كانتونات





جعفر حمزة*
لم يكن متحمساً لتقديم سيرته الذاتية في إحدى الدوائر الحكومية، بالرغم من حصوله على شهادة عُليا وتميزه في تخصصه، وذلك لأسباب يمكن أن يجلس ساعة كاملة ليشرحها لك بالتفصيل “الممل”. وتستطيع أن تقرأ ما بين كلامه “البرمجة السلبية” التي دأبت الكثير من الدوائر الحكومية في بثها وتطبيقها بصورة عملية وبشكل يومي. يشعر صاحبنا بعبارة أكثر وضوحاً ب”التمييز الوظيفي” بناء على انتمائه المذهبي. لا أكثر ولا أقل. وبغض النظر عن اتفاقنا مع ما يسرده من وجوه التمييز ومسلسلاته المطولة “المكسيكية” أو لا، فإنّ ذلك يستدعي التوقف وطرح المسألة بصورة علمية وعملية بعيداً عن “متهمي” الوضع الوظيفي الحكومي بالتمييز بالصورة “الشمولية” أو “منزهّي” ذلك الوضع ورسم الواقع على أنّنا في “المدينة الفاضلة”. لأنّه بسبب ذينك “القطبين” تتشكل سلوكيات متنافرة ومتناقضة لتقع في “الإفراط” و”التفريط”. و”التهويل” من القضية أو “تهوينها” لا يصب في مصلحة الإصلاح الاقتصادي والذي سينعكس على “توجيه” الكفاءات في محلها الصحيح، وبالتالي تكون النتيجة تطور ونماء حقيقي في المجالات المعيشية كافة. ربما يكون صاحبنا قد “شَعَرَ” أو “سَمِعَ” أو “قرأ” ما يُشكل له “قناعة” بعدم جدوى العمل في هذه الدائرة الحكومية أو تلك، بل قد ينسحب الأمر على القطاع الخاص والشركات والمصانع “الوطنية”. والأمر بالمثل في الجانب الآخر الذي “يعتقد” بأنّ الأمر “أخذ أكبر من حجمه” والباب “مفتوح لصاحب الكفاءة والقدرة، وما يُروّج له ما هو إلا “توسيع” مساحة “الإمساك” لفئة بأكثر من “عَجَلَة” في ماكينة الوطن! لقد أصبح التوجهان يُصيغان حالة من “ثقافة العمل السلبية” والتي ُتُفضي إلى “وأد” كفاءات وقدرات إبداعية في المملكة. وأذكر هنا مفهوم مهم جداً يرتبط بطريقة التعامل مع الأفراد وقبلها القضايا الكلية، وخصوصاً تلك التي لها صلة بجانب “الإنتماء” سواء كان مذهبياً أو نسباً أو عرقاً .وذلك بطريقة مُبرمجة مُسبقاً ولا شعورياً والتي تُعطي نتائج “كارثية” في حال إغفالها وتركها على حالها. وذلك المفهوم هو “الارتباط الضمني” “Implicit Association” والذي يذكره “Malcom Gladwell” في كتابه “Blink, The Power of thinking without thinking أو “التفكير اللمّاح في طرفة عين، قوة التفكير بدون تفكير”. وقد أُجريت العديد من الاختبارات بناءً على هذا المفهوم الذي يُعطي موشراً عن نمط التفاعل مع الآخر المختلف “جنساً ولوناً بل وديناً”، وقد تبيّن من خلال تجربة “الرجال البيض والسود” تمييزاً في العقل الباطن لدى البيض عن السود بطريقة لا شعورية تغذيها الكثير من الارتباطات والمفاهيم المتراكمة ليصل الإنسان إلى قناعة غير مُعلنة تظهر من خلال إشارات وعبارات وأحكام “عفوية” تجاه الطرف الآخر. وقد شكلت تلك التجارب “صدمة” للكثير من الرجال البيض-ومن ضمنهم المؤلف- الذين يعتبرون أنفسهم منصفين وحياديين ويؤمنون بأن الأعراق متساوية. (١) وما أوردناه سابقاً هو مجرد “تلميح” لأمرين هما: أ. اكتشاف حقيقة “التهوين” أو “التهويل” الجارية بحق جسم القطاع العام بل والخاص في الدولة فما يتعلق بمسألة التمييز الوظيفي. وذلك عبر إخضاع المسألة للبحث العلمي والإحصائي المحايد. ب. تفكيك التصوّر السلبي نتيجة الارتباط العفوي غير الموضوعي، والمتعلق بمسألة التمييز الوظيفي، والوصول إلى المساحات “الخطرة” في ذلك الارتباط، والذي يتحول مع مرور الزمن إلى “ثقافة” لا يمكن تغييرها إلا بصعوبة بالغة وتحتاج إلى سنوات طوال. ويمكن للذين يعتبرون هذا الحديث “ترفاً” أو “مبالغة” الرجوع إلى تقرير منظمة “International Crisis Group” للعام ٢٠٠٥م، والذي أشار إلى أهمية معالجة ما أسماه التقرير ب”مأسسة التمييز”، والذي يتخذ أنماطاً متنوعة وواسعة لقطاعات مختلفة من جسم التوظيف بالمملكة. وعوداً إلى ”الارتباط الضمني” والذي جعل من صاحبنا يُحجم عن تقدمه للعمل في تلك الدائرة الحكومية، والتي شكلت “التجارب” المتنوعة له “توقعاً وقراءً وسمعاً” نوعاً من “القناعة المُبرمجة”والتي من الصعب عليه أن يغيرها، وخصوصاً في ظل “ارتباط ضمني” يُمارس في الجهة المقابلة للكثير من الدوائر الحكومية والتي أصبحت “حكراً” على مجموعات تنتمي لانتماء مذهبي معين أو عرقي أو عائلي، وبالتالي يتحوّل ذلك الارتباط إلى واقع نعيشه ونتماشى معه سلباً أو إيجاباً. فالمجتمع مكون من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد. ومن الطبيعي أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. (٢) وتمثل "الطائفة" أجلى صور "التجمع" و"الجذب" المستند على مشتركات دينية وفكرية وثقافية وسلوكية معينة، ولها طابع خاص يميزها عن بقية المدارس الفكرية الأخرى، وتكون بمثابة "المجتمعات المسيّجة" التي تخف أو تشتد عقبات الدخول إليها اعتماداً على "إنفتاحها" و"تقبلها" للآخر. ولا تشكل الطائفية خطراً على المجتمع إلا إذا تحولت إلى أداة "إقصائية" للأطراف الأخرى في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث يتحول المجتمع حينئذ إلى "كانتونات" لا يمكنك دخولها إلا عبر "كلمة سر" و"صك غفران" مختوم ب”علامة الجودة”. ويذكر المفكر العربي "برهان غليون" بخصوص إسقاط الطائفية وغلبة مصلحة طائفة دون أخرى على السلطة "الدولة" بالقول: (استخدام الولاء الطائفي للإلتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون. وتحويل الدولة والسلطة العمومية من إطار لتوليد إرادة عامة ومصلحة كلية، إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة وجزئية. إنها تشكل ما يشبه الاختطاف للسلطة السياسية التي هي أداة تكوين العمومية لأهداف خصوصية. إن الطائفية تنشأ عندما تنقل إحدى هذه الجماعات هذا التضامن والتكافل إلى مستوى الدولة).