النافذة المكسورة، المالكية نموذجاً



جعفر حمزة*

التجارية ٣٠ يوليو ٢٠٠٨م

عيّنت سلطات نيويورك في منتصف الثمانينيات مديراً جديداً للقطارات النفقية اسمه "دافيد غان" ، وذلك للإشراف على إعادة ترميم نظام القطارات النفقية بكلفة تصل إلى مليارات الدولارات। وكانت المشكلة الأهم هو غياب النظام داخل القطارات حيث السلب والعنف بالإضافة إلى سلوكيات أخرى كالخربشة داخل القطارات نفسها.

وقد طلب العديد من من مؤيدي القطارات النفقية من "غان" ألا يقلق بشأن "الخربشات"، وأن يركز على المسائل الأكبر للجريمة، ومصداقية القطارات النفقية، وبدا ذلك مثل نصيحة منطقية। فالقلق بشأن الخربشات في وقت كان فيه النظام بأكمله على وشك الإنهيار، بدا عديم الجدوى تماماً مثل تنظيف مقاعد باخرة "التايتانك" فيما كانت تتجه نحو الجبل الجليدي.

لكنّ "غان" أصرّ وقال:( الخربشات ترمز إلى إنهيار النظام، حين تنظر إلى عملية إعادة بناء المنظمة، تحاول الفوز بالمعركة ضد الخربشة، ومن دون الفوز بهذه المعركة، لن تحدث كل الإصلاحات الإدارية والتغيرات المادية. كنّا على وشك إطلاق قطارات جديدة يبلغ سعر الواحدة منها عشرة ملايين دولار تقريباً، وما لم نفعل شيئاً لحمايتها، نعرف تماماً ما سيحصل. سوف تدوم يوماً واحداً ثم تمتلىء بالخربشات".(١)
وبعد وضع "غان" لخطته استمر تنظيف الخربشات من ١٩٨٤ إلى ١٩٩٠، وتغير الوضع كلياً بعدما وضع خطة محكمة لم يتراجع عنها أبداً، وقد آتت أُكلها بعد حين، حيث انخفضت نسبة الجرائم والعنف في القطارات النفقية। وبقيت القطارات نظيفة تماماً، حيث داوم هو وفريقه على تنظيفها بعدما ينتهي المراهقون من القيام برسوماتهم التي تستمر لثلاثة أيام في بعض الأحيان، مما سبب لأولئك المراهقون إحباطاً من الاستمرار فيما يقومون به।

وقد اعتمد "غان" في إصلاحه للأمور على نظرية "النافذة المكسورة"، وهي نظرية وبائية للجريمة والسلوك الاجتماعي السلبي، حيث تقول إنّ الجريمة معدية وأنها قد تبدأ بنافذة مكسورة، وتنتقل إلى مجتمع بأكمله. ونقطة التحول تبدأ بشيء مادي-وفي مثل هذه الحالة الخربشة- لأن القوة الدافعة للإنخراط في نوع معين من السلوك، لا تنبع من شخص معين وإنما من خاصية في البيئة. ويبدو أنّ لدينا الكثير من "النوافذ المكسورة" في جزيرتنا الصغيرة، وما لفت انتباهي مؤخراًًٍ هي إحدى النوافذ الكبيرة والمتمثلة في قضية "وقف مشروعات التنمية في المالكية" وربطها بعودة الأمن لإكمالها। حيث يتم الحديث عن الأمن وتحققه في العموم دون التطرق إلى "نقطة التحول" الرئيسية في تحقيق ذلك، وعوداً إلى نظرية "النافذة المكسورة" للتوضيح.

حيث كانت تلك النظرية وليدة أفكارالاختصاصيين في علم الجريمة "جايمس ك।ويلسون" و"جورج كيلينغ"، إذ يقولان "إنّ الجريمة هي النتيجة المحتمة للفوضى. فإذا انكسرت النافذة ولم يتم إصلاحها، فسوف يستنتج الأشخاص الذين يمرّون قربها أنّه ما من أحد مهتم، وما من أحد مسؤول. بسرعة سوف تنكسر المزيد من النوافذ وتنتشر الفوضى من المبنى إلى الشارع الذي يقابله، مع إرسال رسالة أنّ كل شىء ممكن.

