال سارياً على "عنزات" العصر الحديث في ميادين السياسة والاقتصاد والدين والفكر والثقافة، فما على صاحب الموقف الضعيف إلا "وضع" الأجنحة التي يريد على "عنزاته" لتطير محلقة، ولتثبت ما يقول، في موقف أقل ما يمكن وصفه بأنه بعيدٌ عن المنطق والواقع، وقريب من التشدد والتزمت.

ويبدو أن البعض لديه "أجنحة" وبمقاسات مختلفة لتتناسب مع كل عنزاته الكبيرة منها والصغيرة، لتطير أي واحدة منها عند الحديث وطرح النقاش معه حول موضوعات المال العام. وما موقف "هيئة التأمينات الاجتماعية" من قرض الـ ١٠٠ مليون دولار والذي طلبته شركة "ممتلكات" إلا إحدى "العنزات" التي يُراد لها أن تطير بوجود "أجنحة" على المقاس المطلوب، وربما تكون لها "خيارات متكاملة.

لقد وصل البعض إلى مرحلة "تطيير العنزات" في كل موقف وفي كل قضية، حتى خجل "العنز" منهم، وأصبحنا نقوم بتوضيح الواضحات وهو قبيح لدى أهل المنطق، ولا منطق للبعض عندما يرى أن تقديم "عرق" الناس وجهودهم لسنين طوال على طبق من ذهب لشركة "ممتلكات" دون وضوح للرؤية وغياب ضمانات لاسترجاعه، فضلاً عن عدم تخصص "هيئة التأمينات الاجتماعية" في الإقراض بصورة عامة، فعجيب أن يرى ذلك البعض بأن تقديم القرض ممكن وبكل سهولة.

ويبدو أن علينا لإقناع صاحب "العنز الطائرة" أنه ليس هناك ما يتخيله من عنزة تطير، فعلينا "نتف" ريش الأجنحة الوهمية في رأسه، لنعرف كيف نتحاور معه ونتفاهم، فإلى "نتف" الريش:


الريش الأول:
هل من حق "التأمينات" إقراض "ممتلكات"؟ بمعنى آخر، هل يمكن للتأمينات أن تقوم مقام البنوك لتقديم القروض بغض النظر عن الجهة التي طلبت القرض؟ وهل هو مال خاص ليكون ذلك الإقراض مشروعاً، أم أنها أموال الشعب العامل؟ وهل يجوز الإقراض من أموال الشعب دون الرجوع إلى جهة تمثلهم، وهم النواب في مثل هه الحالة؟

الريش الثاني:
ما هو رأي البنك المركزي من دخول "التأمينات" على مساحة "الإقراض" والتي هي من مهام البنوك، وليست جهات حكومية ترعى المال العام؟

الريش الثالث:
ألا تستطيع "ممتلكات" أخذ القرض من البنوك، بدلاً من طلب ذلك من "التأمينات"؟، وهي التي ترغب البنوك بالإقتران بها قرضاً ومعاملة؟

الريش الرابع:
كيف يتأتى لوزير يشغل منصبين في وقت واحد، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بتقديم سيولة ضخمة من تعب الناس إلى جهة أخرى يترأس الوزير رئيس مجلس إدارتها؟ فأين ضمانة الحيادية في مثل هذه القضية؟
وللعلم ، فإن وزير المالية هو رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، والذي يشغل أيضاً منصب رئيس مجلس إدارة شركة ممتلكات البحرين القابضة!

الريش الخامس:
لم هذا "الحماس" المُنزل على إدارة التأمينات عند الحديث عن إقراض ممتلكات، في حين كان "الفتور" ديدنهم عند تقديم بعض الكتل النيابية مقترحات لها بما يتعلق بحقوق المتقاعدين والاستفادة من أموال العاملين بطريقة استثمارية مربحة؟ وهناك من المشاريع الاستثمارية المضمونة التي يمكن للهيئة الدخول فيها عوضاً عن مشاريع "تبيع السمك في البحر" كما يقولون-أي بدون وجود ضمان للاسترجاع في حال عدم إمكانية السداد؟