(٣) ولا نعتقد بأن الحل يمكن في سن تشريعات وقوانين ضد التمييز الوظيفي “على اعتبار وجوده وأثره السلبي”، إذ يتعدّى الأمر ذلك، فهي نوع من “السلوك اللاإرادي المتأصل” في الأفراد، ليقوم هذا المسؤول بإبعاد من ليس في دائرة إنتمائه، حتى لو كان “آينشتاين” ويقرّب ذلك من لا يعرف أساسيات العمل وأبجدياته حتى لو كان ؛مستر بين”. وتتسع دائرة “الكانتونات” لتشمل التمييز بناء على “المصلحة” فبغض النظر عن إنتمائك المذهبي فإن إدارة المصالح الخاصة هو القاسم المشترك في عملية التفاعل السلبية الحاصلة ووالتي تُبعد الكفاءات. فقد يشترك إثنان مختلفان في المذهب أو العرق لكنهما يُمارسان التمييز على الآخرين نتيجة تموضع مصلحتهما في إقصاء من ليس في فلك فكرهما. لذا لا يمكن وصم “التمييز الوظيفي” كونه مذهبياً فقط، بل أوسع من ذلك ليشكل بذرة الفساد الأولى. ويحذّر كل من “أنطونيا تشايز”و”مارثا ميناو” في كتابهما “تخيّل التعايش معاً” من ذلك “البعبع”، لكون الفساد صورة في غاية المحاباة والإغواء تقع في مجاهلها عواقب وخيمة وخطرة يُستبدل فيها حماس الموظف الحكومي الشاب بالإنفلات والسخرية من النظام. وتضيفان على ذلك بالقول “ويؤدي انتشار الفساد إلى كبح تنمية كيانات حكومية فعّالة كما يقوّض في طريقه الشرعية الحكومية. تعمل آلة الفساد داخل الدولة على عرقلة تطوير إدارة قادرة وتعيق إعادة الإصلاح الاجتماعي. فالفساد يكبح التمثيل الجيد والمحاسبة، ويضعف المؤسسات ويحمي المكتسبات غير الشرعية”. وكونهما بحاثتان عمليتان، فقد وضعتا مقترحات للحد من الفساد والذي يشكل فيه التمييز الوظيفي إحدى صوره والارتباط الضمني بذرته الخفية. بالقول” على الحكومات أن توجه الضربات ضد الفساد من خلال تأسيس مكاتب تحقيق في الشكاوى، وخطوط هاتفية مباشرة تتلقاها”. وللأمانة نقول، أنّ هناك جهوداً مخلصة وحثيثة لوضع قطار الكفاءات والمواهب في “سكتها” الصحيحة، والتي تضخ البلد بطاقات بشرية وكفاءات، بات السباق عليها حول العالم واضحاً ولا يمكن التغاضي عنه. حيث يقوم مجلس التنمية الاقتصادية بوضع خطط قد لا تحد من “التمييز الوظيفي” والذي حذّر منه تقرير منظمة “ Crisis Group” إلا أنه يقوم مع صندوق العمل بضخ طاقات في مساحات متنوعة ستجعل من “كانتونات التمييز” عبارة عن جزر متفرقة لا يمكن وصلها، وبالتالي تضعف ولو بمقدار ملحوظ قدرتها على “التحكم” بمفاصل البلاد. والمهمة ليست بالهينّة إلا أن المهم هو أننا بدأنا ونتوقع المزيد، على الأقل لصاحبنا الذي قد يكسر “الارتباط السلبي” ليقدم سيرته الذاتية، ومن الجانب الآخر يرى إن كان أهلاً للعمل، ليكون الباب مفتوحاً لكل بحريني بغض النظر عن “مُسبقاته” التي لن تُضيف أو ُتُنقص من قدرة إنتاجه. فالجميع مثل خلية النحل، فلنتخيل أن جماعات من النحل داخل الخلية أرادت صنع العسل لنفسها دون بقية النحل في مملكتهم وبدأت بالتحزبات وعملت “كانتونات” خاصة بها. فهل ستكون هناك خلية نحل أو مملكة نحل؟


1. يمكنك تجربة اختبار الارتباط الضمني المحوسب على الموقع www.implicit.harvard.edu

2,3. برهان غليون، مجلة الآداب البيروتية. كانون الثاني 07

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

0 التعليقات: