التلوث البصري، الأزمة عمقت الاعتماد على الوكالات الصغيرة والهــــــــــــــواة في سوق الإعلان


التلوث البصري

حمزة: الأزمة عمقت الاعتماد على الوكالات الصغيرة والهــــــــــــــواة في سوق الإعلان

صحيفة أسواق الاسبوعية البحرينية
الأحد ١٨ يوليو ٢٠١٠


يتخذ هذا المتخصص في الاقتصاد المعرفي وقراءة الصورة جعفر حمزة له مسافة منذ فترة ليست بقصيرة، يراقب خلالها حراك إعلانات الشوارع وكيف تدار قواعد اللعبة، ليجزم في المحصلة أن مساحة الإبداع محدودة، وأن تجارب الابتكار زهيدة على الساحة، ولا رؤية لافتة. لا شيء في كثير منها سوى البهرجة التي لا تخلو من إزعاج، ويكون السواد الأعظم بلا مقاصد واضحة ولا أهداف تحقق مبتغاها، أفكار تُعاد وتتكرر على نحو آلي، وهذا ما قد يفسد الذائقة البصرية لمشاهدها على حد قوله.

يرى حمزة أن موجة إعلانات الطرقات التي عمت قطاع الإعلانات في السنوات الأخيرة الماضية، أخذت بالتصاعد على نحو لا يبدو أنّه يدنو من استقرار ولا تؤشر إلى حالة صحية في سوق الإعلانات بقدر ما تُشير إلى فوضى إعلانية تستخدم فيها إعلانات الشوارع في كل المناسبات بغض النظر عن تناسبها كوسيلة اتصالية مع أهداف الرسالة الإعلانية مما يؤثر سلباً على ضمان وصولها إلى المستهلك أو المستقبل.

ويقول: «ما يحدث لا يتعدى كونه ـ في أغلبها ـ من ولادة لأجنة ميتة، هي سياسة لا تخلو من أخطاء وتحول. وفي المحصلة فإنّ المتعمق في الحراك الدائر يتوصل إلى حقيقة مفادها الفوضى البصرية الحاصلة في الغالب الأعم، مع لحاظ بعض التجارب المميزة»، مؤكداً أن لكل إعلان رسالة يود إيصالها عبر الإعلانات المختلفة في أشكالها وتصاميمها وأحجامها، بيد أن ما يحدث يكاد يخلو من المقياس والمرجعية وحتى التدقيق لاختيار المكان الأنسب في وضع الإعلان.

ويلفت حمزة إلى أنّ الحملات الترويجية والتسويقية في الشوارع هي ذاتها المنشورة في الصحف بلا تعديل أو جهد يكيف الإعلان بحسب وسيلة النشر، ويقول: «صار من المألوف أن ترى الإعلانات المكتظة بعدد كبير من الكلمات والألوان والصور، من دون مراعاة لقدرة المتلقي على التقاط المعلومات وهو يقود سيارته في الشارع»، معتبراً ذلك تقديراً غير مدروس لدى المعلن، غير مستبعد ما أسماه «كسل المُعلن» والميل إلى تكرار ما هو مطروح ومتوافر بلا جهد إضافي يزيد من الرصيد الإبداعي أو يكيف صيغة الإعلان وشكله بحسب وسيلة النشر.

ازدياد المنافسة

لا ينفي حمزة نمو السوق الإعلاني خصوصاً سوق اللوحات الإعلانية في شوارع المدن والقرى البحرينية بعدما برهنت لوحات الطرقات على أنها إحدى أفضل وأنجح الوسائل الإعلانية التي تحقق مردوداً سريعاً بلحاظ «توالدها» المتزايد، مما يدفع لحدة المنافسة بين الشركات العاملة في القطاع. غير أنّه يؤكد أن اتجاه المعلنين نحو إعلانات الطرقات مرتبط باختيار مواقع ذات كثافة مرورية كبيرة يكون للوحة الإعلانية والرسالة التي تحملها تأثير كبير في أذهان المستهدفين الذين يبقون في سيارتهم في تلك الطرق، بسبب الزحام خصوصاً أوقات الذروة.