الريش السادس:
"إنّ هذا القرض بهذه الشروط وبهذه المخاطر المحدودة يعد فرصة سانحة لاستثمار بعض فوائد الهيئة النقدية وتحقيق سياسة الهيئة التي أقرها مجلس إدارتها في تنويع الاستثمار وتوزيع المخاطر"(١)
هذا ما قاله الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية. ولا ندري عن أي "محدودية" للمخاطر الموجودة في تقديم القرض، مع غياب تفاصيل القرض وأوجه الاستثمار فيه، فضلاً عن "غياب" أي ضمانة للاسترداد.
فأي أجنحة يريدون وضعها على "عنزاتهم" ليصدق الناس بأن ما يقومون به هو الصواب، بعيداً عن القراءة القانونية وواقع الاقتصاد الحاصل؟

الريش السابع:
لم هذا "التطاير" السريع على الموافقة من قبل أعضاء مجلس إدارة الهيئة على القرض، دون التأني في قراءته قانونياً واستثمارياً؟
مجلس الشيوخ الأمريكي، بالرغم من معرفة أن اقتصاد بلاده على الهاوية، إلا أنه لم يوافق على رصد تلك الميزانية من جيوب ضرائب المواطنين إلا بعد تعديلات وجولات من المفاوضات والأخذ والرد. في حين "يطير" البعض لدينا في الموافقة على "إعطاء" أموال الشعب دون "ضمانة" أو "وضوح" لشركة ليست بحاجة إلى "السلفة" من هيئة التأمينات الاجتماعية. فلا تدري أي نوع من "العنز" يودون أن تقوم بالطيران من أجلهم؟



الريش الثامن:
إن سلمنا جدلاً بأهمية تقديم القرض لشركة "ممتلكات"، فهنا يتقدم سؤالين مهمين في الواجهة، هما:

أ- ما نوع المشروع الذي ستقدم عليه ممتلكات" ليستلزم هذا المبلغ الضخم من عرق الناس وتعبهم الطويل؟.
ب- ما هي الضمانات التي ستقدمها "ممتلكات" لإرجاع المبلغ لمكانه، في حال تدهورت "ممتلكات" أو خسرت أو تفتت أو انقرضت؟ أو أفضل الاحتمالات أن المبلغ قد يذهب مع الريح في خضم الاضطرابات الاقتصادية التي لن تهدأ قريباً في العالم.
ومع موجة "تسونامي" الاقتصادية الآتية من بلاد العم سام، لتغرق كل العالم، وخصوصاً الاقتصاديات المرتبطة عملة وتعاملاً وسياسة مع الاقتصاد الأمريكي. ولا نعلم على أي بقعة من الأرض سيتم استثمار هذا المبلغ الضخم؟ ربما في توظيفه لبناء مستوطنات على القمر؟ ربما!

ولو عددنا وبسطنا و"نتفنا" كل ريش الطيور في العالم، لن يقتنع صاحب "العنزة الطائرة" بأن ما تخيله كان خطئاً، وهناك من هو مستعد لنتف الريش وبقوة، منها ما توعدته بعض الكتل النيابية من مسائلة للوزير المعني، فضلاً عن نقابة العمال وبعض الأعضاء المعنيين بالقضية في "التأمينات"، والذين وقفوا بشجاعة أمام قرار قد يُذهب جهود مئات الآلاف من المواطنين العاملين والموظفين أدراج الرياح.

وإلى حين وقت "النتف" تحت قبة البرلمان، يبدو مستغرباً جداً مواصلة البعض في إقناع نفسه والآخرين بأن العنزة تطير، وليس ذلك بمستغرب إذ تم استنزاف أموال الهيئة سابقاً ليُعلن إفلاسها، ويتم التصريح بعجز إكتواري، لنرى فجأة بأن "بوابة علي بابا" قد فُتحت أمام "ممتلكات" لتقترض أو لتأخذ، وهي العبارة الأصح، بلحاظ غياب "ضمانات" و"صورة واضحة" لهدف القرض، حتى بتنا نناقش ماهية القرض وفائدته مع إغفال خطأ أصل الفعل نفسه من الهيئة وهو الإقراض.

وفي حين تعاني اقتصاديات الدول الكبرى من اهتزازات كبيرة، يقوم البعض بالمجازفة في بحر لجي لا يمكنهم الإبحار فيه، لنستيقظ على تغريد "عنزة" ظننا -أو هكذا- أُريد لنا أن نتصور، ولتطير بعدها كل جهود الناس وتعبهم محلقة بعيدة عنهم، لأن البعض يمتلك "تركيب" الأجنحة المناسبة لتطير أموال الناس بتصويت عدد من الأعضاء، وذلك لسبب بسيط، وهو أن البعض يمتلك من الأجنحة أشكالاً وألواناً وأحجاماً مختلفة لكل قضية، وما عليه إلا وضعها على ما يريد لتطير. ويبدو أن حجم أجنحة النسور هذه المرة من تم انتقائها لتطير أموال الناس دون "ضمان" أو" وضوح"، ونحن بانتظار "النتف".