فتلك الإشارات البسيطة من خربشات وغيرها بمثابة "دعوات" تتكاثر فيما بعد لتشكل نمطاً سلوكياً في المجتمع لا يمكن التخلص منه بسهولة. وبعبارة أخرى فإنّ ربط إكمال المشاريع التنموية بتحقق الأمن تشكل معادلة ناقصة لنزع الجوّ المشكّل لتلك العقلية التي تحرق وتجعل المجتمع في حالة اضطراب أمنية مستمرة. حيث من المهم معرفة الأسباب الجذرية ـفي حال وجودها- وتحمّل كل جهة مسؤليتها. ومن ناحية عملية الربط المكررة والمقدمة بخصوص إكمال المشروعات التنموية باستقرار الأوضاع في المالكية -مثالاً-، فإنها تشكل سابقة "غريبة" من نوعها، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: نتفق بأن الأمن ضروري للتنمية إلا أنّ الموقف المُعلن يقدّم "قوة" لا داعي لها لمن يُثير الاضطراب في المجتمع، ويمنحهم "ثقة" زائفة مما يشجعهم على الاستمرار على ما هم عليه। كحال ترك النافذة مكسورة دون إصلاحها، وبالتالي تنتشر النوافذ المكسورة، نتيجة عدم إصلاح النافذة الأولى। وقد اتضح ذلك من خلال بعض "العبارات" الاستفزازية للحكومة على بعض جدران القرية।


ثانياً: تحقيق الأمن لا يتم إلا ب"شراكة مجتمعية" بمعنى يجب تحقيق عنصرين أساسيين، هما الجهات الأمنية وأفراد المجتمع، وفي مثل هذه القضية نرى أن مسؤولية تحقيق الأمن بات محصوراً في جهة الأهالي دون الجهات الأمنية، وهي عملية ربط ناقصة وغير منصفة للمجتمع، كما أنها غير منصفة للجهات التي تحافظ على الأمن. وأتت مبادرة أهالي المالكية بزيارتهم لرئيس الأمن العام, حيث عبر أهالي القرية عن تأييدهم الكامل لتوجيهات جلالة الملك التي تدعو إلى مواصلة الاستمرار في مسيرة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والمحافظة على أمن الوطن وممتلكاته، وأنهم سيتعاونون مع أجهزة الدولة في سبيل تنفيذ هذه التوجيهات السامية. (٢) فهناك تحرّك إيجابي من طرف واحد، في حين يقتصر الدور الأمني على إنزال القوات الأمنية في القرية لوقف الحرق والتجمهر غير المرخص فقط।

ثالثاً: يمثل وقف المشروعات التنموية مساساً بهيبة الدولة، والتي تتمثل عبر ضرورة بسط سيطرتها بالقانون وتنفيذ خططها التنموية الشاملة دون التأثر بمجموعات لا تمثل توجهاً لأهالي هذه القرية أو لتلك المنطقة। وفي حال "الشرط" بتحقق الأمن وإيكال هذه المسألة على عاتق الأهالي وحدهم وانتظار النتيجة، فإنها تمثل تراجعاً عن المسؤليات فضلاً عن تأصيل لعرف جديد في عصر المؤسسات والتنمية والتطوير।

ولو اتبع "غان" هذا الأسلوب مع "خربشة القطارات" لضاعت الملايين من الدولارات، ولما استجاب أحد من راكبي القطارات لطلبه -إن فعل- في التصدي للمراهقين ممن يقومون بتلك الأفعال. لم يقم "غان" في معالجته لمشكلة القطارات النفقية بتناول السلوكيات الظاهرة كالعنف والسلب، بل ناول "نقطة التحول" التي تُوحي وتخلق ذلك الجو السلبي والذي يؤدي إلى كل تلك السلوكيات السلبية، وقام بمعالجتها। وعندما نريد أن تبقى "النافذة" غير مكسورة، فعلينا تهيئة الجو لذلك، من خلال مشروعات توجه طاقات الشباب وتحول فراغهم الذي يمثل شرارة في الانتماء إلى سلوكيات سلبية إلى طاقة إيجابية। فكثير من الأمور تحتاج لمعالجة فورية واستمرار في العلاج بدلاً من الانتظار، ولو تم الانتظار لمعالجة فيروس -مثلاً- لانتشر وتفاقم لدرجة لا يمكن وقفه والحد منه.