بيد أن ما يحدث لا يتعدى كونه استغلالا لكل أعمدة الإنارة سواء في الطرقات السريعة التي تخلو من الزحام، أو في بعض الطرق التي لا تكون حاضنة للفئة المستهدفة من الإعلان. وهذا ما أسماه بالوضع غير المدروس، ويقول: «إعلانات الطرقات لها خصوصية وسحر لا يتقاسمها معها أي وسيلة إعلانية أخرى، الرسالة فيها يجب أن تكون مختصرة ومركزة، أما التفاصيل فتعنى بها إعلانات الصحف أكثر (..) لكن ما يحدث لا يتعدى كونه فوضى إعلانية تشاغب السائق أينما ذهب وتهدد أمن وسلامة القيادة لبعض اللافتات غير المثبتة جيداً، وهو شأن يجب أن تلتفت إليه إدارة المرور لتنظمه على غرار باقي تجارب الدول الأخرى التي تخصص أماكن محددة للإعلانات، لا في كل الشوارع والطرقات».

العاصمة نموذجاً

ويضيف «هناك كم إعلاني كثيف في منطقة واحدة، والعاصمة نموذج تدلل على ذلك بجلاء، إذ يصل سعر أصغر حملة إعلانية تستخدم عشرة إعلانات فقط على أعمدة الإنارة في المنامة قُرابة 750 دينارا، حيث يصل سعر الإعلان الواحد إلى 250 دينارا في العاصمة وينزل إلى 154 دينارا خارج العاصمة، وعادة لا يقبل المعلنون حملات يقل عدد الإعلانات فيها على عشرة إعلانات، وكأن إعلانات الطرقات أصبحت فجأة «موضة» على الشركات والمؤسسات أن تسايرها وإلا كانت خارج الصيحة الأحدث (..) على المعلن أن يسأل نفسه دوماً ما الذي يريد إيصاله من هذا الإعلان؟ أي الفئات يستهدف؟ وما هي الوسيلة الأنسب لإيصال الرسالة؟ وجزء من تلك المسؤولية يحملها حمزة على البلديات التي وجدت إعلانات الشوارع «الدجاجة التي تلد ذهباً» من دون مراعاة للضوابط وثقافة الإعلان والتخمة البصرية التي خلفها الاستغلال غير المدروس لأعمدة الإنارة واللوحات الإعلانية الأسمنتية في كل مكان». بل إنّ البعض أخذ به الهوس إلى استخدام أسقف المنازل المطلة على الطرقات السريعة للإعلان للهجوم البصري على السائق أينما توجّه.

حمى جديدة

حمزة يرى حمى إعلانات الطرقات تسير إلى تصاعد في الشهور القليلة المقبلة مع بدء العد التنازلي لانطلاق إعلانات المرشحين للانتخابات النيابية والبلدية، وهذا على حد قوله ما قد يزيد الطين بلة، داعياً إلى المزيد من التنظيم وتخصيص مساحات معينة ومجدولة لنشر الإعلانات، لافتاً في الوقت ذاته إلى الأخذ بنظم السلامة في التعامل مع الإعلانات التي لا تُثبت بإحكام ويشكل تهاويها خطورة على حياة المارة والسواق.

وفي بُعد آخر لفهم المسألة، يذهب حمزة إلى أن الامتداد الإعلاني حري أن يُرافقه امتداد إبداعي خصوصاً في مرحلة ما بعد الأزمة المالية التي غيرت توجهات الشركات واستخدامها للإعلانات، مؤكداً أنّ بعض الشركات فضّل الاعتماد على نفسه في تصميم الإعلانات واستغنى إما كلياًّ أو جزئياًّ عن خدمات الوكالات الإعلانية جراء نقص السيولة المخصصة للإعلانات، مقابل فريق آخر بقي على ما هو عليه قبل الأزمة في الاعتماد على الوكالات، بالإضافة إلى فريق ثالث من الشركات الذي صار يفضل الاعتماد على الوكالات الصغيرة والهواة في سوق الإعلانات الذين نشط سوقهم في الفترة الأخيرة. متوقفاً عند نقطة يعتبرها غاية في الأهمية وهي قياس الأثر من الإعلان والمردود الذي تحقق للشركة المعلنة من ورائه، معتبراً ذلك هو الطريقة المثلى لمعرفة الوسيلة الأنسب للنشر.

وفي هذا الاتجاه يؤكد حمزة أنّ الأزمة المالية أنعشت أعمال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وزادت من حجم المنافسة على الإعلانات الأرخص كلفة بغض النظر عن الحرفية والرؤية العامة لاتصالات التسويق، في قبالة نسخ وتكرار وحتى سرقة الأفكار بلا أي تحسب للملكية الفكرية أو ثقافة الإبداع وكسر المألوف، موضحاً أنّ المعلن لم يعد يبحث عن الفكرة التكاملية ولا الجديدة كلياًّ إذ يختار من عدة خيارات يطرحها أمامه الوكالات الإعلانية من دون دراسة للأثر وفهم حقيقي للفئة المستهدفة في تفكيرها وسلوكها ومزاجها.

الاقتصاد الجديد

ويرى حمزة أن الأزمة المالية أوجدت اقتصاداً جديداً يختار الإعلان بشكل أكثر تأنياً، وأنّ العملاء أصبحوا يختارون الوسيلة الإعلانية وفقاً لمعدل الانتشار، فوسائل استطلاع انتشار وسائل الإعلام تحدد مدى قبولها كوسيلة إعلانية لدى العميل، خصوصاً في ما يتعلق بالصحف أو الإذاعات المحلية.

إلى ذلك، يقول: «هناك خوف مستوطن لدى الوكالات الإعلانية من كسر ما هو سائد يدعمه خوف العميل، وهذا بالتحديد ما يدعم نسخ الأفكار وتكرارها على نحو ممل، يعزز ذلك غياب الجوائز في التمييز الإعلاني التي ترفع من سقف الإبداع والجرأة في دخول مناطق طرح جديدة وترفع من حدة المنافسة والابتكار والتجديد، وهذا يؤثر بطريقة غير مباشرة على رواتب العاملين في هذا القطاع، فبدلاً من البحث عن عقول مبدعة، يكون البحث عن أيدٍ منفذة، والأخيرة أقل تكلفة من الأولى».

ويضيف «معظم الوكالات لا تبحث عن العقول المبدعة بل إلى منفذين ينسخون ما هو سائد»، مطالباً بتنظيم أكبر للقطاع تلعب فيه جمعية المعلنين البحرينية والبلديات ووزارة الإعلام وشركات الاتصال التي تعتبر أكثر حيوية بصرية وأن يكون لها دور أكبر في تشجيع الإبداع عبر مسابقات تستثير الهواة وتستفز العاملين المبدعين وتقودهم إلى الاحترافية.

ومع حركة نشطة للسوق المحلية وهي نتاج حراك عالمي لا يتوقف عن البيع والشراء، يرى حمزة أن التركيز على صناعة سوق الإعلان بات أمراً لا بد من التحرك عليه بصورة عملية، حيث يشير حمزة إلى قدرة القطاع التعليمي في التركيز على أكاديمية وحرفية هذا القطاع من خلال التخصصات المطروحة، وتخريج كوادر محترفة يمكنها أن تتبوأ مراكز ريادية في هذا القطاع، في حين نرى في الوقت الحالي تربّع الأجانب في تلك المراكز، ويكون البحرينيون منفذين لا أصحاب إدارة وقرار في هذا الجانب، ففي الأخير «أهل مكة أدرى بشعابها»، ونتيجة لتغلب من ليس بأهل البلد في مجال إدارة التفكير الإبداعي، نرى الكثير من الأفكار التسويقية التي تفتقر إلى التواصل الحقيقي، فضلاً عن غياب فرص حقيقية لتولد أفكار ستحدث أثراً، ليس في السلوك الشرائي فقط، بل في السلوك العام والتفاعل مع القيم المختلفة للمنتج أو الخدمة.

تناسب الوسيلة

في هذا السياق، تتناسب إعلانات الفيس بوك والبريد الإلكتروني والإنترنت بصورة عامة مع فئة الشباب وطلبة الجامعات بل حتى رجال الأعمال، فيما تتناسب إعلانات الراديو مع العاملين والموظفين وكبار السن في وقت قبل بدء الدوام وبعده، وتخاطب إعلانات الصحف والشوارع العموم. فيما أصبح الإعلان على الإنترنت وفي وسائل الإعلام أكثر تفضيلاً من العملاء مع انخفاض سعره، وتغير استراتيجية الشركات نحو زيادة المبيعات.

في اتجاه آخر، يشير مشتغلون في قطاع الإعلانات إلى أن هناك من شركات الإعلان التي تعاني من نقص في السيولة النقدية، بسبب عدم قدرة عملائها على الاستمرار في سداد مستحقاتها، مع تراجع أنشطتها وعملياتها التجارية بسبب تداعيات الركود الاقتصادي العالمي وتأثيره محلياًّ.

وهذا يشكل فرصة وليس تهديداً للبحث عن الوسائل البديلة الأكثر انخفاضاً في التكلفة والأوسع انتشاراً وتأثيراً وتفاعلاً مع الجمهور. ومع تصاعد الثورة الرقمية في التواصل، ما زال هناك الكثير من الفرص في رحم السوق البحرينية التي تعتبر غضة طرية وتحوي بين جنباتها الكثير من الفرص والأفكار التي ستُحدث فرقاً وتكون حديث المدينة قولاً وفعلاً، لتحقق غرض الإعلان، وهو إحداث الأثر للسلوك الشرائي مع تثبيت القيمة الإيجابية في الفرد.



http://www.aswaqnews.net/ArticleNews.aspx?Id=3399&IssueId=76

الجلد الثالث يتكلم


جعفر حمزة


لا تراها إلا ووضعت "الوشم" على ظهرهارافعة الكلمة ولا تبالي، وتلك لم تشأ الخروج للعلن إلا وقد وضعت "مساحيقها" الخاصة لتُلفت النظر، وثالثة "تتبختر" بالرسومات والكلمات التي وضعتها على ظهرها، ورابعة "قاسية" الملامح رابطة الجأش، لا تولّي دُبراً أبداً، قد "استأسدت" بتلك الكلمات التي تتركك تفكر فيما تريد أن توصله من رسالة.

تلك صورٌ شتّى لسيارات وضعت على خلفيتها "الرسائل" المباشرة وغير المباشرة، من صور وكتابة ورسومات، وهلمّ جرّى. فما الحكاية هنا معهنّ؟

يميل الإنسان بطبيعته للتعبير عن ذاته وأفكاره بطرق شتى، حيث تتنوع وتتسع دائرة التعبير بحسب المحيط والثقافة العامة، فضلاً عن الأدوات المستحدثة التي تُساهم بطريقة أو بأخرى في إظهار ذلك النمط من التفكير في التعبير للآخر.


فهناك التعبير بالمظهر الخارجي للإنسان من خلال مظهره وسلوكه، بل حتى جلده في بعض المجتمعات كرسم التاتو على الجسم مثلاً، وتمتد مساحة التعبير من الجلد الأول وهو مساحة جسم الإنسان إلى الجلد الثاني له وهو اللباس وتوابعه من قلائد وخواتيم وساعات وغيرها، لتصل مرحلة التعبير إلى كل شيء -ملتصق-بالإنسان، ومنها دابته وهي السيارة ، وهي جلد الإنسان الثالث، حيث تمثل لباساً جديداً له تظهر شخصيته ومكانته المادية والاجتماعية، لتتحول في كثير من الأحيان إلى رسالة متحركة تعكس سلوك وفكر السائق، سواء من ناحية اجتماعية، سياسية، دينية وغيرها.

وتحولّت وسيلة النقل تلك إلى أداة من وسائل التعبير عن الذات وشخصية السائق ومزاجه، حيث لا يكتفي البعض بوشم سيارته بعبارة أو برمز أو ملصق ذو توجه معين، حتى يضيف له رمزاً آخر من توجه آخر قد يبدو نقيضاً للأول أو على الأقل بعيداً عن نفس لغة الشعار أو الرمز الأول، حيث يكون الأول دينياً بحتاً والآخر لا يمت بصلة بثقافة المجتمع أصلاً، وهكذا تتحول مساحة الزجاج أو قطعة الحديد على السيارة إلى تلاوين ثقافية ورسائل متنوعة تعبر عن الهوية لصاحب السيارة، ويُلاحظ ظهور هذه الحركة في المجتمعات العربية والشرقية بصورة عامة، بل حتى في بعض دول أمريكا اللاتينية، وقد يعزو الأمر في ذلك إلى ما تميل إليه هذه الشعوب من التعبير -المسموع- لأفكارها وتوجهاتها، حي تسبح تلك الآراء في مختلف الصور المتاحة للتعبير من ملبوس ومركوب ومأكول ومشروب حتى، ونتذكر أن المصريين قد أطلقوا على بعض الأحذية التي قاموا بتصنيعها اسم شارون عليها إبّان هجوم هذا الوحش على الفلسطينين وإعمال المجازر فيهم.


ما نراه من تعبير بصري مكتوب أو مرسوم هي حالة متوقعة لرفع صوت الهوية بطريقة مسموعة،

ويمكن قراءة بعض من صور الواقع الاجتماعي أو السياسي والديني من خلال تلك الصور المكتوبة التي تنتقل وتعلن على الملأ حضورها بطريقة متحركة أينما توجهت. وتستحق التوقف والقراءة بعمق في مداليلها ومؤشراتها المختلفة.

الصورة لسيارتي وقد وُضعت ضمن ملف تناولته صحيفة الوقت

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=69225&hi=%CC%DA%DD%D1%20%CD%E3%D2%C9


ابراهيم العصر، سفر في رحاب السيد فضل الله



جعفر حمزة


بين البلدوزر والمعول الخشبي

الفتنة هي الإمتحان والصبر والتجربة التي تهزّ أعماقك لتظهر ما في داخلها، وذلك عندما تتحدّى شهواتك ولذّتك وأطماعك وعلاقتك وعواطفك.
السيدفضل الله

لم أكُ حينها إلا نتاج قريّة -كبقية القرى- تشكّل خطوط طرقها الرئيسية (البلدوزرات العُرفية) من جهة، وبعض من معاول خشبية دينية أصيلة من جهة أخرى. وكثيرٌ ما تتكسّر الأخيرة ولا تستمر في تعبيد طريق واحد أو نصفه أو ثلثه، في قبال ما تبسطه تلك القوى العُرفية من طرق رئيسية وفرعية، لتسلكها-لا شعورياً-.
فما دام الطريق مُعبداً، فلم التفكير خارج الطريق؟ أو بالأصح، لم التفكير خارج القطيع؟
إلا أن صوتاً شدّني بقوّة الفطرة والتفكير إلى رؤية الأمور من زاوية أخرى، وباستخدام عضلة نسيناها أو تناسينها، فكان التعب والألم نصيب من يستخدمها بعد طول تخدير، وهو أمر متوقع، فعندما تُهمل عضلة لفترة وتريد استخدامها، فسيكون أول ثمن تدفعه هو الألم، لتتحرك من عِقال أركنتها أنت فيه.

ذلك الصوت الذي سمعته من أشرطة كاسيت وضعتها في مسجلة -عجنتها- بيدي من كثرة استخدامها والغوص في غمرات أحشائها تصليحاً وإعطاباً وابتكاراً، فخرج ذلك الصوت الجديد علي في نبرته وفكره ومنطقه وفطرته. فكانت الشرارة الأولى للتحول عن الطريق المعبد ببلدوزرات العُرف، إلى طرق أخرى فيها الكثير من نور الشمس وريح البر وصوت البحر.

لم تتركني حاسة بصري، فحفزتني للنظر إلى -رسالة- هذا السيد الجديد عليّ، فكما أعطيتُ سمعي جزءً منه، فلا بد من إنصاف البصر أيضاً. أليس السمع هي أول حاسة تنمو عند الإنسان قبل البصر؟ فسمعت ذلك السيد قبل النظر إليه عبر قلمه.
أخذني منطقه بعيداً جداً عن العقل الجمعي الذي كنتُ فيه، فصرت هائماً في منطقه ، ودلّني ذلك الهيام إلى بعض من -كتيباته- وأبرزها -من أجل الإسلام-، حيث كانت تتضمن محاضراته وفي ختامها أسئلة وأجوبة حولها. والتي كانت لي بمثابة -الفاست فود- والمقبلات الغنية بالفيتامين والمواد المغذية، فبتُّ اختلس وقت الظهيرة اللاهب حيث يكون من في المنزل نياماً أو يشاهد إخواني المسلسلات الكرتونية، والتي كانت مفضلة لدي حينها، لأحث الخطى إلى المسجد اللصيق ببيتنا، وألتهم تلك الكتيبات واحداً بعد آخر، وأقول هل من مزيد؟




قصاصة ورق وحب وأرق

السلام روحيّة تنطلق من الممارسة, فإذا كنت لا تعيش محبّة الناس ولا تحترم انسانيتهم ولا تتحسّس مسؤوليتك عن حياتهم, فإنك لا يمكن أن تكون انسان السلام!.
السيد فضل الله