(١) الوسط، ١٤ سبتمبر ٢٠٠٨م

*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

المدونات الشخصية .. تنافس الإعلام الحر



المدونات الشخصية .. تنافس الإعلام الحر

تحقيق: محمود النشيط

11بدأ في الآونة الأخيرة انتشار متصاعد في العالم العربي لما يعرف بالمدونات، وذلك بعد أن شاعت في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أوساط الشباب الذين باتوا يتنافسون ويتفاعلون مع نظرائهم على الأرض من خلال هذه الوسيلة حيث يعرفون باسم (بلوغرز)، وتعني باللغة الانجليزية (لوغ)، وهو السجل الذي تدون فيه الأشياء بالتسلسل، و(بيوغرافي) أي يعني كتابة المذكرات الشخصية. وباختصار تعني الكلمة تدوينا إلكترونيا عبر صفحات الانترنت للمذكرات الشخصية.هذه الظاهرة وجدت مكانها بين الشباب البحريني، وبين بعض المشاهير في المجالات المختلفة، وأخذت في التطور لتحمل بين طياتها العديد من الموضوعات المسموح بنشرها أو المرفوضة، وذلك بأسماء أصحابها الحقيقية أو الوهمية، فاتحين المجال للتعليق عليها بحرية مطلقة بعيدة كل البعد عن مقص الرقيب، والقوانين الإعلامية التي تحدد بعض الاحيان ما يسمح بنشره من عدمه وفق الاستراتيجية الخاصة لكل مؤسسة وسياسة البلد. ويسجل تاريخ المدونات رغم حداثة العهد به العديد من المصادمات الأمنية والقانونية لنشره بعض المحرمات في رأي الحكومات مما صدر في حقهم أحكام بغلق مدوناتهم ومن ثم السجن، ومطاردتهم في دول أخرى، بل ان البعض استغل الاجواء المفتوحة في عالم الانترنت للترويج لشتى أنواع المعرفة المفيدة والضارة في الوقت نفسه، التي يتلقفها كل من يبحث عن حاجته على الشبكة.

وقد حملنا العديد من الأسئلة إلى العديد من مدوني البلوغرز على الشبكة العنكبوتية، فمنهم من تجاوب معنا على الفور في تعريف نفسه وصورته، ومنهم من فضل المشاركة متخفياً تحت أسماء مستعارة ومنهم من تجاهلنا كلياً من دون ذكر الأسباب، رغم أن الهدف من هذا التحقيق المساهمة في تعريف القراء على نوع من الوسائل الإعلامية الجديدة التي أخذت في الانتشار مؤخراً، بعد أن حول بعض الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية مذكراتهم على الانترنت، إلى مكان لتبادل الآراء حول آخر المستجدات السياسية أو التكنولوجية أو الشخصية أو المعاناة الشخصية وغيرها.

حرية المواطن

121322مشاركنا الأول هو احمد رضي صاحب قلم واضح في التعبير الذي اتخذ المدونة لتوثيق الأعمال الفكرية والأدبية، حتى انتقلت مع أمواج التيار المختلفة لتطرح العديد من الموضوعات الاخرى، ويفتح صاحبها أحمد رضي المجال لكل الزوار بطرح آرائهم بكل حرية وشفافية من باب الحرص على التعرف على الرأي والرأي الآخر والذي يقول عن دافعه لإنشاء المدونة الشخصية: هو الرغبة في تسجيل وتوثيق الأعمال الفكرية والأدبية ونشر المقالات المتنوعة المنشورة هنا وهناك، والطابع العام للمدونة هو اجتماعي وسياسي وثقافي في نفس الوقت، ويميل إلى كشف الحقائق وطرح الملفات الساخنة ومناقشة القضايا المتعلقة بالحركة الإسلامية في البحرين بعين الناقد والباحث عن المعرفة.

وحول مدى مصداقية المعلومات والآراء المقدمة، وهل هي شخصية، أم أنها تأخذ مساحة من الاقناع للآخر، ومدى اعتبارها مصدراً يمكن الاعتماد عليه، أجاب رضي: الآراء والمعلومات التي أطرحها للرأي العام أضعها موضع البحث والمساءلة والنقاش المفتوح، وبعض الآراء هي نتاج تجارب شخصية معبرة عن تعاطفي مع قضايا المجتمع والوطن. ولعل تجربتي المتواضعة مع الصحافة والإعلام علمتني أن أطرح المعلومة الصادقة والموضوعية قدر الإمكان، خصوصاً في ظل حساسية بعض الشخصيات والمؤسسات من الكلمة الحرة والمستقلة.