لذا نؤمن بضرورة مواصلة المشاريع التنموية وبوتيرة متسارعة أيضاً، لتقديم جو عملي يُبعد كل بذور المواقف السلبية، بالإضافة إلى أهمية حضور المشروع عيناً عند الأهالي، حيث يمكن وضع مجسم للمشروع في نادي القرية وتوزيع المخطط بالتفصيل وميزاته بطريقة جذابة لأهالي القرية والمناطق المجاورة لخلق جو بيئي جديد وواقعي يتلمسه الجميع بما فيهم "كاسروا النوافذ"، ليدركوا أهمية أن تبقى النوافذ سالمة بل ونظيفة أيضاً. لأنه في غير تلك الحالة سيبرد الجميع مع حلول الشتاء وبوجود "نافذة مكسورة". وفي قبال تلك النقاط التي تجعل من الجهات "المسؤولة" بعيدة بطريقة أو بأخرى عن "مسؤلياتها" الأصيلة، فإنّ لنا وقفة أيضاً مع الطرف الثاني للمعادلة، وهو أفراد المجتمع بمؤسساته، حيث يشكل "السلوك الجمعي" عاملاً مؤثراً في صياغة التطوير والتقدم। فإذا أهمل كل فرد وضع القمامة في المكان المخصص، فليس هناك لوم على الحكومة إن وفرّت تلك الأماكن। والأمر بالمثل في هذه القضية، فعلى الأهالي القيام بالنصيحة في المرحلة الأولى ومن ثم التهميش والمحاصرة الاجتماعية، لتصل إلى مرحلة الضغط والدفع بهم لتغيير سلوكياتهم، وما زيارة أهالي المالكية إلى رئيس الأمن العام إلا إحدى الخطوات المطلوبة، ولكن قبلها يجب أن تكون المخاطبة مباشرة إلى أولئك الشباب، ولسنا في "زيمبابوي" بحيث لا يعرف الفرد صاحبه أو جاره في القرية، وتلك "المعرفة" تشكل مسؤلية لا ينبغي التواني فيها.

ومن الجميل أن تستمر زيارة المسؤلين إلى القرى والمدن، ليشعر الأهالي بقرب الحكومة منهم، وحبذا لو تُكثّف تلك الزيارات -خصوصاً في المناطق المضطربة-، لنزع السلوك الدافع لكسر بقية النوافذ في المجتمع. وعوداً إلى "النافذة المكسورة"، إذ لا يمكن ترك النافذة على حالها إن تم كسرها، حيث يجب إصلاحها من قبل مختص "الحكومة" وبرضا صاحب المنزل "الأهالي" والذي كسر النافذة إن كان من أهل البيت فيجب تأديبه، وإن كان من الخارج فيجب متابعته ومحاسبته. وقبل هذا وذاك ينبغي السؤال عن السبب في كسر النافذة ومعالجتها. وفي غير ذلك يبدو أن النوافذ ستبقى مكسورة إلى حين مجىء "غان" ليصلحها لتبقى بقية النوافذ سالمة.



The Tipping Points, by Malcolm Gladwell
نصيحتي المتواضعة هو قراءة هذا الكتاب للطرفين، الحكومة وممثلي الأهالي. توجد منه نسخة عربية أيضاً.
٢)
الوقت ٢٥ يوليو ٢٠٠٨م

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

1 التعليقات:

  غير معرف

٣ أغسطس ٢٠٠٨ في ٨:٤١ ص

العزيز حمزة،
في الأصل لماذا كسرت النافذة؟
التصريح بأن لا تنمية إلاّ عندما يستتب الأمن يعني ان الدولة تتخلى عن مهمتها كدولة، وحين تعمد غلى ذلك يعني هزيمة الدولة و لأنها جزءمن عدم استتاب الأمن. ولا شيء من هذي الدولة سوى المفاجآت المرّة
مقالك أكثر من رائع.
مت حيا بأمل
ازاميل
سامية حسن