لم أقرأ للسيد محمد حسين فضل الله كما كنت أقرأ لغيره، كنت أعيش في كلماته ومنطقه وسرده الذي يخاطب الوجدان كما العقل، ويُزيل الغبار من على العقل بيد لطيفة حانية، ذلك الحنو والتواضع الذي لم أسمع عنه بكلماته فقط، بل رأيتها رأي العين بخط يده لوالدتي الأميّة.
عندما طلبتُ والدتي من عائلة لبنانية كانت معنا في سفر بر طويل من إيران إلى سوريا أن يسألوا السيد ليكتب لنا نصيحة لوالدتي بخط يده. لم أتوقع رداً لانشغالات السيد وما أكثرها، فما هي إلا أيام قلائل حتى تصل تلك القصاصة بخط يده لوالدتي عبر الحاجة اللبنانية المسنة، وكان بعض ما فيها كما أذكر "ليكن منهج أهل البيت -عليهم السلام- هو الدرب الذي تربين فيه أبنائك وتسيرين عليه لرضا الله تعالى.
تلك هي الروح الحانية والمتواضعة التي تكتب لأم أمية نصيحة لتربية أولادها بخط يده وبعبارات ترى من خلالها بساطة اللغة وقوة الرسالة.
وكانت أمي تفتخر بتلك الوريقة وكأنها كنز عظيم قد ظفرت به، وما كنتُ إلا أسعد إنسان حينها، فقد أرضيتُ طلب ثلاث حواس، فقد سمعته ورأيت منطقه بكتبه ولمست ما خطه بيده، ولو أني لم أتشرّف باللقاء به، إلا أنه كان سهل المنال والوصال إليه.
لقد بعث في والدتي كما فيّ خصوصاً حباً من نوع آخر، هو حب الإنتاج والتغيير فيما يرضي الله، حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، ذلك الحب الذي شكّل أرقاً لمريديه، فلم يك مرتاديه بمرتاحي البال، بل كانوا كالنحل الباحث عن الرحيق أينما وُجد.
بعكس بعض مدّعي تقليده، الذين كانوا يرفعون اسمه كقميص عثمان إرضاءً لهواهم وشخصهم، دون إدراك حقيقي لمواقف السيد وآرائه، فأخذوا منه قراطيس يغلفّون بهامواقفهم الشخصية بنكهة دينية. ويذبحون بها القرابين من أجل أهوائهم مع ختم "حلال" عليها.
كان حب السيد هو حب الإسلام في حركته وقوته ومرونته،وليس هو بالحب السهل،بل كان حباً يدفع مريديه لشغف الاطلاع والقراءة والبحث والنقاش، وتلك مهمة -مؤرقة-جعلتنا ننشد نتاجه، ونتاج كل فكر لنضعه عند مشرط المنطق على طاولة القرآن الكريم، فكان "من وحي القرآن" نافذة أخرى فتحتها لأتنفّس الحياة بمعانيها الواسعة، وليكون الأرق الفاعل المحفز حاضراً وبقوة حينها. فكنت أتنقّل من جزء إلى آخر لا لمعرفة التفسير بقدر معرفة دلالات التفسير وربطه بالواقع، لتتحوّل كل آية قرأتها فيه إلى دليل عملي وتجربة ملموسة تمتد من صفة القرآن وتتحرك في الحياة اليومية للإنسان.



كيميائية السيد


كان علي -ع- يعيش قلق الدعوة إلى الله، وقلق الوعي الذي يحتاجه الناس...كان همّه أن يعلم الناس.
السيد فضل الله