ويضيف أحمد رضي: لقد سميت مدونتي اسم «سلاحي قلمي« كتعبير عن حرية المواطن في التعبير عن رأيه من دون خوف أو إرهاب من أية سلطة أو رقابة مسبقة، وبحكم اتهام المواطن العربي دائماً بالإرهاب وحمل السلاح في وجه العدو أو الأنظمة السياسية حتى لو كانت القضية مشروعة، فقررت أن أقول كلمتي وأرفع قلمي كسلاح سلمي في وجه الطغيان السياسي والفساد الاجتماعي، ومناصرة قضايا الشعوب الحرة وكل المصلحين وطلاب الحق.

وفي رده على سؤال أليست المدونات مجرد محلات الكترونية على الهواء، وكل يعرض بضاعته من دون ضمان الجودة المقدمة للقارئ؟ قال أحمد: المدونات هي تعبير صارخ عن حرية المواطن في التعبير عن رأيه وسط أجهزة إعلامية رسمية تعمد إلى التحفظ عند نقل الحقائق بشكل لا يعكس تطلع الشعوب إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. وهناك بالطبع مدونات شخصية لا هدف من ورائها غير التعارف والثرثرة، والأمر في النهاية رهن إرادة القارئ الواعي.

التعبير عن الذات

أما صاحبة مدونة هذيان الحروف سعاد الخواجة فترى أن المدونات أتاحت إلى الأفراد التنفيس عن همومهم بصورة راقية يشاركهم فيها الآخرون بآرائهم، إلا أنها ترى أن إنشاء المدونات بقصد دوافع التدوين كثيرة وتختلف من مدون لآخر فهناك من يدون لأهداف واهتمامات سياسية وهناك من يدون ليحدث فارقا وتغييرا نحو الأفضل وهناك من يدون ليمد جسور التواصل بينه وبين العالم وهناك من يدون للتنفيس عن نفسه واكتشاف ذاته والحياة من حوله.

599117وأيا كانت دوافع وأسباب التدوين فالدافع المشترك لدى جميع المدونين هو التعبير عن الذات، المدونات أتاحت للجميع الفرصة لإنشاء عالمهم الخاص والتنفيس عن همومهم وأفكارهم ومشاركة الآخرين آراءهم وإبداعاتهم خارج نطاق الحدود الجغرافية. هي نوع من أنواع الكتابة مع فارق أنها أقرب للكتابة التفاعلية منها للمقروءة، فما تكتبه اليوم وأنت تقبع خلف شاشة جهاز الحاسوب في منزلك أو في اي مكان آخر يصل بكبسة زر إلى شتى أنحاء العالم وقد يجد صدى للآخرين فتصل إليك تعليقات من بلدان بعيدة ونائية لم تكن لتصل إليها من خلال أي مطبوعة.

وأضافت الخواجة: أفضل ما يميز التدوين هو تلبيته لنزوات وحالات الكاتب النفسية والمزاجية فأنت تكتب متى ما داهمتك الرغبة في الكتابة من دون التقيد بوقت أو نمط أو شروط معينة للكتابة، فالمدونة تعكس ملامح شخصيتك وتبقى صديقا وفيا يشاركك لحظات فرحك واستيائك كما أنها تحررك من قيود أي وسيلة إعلامية أخرى فالمدون هو الكاتب والمحرر ورئيس التحرير والناشر في الوقت ذاته. لا يوجد قوانين للمدون فان المدون هو من يسن ويضع القوانين ولا توجد جهة رسمية أو رقابة تملي عليك ما يجب أن تقوله أو تكتبه والرقابة الوحيدة التي تتحكم فيما تكتب هي الرقابة الذاتية. كل هذه الأسباب وغيرها جعلت المدونات تحظى بالانتشار والشهرة الحالية.

هي ملاذي الآمن

بالنسبة لي فقد كانت الكتابة ومازالت ملاذي الآمن الذي الجأ إليه لأنفس من خلالها عما يدور بداخلي وأفرغ ما في جعبتي من أفكار. المدونات هي مساحتنا الشخصية التي نعبر فيها ببساطة وعفوية عن أنفسنا، الواحة التي نستريح فيها لحظات لنضع جانبا كل ما يثقل كاهلنا من هموم وشجون، تتحرر الكلمات فندرك أننا أحياء ومازلنا نتنفس.

أما الذي ينتظره المدوّن من قراء مدونته فقالت سعاد: حينما بدأت التدوين قبل عام لم أفكر في القراءة ولم يكن مؤشر الزوار يعني لي شيئا فقد كان الهدف من إنشاء المدونة هو الفضفضة وإيجاد مساحة لاحتواء مشاعري وانفعالاتي الشخصية لذلك كانت تدويناتي أقرب للخاصة منها للعامة. ولكن مع مرور الوقت ومع ازدياد عدد الزوار والمعلقين بدأت أشعر بنوع من المسئولية تجاه من يتجشمون عناء المرور بالمدونة والتواصل معي للتعبير عن ارائهم حول ما أطرحه في المدونة من أفكار وموضوعات. لذلك صرت اليوم أكثر حرصا على انتقاء موضوعاتي، على احترام وتقدير الرأي الآخر حتى إن كان مخالفا لرأيي، فكثير من التعليقات والرسائل الالكترونية التي وردتني ساعدتني على إعادة تقييم كتاباتي وألهمتني أفكارا ومشاريع لم أكن لأفكر بها من قبل. قد لا أكتب دوما ما يتوقعه قراء المدونة مني ولكني كذلك لا أخيب ظنهم بالكتابة في أمور سطحية أو هامشية.

لقد لمست شخصيا ومن خلال إحصائيات الزوار ازدياد عدد الزوار من الدول العربية الأخرى وانتظامهم في قراءة المدونة مقارنة بالزوار من البحرين على الرغم من أن معظم المقالات والقضايا التي أتناولها في مدونتي تعنى بالشأن المحلي والثقافة والهوية البحرينيتين. وهذا ما يثبت أن المدونات تحظى بشعبية ورواج أكبر من الوسائل الإعلامية الأخرى من حيث تمتعها بثقة القارئ العربي لأنها تعكس بشكل مباشر الهوية والبيئة التي يأتي منها المدون من خلال ارائه وأفكاره. هذه الملاحظة جعلتني الآن أكثر اهتماما واعتناء بتناول ونشر الثقافة والتاريخ البحرينيين من خلال المقالات والصور التي أقوم بنشرها بين الحين والآخر، محاولة قدر الإمكان أن أنقل الواقع من دون رتوش أو تلميع. ما أنتظره من قراء مدونتي اليوم وغدا وبعد الغد هو المتابعة والتواصل فهما الترمومتر الحقيقي الذي أستند إليه لتحديد وجهة المدونة.

القدرات والإبداعات

ما هي الإضافة التي يمكن للمدوّن أن يسجلها في عالم القراءة الإلكترونية؟ قالت الخواجة: لم تعد المدونات حكرا على الناس العاديين أو تسجيل المذكرات الشخصية كما كانت في السابق فقد اتسعت رقعة المدونات لتشمل الصحفيين والأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين كما أن بعض رؤساء الدول قد أسسوا مدوناتهم الخاصة. حتى أصحاب الشركات والمؤسسات العملاقة أدركوا اليوم أهمية المدونات فأسسوا بالإضافة إلى مواقعهم الرسمية مدونات يشارك في التدوين فيها أعلى سلطة في هذه المؤسسات كوسيلة للتواصل المباشر مع العملاء الذين يعتبرون المصدر الأول والأساسي لديمومة هذه المؤسسات.

هناك الكثير من الإضافات القيمة التي يمكن أن يسجلها المدون في الفضاء الالكتروني من بينها تنمية القدرات والإبداعات ومد جسور التواصل بين الشعوب والأديان والثقافات الأمر الذي قد يؤدي للمزيد من التفاهم والتسامح من بينها. وبسبب سهولة إنشاء المدونات وسرعة النشر وتوافر التقنيات التكنولوجية الحديثة من نقل الصوت والصورة أصبح المدونون قادرين على نقل الخبر والصورة بشكل أسرع من وسائل الإعلام التقليدية خصوصا عندما يكون المدون في نطاق المنطقة الجغرافية للحدث وبالتالي أصبح بعض المدونات المورد والمصدر الأساسي لاستقاء الخبر، لذلك من المتوقع جدا أن تحظى المدونات بأهمية أكبر خلال السنوات المقبلة بسبب هذه المنافسة وقدرة المدونات على التأثير في الرأي العام وصنع القرار. كما أن اكتساح المدونات الفضاء الالكتروني وتزايد أعدادها في السنوات الأخيرة أفسحا المجال للمزيد من حرية الرأي كما كسرا احتكار الحكومات وسيطرتها على الأجهزة الإعلامية ولن يمضي وقت طويل في اعتقادي قبل أن تصبح المدونات سلطة خامسة.

الهايد بارك

414

من جانبه يرى الناشط جعفر حمزة أن الذي يُكسب المدونات حضورها هو خيار تغييب الكثير إن لم تكن كل الأطر القانونية والعرفية والأخلاقية والدينية التي تكون حاضرة في جانب آخر، وفي رده على سؤال هل تشكل المدونات الفضاء المسموح «الهايد بارك« الذي يغيب فيه القانون والأعراف والدين وكل شيء؟ قال حمزة: تمثّل المدونات إحدى النوافذ لعالم لم نصاحبه طويلاً منذ ظهوره وهو عالم الإنترنت، حيث مثّل ثورة في صياغة العلاقة بين الفرد ونفسه وعلاقته مع الآخر، حالنا مثل «أليس« التي دخلت «حفرة الأرنب« لتنتقل إلى عالم عجيب يغيب عنه القانون الفيزيائي والمجتمعي، وقبل الحديث عن «المدونات« وهي غرفة في مبنى عالم الإنترنت، لابد من التطرق إلى المبنى نفسه، فثورة الاتصالات لم تبدأ حين اُخترع الهاتف، بل بدأت حين تم إيجاد وصناعة عالم خاص لكل فرد بضغطة زر، لينتقل من شعور إلى منطق ومن هوى إلى غريزة، وهكذا أصبح الإنسان في هذا العصر، متنقلاً من حال إلى حال، فكيف تتصور إفساح المجال لمجموعة كبيرة من الناس بدخول محل للملابس وأخذ ما يريدون من دون مقابل؟ ستكون الفوضى والهَوَس بأخذ كل ما تطوله اليد حتى القدمان هو «الثيمة« المسيطرة في ذلك الوقت، وبعد فترة يتم اعلان إفساح المجال لدخول محل أطعمة وأخذ ما يودون من دون مقابل أيضاً، ستكون الفوضى بل قد يصل الأمر إلى الشجار في كثير من الأحيان ويكون سيد الموقف، وتستمر الحكاية، والحال هو نفس الحال في عالم الإنترنت الآن، حيث تبقى أعصاب المتصفحين مشدودة ومترقبة لكل «عرض« جديد يسمح لهم بدخول هذا المحل أو ذاك وأخذ ما يريدون بالمجان.

وتلك الحالة من «الانتظار« و«الاندفاع« و«الصدام« و«الاستمتاع« ومن ثم تُعاد الكَرّة مرّة أخرى هي معادلة «الجذب« التي لا تتوقف في العالم الافتراضي. وتمثل المحلات التي ذكرناها حالات مادية كالبضائع والخدمات وحالات فكرية كالعقائد والتوجهات والسلوك، لذا يكون مرتادو الإنترنت في حالة «غازية« دائماً، أي أن ذرات «إثارتهم« لا تتوقف على الإطلاق، ولا يكون ذلك إلا من خلال «لهب« يضمن بقاء حالة المادة الموجودة عند الأفراد في وضع «مُثار« دائماً، نقصد بالمثار هنا هو أي حالة تترتب عليها علاقة تواصل مستمرة بين الفرد والإنترنت.

ويواصل جعفر حديثه قائلاً: وتمثل المدونات إحدى صور ذلك «اللهب« المتقد، فبالرغم من وجود مثلث الاشتعال وهو الوقود والحرارة والأكسجين، فإن ذلك المثلث في الإنترنت لا وجود له، فليس هناك قانون أصلاً. وما يُكسب المدونات حضورها هو خيار تغييب الكثير إن لم يكن كل الأطر القانونية والعرفية والأخلاقية والدينية منها وهو ما يجعلها بمثابة «الهايد بارك« بل أكثر منه، فلا يجوز لك في «الهايد بارك« أن تشتم أو تتعرض للملكة، أما في المدونات بالإنترنت بصورة عامة، فليس هناك خط أحمر على الإطلاق، والفضاء مفتوح إلى أبعد الحدود، ونتيجة لذلك تظهر الكثير من الأفكار والسلوكات فضلاً عن نمو العديد من المرجعيات الفكرية الغريبة، وبعبارة أخرى فإن المدونات هي محلات مفتوحة على الهواء، ومقياس ربحها هو مقدار ما تقدم للفرد من قناعة أو فكرة أو سلوك أو خاطرة، ولا مجال لتلك المحلات بالخسارة، فلا أجر ولا انتظار لبضاعة، والدعاية لها بالمجان، وهو ما يشجع أصحاب المحلات «المدونات« على ابتكار الكثير من التوجهات فضلاً عن كونها «مرآة« لا تعكس بالضرورة حقيقة صاحب المحل، بقدر ما تعكس ما يود أن يكون عليه، وبالتالي فنحن نتعامل مع أطروحات متنوعة ومختلفة في مدونات لا يحكمها منطق بالضرورة، ومن هنا تكمن الصعوبة في التعامل مع المدونات بناءً على «منطق« أو «دين« أو... ولئن كانت المدونات للبعض تمثل «نافذة« شخصية للعالم، فإن البعض يجعلها نافذة من واقعه للعالم، وهو من أخطر المدونات وأشدها أثراً، لأنها ستكون نافذة في جدار ممنوع، وإذا رأيت جداراً كبيراً ولا نهاية له، وفيه فتحة صغيرة فإن الفضول يدفعك للنظر من خلاله، وخصوصا إذا تناهى إلى سمعك أصوات من خلف ذلك الجدار. وهو بالفعل ما يُزعج البعض ليستدعي قواته ليس «لغلق« الفتحة، بل «إبعاد« الناس عنها و«معاقبة« من فتحها.

الخط والمساحة

ومن الأمثلة على ذلك في عالمنا العربي هو المدون «أحمد محسن« صاحب مدونة «فتح عينيك« الذي تم اعتقاله في احدى الدول العربية بسبب كشفه لممارسات التعذيب لوزارة الداخلية بمحافظة الفيوم، فبالرغم من غياب كل القوانين الفيزيائية من الزمان والمكان، والقوانين العرفية والدينية، فإنه مازال هناك قانون لا يستطيع «مصادرة« المحل الإلكتروني لكن بإمكانه أن «يُوقف« صاحبه.

هل تشكل المدونات الجدران التي يمكن لأي أحد أن «يخربط« عليها من دون أن تأتي قوات الشغب لمحوها؟ وما دلالات ذلك؟ أجاب حمزة: «الخط« و«المساحة« هما الأداتان الأوليان للفرد ليعبّر عن رأيه وتوجهاته «غضباً« «فرحاً« «كرهاً« والقائمة تطول. وما انتشار المدونات في العالم العربي إلا نتاج الغياب الحقيقي للخط والمساحة المعبرة عن الفرد تارة أو نتيجة «تطلع« الفرد إلى ما هو أبعد من الموجود تارة أخرى،أو تعبير عن الذات وهو مسألة إنسانية عامة تجدها في العالم العربي أو الغربي على حد سواء. وعند الحديث عن الفضاء المحلي، فإننا نعتبر المدونات هي بمثابة الجدران التي تستدعي المدونين للكتابة أو الرسم أو التعليق عليها، فقد أصبحت هي الفضاء المشاع التي لا يحددها عدد الكلمات أو مقص الرقيب أو الإخراج الفني، وبذا تصبح المدونات «الجدران« هي الخيار الأنسب والأفضل لـ «قيس« ليكتب عليها عبارات الحب لليلى، أو يخط ثائر كلمات المقاومة والكرامة، أو يتلثّم طائفي ليذبح الوطن باسم الدين، وهكذا تصبح الجدران بين «عاشقة« و«ثائرة« و«طائفية«.

وأعطيت كل الحرية للصحافة لأن تكتب ما تشاء - على سبيل المثال - فإن الجدران «المدونات« مازالت الخيار المفضل، فالوقت والحدث والصياغة والصورة والتقديم كلها مُلك يمين من يحمل «الرش« أعني صاحب المدونة، ولا يمكن الاعتماد على قوات الشغب لمحو كل العبارات والرسوم، فالجدران لا تنتهي، ولا يمكن حراستها كلها، إذ تتطلب جيوش العالم لتحرس كل جدار لكي لا يُكتب عليه.