لم أقرأ كتبه فقط، بل خضتُ في غمراتها، لدرجة تقمّص منطقه في الكثير من كتاباتي لحينها، ولا أرى نفسي إلا متبعاً لقواعد لغته ونحوه ومنطقه في حديثي وكتابتي -لا شعورياً-، ففي الكثير من كتاباته وكلماته ما يستفز إنسان الداخل ويخرجه من شرنقة التفكير النمطي الذي نسجه العُرف السلبي تارة، وصاغته المفاهيم الأحادية الجانب للشرع تارة أخرى، ومن بين هذا وذا يقدّم السيد الجليل "مشرط الحرية" للخروج من تلك الشرنقة، ويدفعك للتعلّق بـ "بالون التفكير" للارتفاع والنظر بصورة شمولية لما يجري حولنا، وبين المشرط والبالون تمكنّت كيميائية هذا الرجل الإبراهيمي-الذي اقترب من معبد المقدسات العرفية التي ولّدت أصناماً فكرية وسلوكية- من صناعة -فأس الفطرة والمنطق-، عبر أطروحاته التي شعر الكثير بهزات زلزال منطقه وتحليله، الذي كان يقترب من مساحات اعتبروها خط الهوية الأول لهم، في حين كانت مساحة حرة يمكن التفكير والنقد فيها، فما كان منهم إلا التهويل والتشويه والهجوم عليه، ورفع الرايات السود في وجهه بل والتشكيك في هويته . متناسين أكبر الدورس التي سطّرها القرآن الكريم على لسان نبي الإسلام العظيم “وإني أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين”، في درس إنساني للبحث عن الحقيقة والسؤال الفطري عن ما يدور حولنا. تلك عظمة الإسلام في فتح الذهن كما القلب للحوار مع الآخر.
تلك الكيميائية لم تكُ جديدة في مسيرة العلماء العاملين، إلا أن توسّع مدارك هذا السيد الحركي وتنوّع التواصل بين يديه وغزارة إنتاجه، حوّل ذلك الموقف الذي يطرحه إلى أدوات عملية ملموسة، وسلوك يتشكّل بقوة، وتلك هي بعضٌ من نقاط قوة التيار الجارف لفكر السيد.




ثلاثة فؤوس وثلاثة نماردة

لم يكتفِ السيد بفأس واحدة يحطّم بها الأصنام العرفية والتفكير النمطي السلبي ويظهر عجزها الحقيقي لمن يؤمن بها ويتبع نفسه عبرها، بل كان رابط الجأش ليحمل فأسين آخرين معه، أحدهما لتحطيم الأصنام المقدسة عند المسلمين قاطبة، ليوسّع قناة الوحدة بينهم، من خلال إحداث ثقب في السقف المظلم للمسلم ليرى الشيعي أنه يلتقي مع أخيه السني، ويرى السني أنه يلتقي مع أخيه الشيعي، وهكذا يتحركان بعيداً عن كل تلك الأسقف المظلمة التي نسجتها السياسة والعُرف السلبي ووعاظ السلاطين وجهلة المجتمع -وسامريو- الفرقة بينهما
فخرج للسني كما للشيعي، والتقى المسيحي كما العلماني، لتكون المحبة والمنطق رجلاه، ومنهج أهل البيت في التعاطي مع الآخر جواز سفره للقلوب.
والفأس الثالثة لهذا الإبراهيمي هو فأس مقارعة الاستكبار والطغيان الممنهج من قبل القوى الغربية وربيبتها الكيان الصهيوني، ليخبر المسلمين كل المسلمين بالخطر الحقيقي المتربع عند شرفات منازلهم والرابض عند عتبات منازلهم، والمتربص عند خفقات قلوبهم ووجدانهم كل يوم، وذلك من خلال السياسات التي ترسمها الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وبعض البلدان الغربية عموماً بالتخاذل والتعاون من بعض الأنظمة العربية المتآمرة على شعوبها بامتياز، وذلك لتمييع هوية هذا العالم الإسلامي، واستنزاف ثرواته، ودق إسفين الخلاف بين أهله.

أهي فأس واحدة؟ لا بل ثلاث، لثلاث أصنام، صنم العُرف البعيد عن روح الإسلام، والذي تحوّل بمثابة -مقدّس- عند المجتمعات المسلمة، وصنم الفرقة والخلاف بين المسلمين، وصنم الهيمنة الغربية.
لذا فهو واجه ثلاثة نماردة وليس نمروداً واحداً. ليس السيد بـ "دون كيشوت" يحارب طواحين الهواء لوحده، بل كان ابراهيمياً يدكُّ بكلتا يديه أصناماً عدّة، صنم العُرف الأعمى المقدس، وصنم الفرقة المُخيف، وصنم الهيمنة الاستكبارية الكبير.
ولئن ألقى نمرودٌ ابراهيمَ في النار، فلكل نمرود هنا ناره الخاصة، فلقى السيد الإبراهيمي من نمروده الأول التشويه والتمثيل بجسد كلماته ليُقال له أنه ليهجر، وأخذ من نمروده الثاني التهميش وركن منطقه على الرف، وتآمر بعض الساسة العرب عليه، أما نمروده الثالث، فكانت منه محاولات تغييب شخصه عبر محاولة اغتيال جسده، ووصمه بداعم الإرهاب.



ابراهيم العصر

كان منطق السيد منطق نبينا ابراهيم عليه السلام، فقد استفزّ ابراهيم العقل والفطرة عند قومه من عبدة الأصنام، وتركهم في جو التحليل المنطقي والعقلائي ليستنتجوا بأنفسهم الخطأ الذي هم فيه وباقون عليه، فمن سؤاله عن الشمس والقمر والنجم للبحث عن إله يعبده نثر بذور السؤال والتشكيك المنطقي فيما يقوم به في أرضية عقول قومه، ولم يكُ ذلك كافياً بالمنطق والكلام فقط، بل طبّق نبي الله ابراهيم الأثر المادي الملموس ليكمل حلقة الحجة على قومه، وذلك بتحطيم الأصنام، وإرجاع السؤال المنطقي الفطري لقومه عن أحقية عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع.
وكذا فعل السيد، لم يتوقف عند الحديث المنطقي ليستفز العقل للتفكير، بل نزل إلى الشارع من خلال الفكرة العملية، وليخرج ذاك المنطق من حيز الكلمات إلى فضاء المشروع الملموس، في كل زاوية من زوايا حياة الإنسان المسلم وغيره.
وذلك من خلال -المأسسة- التي عمل بها في تدشين المبرات والمؤسسات الخيرية، فضلاً عن مشاريع أخرى اعتمدت على التوظيف الفعال للقدرات والإمكانات المالية من أجل تخريج كوادر وعناصر تعطي للمجتمع، بدلاً من أن تكون عالة عليه ووبالاً.
تلك المأسسة الفكرية التي عمل عليها ألقمت الكثيرين حجراً ممن يتشدقون بجمود الإسلام في حركة التغيير والعطاء.



تَرِكة الفأس ومنطق الرأس

(لن يفهم القرآن الحرّْفيون، ولكن يفهمه الحركيون الذين يعيشون الاسلام حركة في الانسان وفي الواقع)
السيد فضل الله

عمل السيد من خلال رؤيته وإطروحاته على إخراج "سلمان المحمدي" فينا، لنبحث عن الحقيقة وننشدها ونجهد أنفسنا لأجلها بحثاً ونقاشاً ومنطقاً، برجلي الشجاعة والجرأة.

كان السيد عصيّاً عند البعض لأنه يستحث تحريك عضلة لم نستخدمها نتيجة العقل الجمعي تارة وسياسة المجتمع تارة أخرى وهيمنة الواقع المرسوم من قبل القوى الاستكبارية تارة ثالثة،
ولئن رحل هذا السيد الحامل لهمّ الأمة مذ تشكل عوده في النجف وما قبلها إلى آخر لحظة من حياته الخضراء، فإن -فأسه- ما زالت باقية لأن سامريون- جُدد يُولدون كل يوم، والعديد من النماردة يتربعون عروشهم في البيت والمجتمع والدولة والعالم، تبقى المسيرة الإبراهيمية مستمرة من نتاج هذا السيد الحركي المحفّز للفكر والعمل. وما تركه إرثاً معرفياً وعملياً لنا إلا مسؤولية وحجة ملموسة على كل من يريد أن يحرّك الإسلام في شرايين الحياة اليومية، ويجعله نابضاً بقوة في مسيرتنا اليومية، لا قرطاس هنا أو تعبّد جامد هناك، بل يكون الحر في فضاء الله الواسع، ليحوّل من كل تحدّ عبادة ويجعل من كل معضلة ثواباً وعملاً صالحاً، ليكون الإنسان للإنسان، إنسان الله عبر نبراس القرآن الحركي لا الجامد، ومن خلال سنة نبيه البانية للإنسان لا المذلة له والمنفرّة كما يقدمها وعاظ السلاطين وسدنة -البلدوزرات العُرفية-.

ليبقى الإنسان الفطري -فطرة الله-هو العامل والمفكر والمغيّر ليحول ما يلمسه بإذن الله إلى مفهوم حي يعيشه المجتمع ويستثمره ، وليكون فأس ابراهيم في عنق الصنم الكبير شاهداً على بطلان العبادة المصطنعة، وراية حق لا تنتكس أبداً.