أكسجين الحرية

وعنها قالت المدونة حياة فخرو إن المدونات تنتشر بشكل سريع ولها تأثير لا يستهان به، وبدأت تنافس الوسائل الإعلامية الأخرى، أما أسباب إنشائها مدونة خاصة والآخرين كذلك لأن المدونة هي مساحة حرة من خلالها يطرح المدون افكاره وتجاربه الشخصية والحياتية ورؤيته لما يدور حوله ومن خلالها يطور مواهبه الذاتية وعلاقته مع الآخرين. كذلك هي ملاذ يلوذ إليه الإنسان بعيدا عن الواقع الخانق وبعيداً عن أسنان الوحوش التي تصادر حقه في التعبير عن آرائه ومواقفه وبعيداً عن الوصاية السياسية والدينية والفكرية التي يفرضها البعض على عقله.

اما بالنسبة لجودة ما تطرحه المدونات ومدى مصداقيتها فقالت فخرو: هذه الأمور نسبية ومتفاوتة كما هو الحال مع الكتب وغيرها، وأرى أن المدونات تنتشر بشكل سريع ولها تأثير لا يستهان به، وبدأت تنافس الوسائل الإعلامية الأخرى وخصوصا المواقع والمنتديات والصحف الالكترونية وكذلك غير الالكترونية وهذا مؤشر يدل على وعي الإنسان وحاجته للتعبير عن نفسه وطرح ما يهمه ويهم مجتمعه.

أتمنى النضج أكثر وأكثر لتجربة التدوين في البحرين الحبيبة، وأتمنى أيضا أن يتم استغلال هذه الوسيلة خير استغلال لخدمة الآخرين، وأتمنى على أعداء الحرية المسؤولة والإيجابية أن يتركوا لنا هذه المساحة الحرة لكي نتنفس من خلالها أكسجين الحرية.. الحرية التي كفلها لنا الدستور والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وحول إخفاء بعض المدونين شخصياتهم قالت فخرو: ان المدون في الغالب يتجنب الكشف عن هويته بشكل علني وواضح لكي لا يتعرض لأي سوء ولكي لا تقيد حريته، فأنا في مدونتي أمارس وأتمتع بإنسانيتي وحقوقي التي يراها البعض جريمة يعاقب عليها.

كذلك لا أعتقد أن القراء يهمهم أو يعنيهم التعرف على صورتي ومعلوماتي الشخصية، فأنا من خلال المدونة أهدف لعرض أفكاري ومواقفي، وليس من أهدافي، الشهرة أو البحث عن زوج أو ما شابه ذلك، لكي أعرض صورتي ومعلوماتي الشخصية. فأنا في المدونة مجرد صوت أود أن يسمعه الجميع ويهتم بمحتواه ويفهم رسالته. ومن يرد أن يعرف المزيد عن شخصيتي وأفكاري فبإمكانه التأكد من ذلك عندما يزور مدونتي، لأني سأنقل هذا التحقيق إلى مدونتي وسأكتب رأيي وسأثبت أني صاحبة المدونة والكلام المنشور باسمي.

شخصيتي مجهولة

من أصحاب المدونات الذين أرسلوا لنا باعتذارهم عن المشاركة مع طرح الأسباب صاحب مدونة (قاسي مشاعر) الذي يقول انه يفضل أن تكون شخصيته شبه مجهولة للذين لا يمتون له بصلة ومعرفة شخصية. ويضيف قاسي مشاعر: أتشرف باختيارك لي ضمن مجموعة المشاركين في التحقيق، وأنه لشرف لي الوجود على صفحات جريدة كـ «جريدة أخبار الخليج«. إلا أنني أتمنى أن تقبل اعتذاري عن عدم المشاركة والسبب وجود مواضيع وآراء خاصة وشخصية جداً مكتوبة في المدونة قد يفسرها البعض بالتفسير الخاطئ عند قراءتها وخصوصا مع وجود صورتي الشخصية والاسم وعنوان مدونتي في التحقيق ومعرفتهم صاحب المدونة ومن وراء هذه الكتابات والمواضيع. لذلك أفضل أن تكون شخصيتي شبه مجهولة للذين لا يمتون لي بصلة ومعرفة شخصيتين. وأتمنى أن تتقبل اعتذاري بصدر رحب وتقدر رغبتي على الرغم من شرف وجودي على صفحات جريدتكم.

* صحيفة أخبار الخليج، العدد 11155- الثلاثاء، 8 شوال 1429 هـ، 7 أكتوبر 2008 م.

http://www.aaknews.com/ArticlesFO.asp?Article=262514&Sn=INVS

http://bahrain.maktoobblog.com