صاحبة الصندوق الأسود



جعفر حمزة

كانت كلما اقتربت من المرآة استعانت بذلك الصندوق الأسود، ليكون لها حليفاً لا يمكن الإستغناء عنه، وأنّى لها ذلك، وهي أعجز من أن تملك الشجاعة للنظر في المرآة قبل عروجها على ذلك الصندوق الذي أصبح كظلها بل أكثر.



فهي لا تتمكّن من النظر لنفسها عبر المرآة مع كل تلك البثور
والسواد حول العينين، وبعض التجاعيد هنا وهناك، بل وذبول وشحوب في تضاريس وجهها، بالرغم من صغر سنها. فلا يمكنها الظهور للناس والحديث معهم بهذا المظهر الغريب عن طبيعتها، وحتى هو أبعد من اسمها الرنان "عذاري".



فاستعانت بصاحبها الذي لا تفارقه، ذلك الصندوق الذي يعمل
كخاتم سليمان حينما تفتحه وتضع ما فيه على وجهها الشاحب، لترتسم ابتسامة "مصطنعة" ونظرة جليدية في عينيها، لتعرضه على الناس "بضاعة مُزجاة" وبكل فخر مع كل تلك الجبال الرواسي من "المكياج" على وجهها، بفضل ذلك الأسود الصغير –الصندوق-.



كانت لعذاري تلك شطآن يتمتع بها السمك والإنسان، ففرقت
بينهما أسوار يغار منها سور الصين العظيم، وكانت لعذاري مساحات شاسعة تتعب من قطعها دجاج البر، فجّزأتها أسوار أخرى فرح بظهورها جدار العزل في فلسطين المحتلة، فليس هو الوحيد الذي يعزل، ولا يريد أن يكون مصيره كجدار برلين، فهناك أكثر من جدار يسانده هنا عند "عذاري".



وكانت لعذاري تلك فستان أخضر، فأُخذ عنها ووضع على الطريق ليمشي عليه البعض "المُقدّس" للوصول إلى مكاتبه الإسمنتية الجافة
.

فكل
شيء تغير في عذاري، من رموشها إلى وجنتيها، ومن قامتها إلى أخمص قدميها، والحال هذه فلا عتب إن استأنست بأسود صغير، قد يعيد لها ما افتقدته، أو يؤنسها فيما تجده.



والناظر المنصف لعذاري (البحرين)، يجد أن مقدار "التشويه
" الذي لا يغطيه أي "مكياج" حتى لو أصبح جبلاً على وجه هذه الجزيرة، قد أصبح عصيّاً أن يُغفل أو يُهمل، فهناك إخلال فاضح بالتوازن البيئي من ردم للبحار وما يستتبع ذلك من قتل للحياة البحرية وشبه انقراض للثروة السمكية الطبيعية، في قبال غياب تخطيط ذكي في توفير البدائل الصناعية لإنعاش الدورة البيئية الطبيعية، كما فعلت سنغافورة بتوفير بيئات صناعية للأسماك حتى أصبحت شبه طبيعية في بعض سواحلها البحرية. فضلاً عن تخطيط ذكي في توزيع الوحدات السكنية والمناطق الصناعية للحفاظ على رأس المال الأساس عندها، وهو الإنسان السنغافوري.

وعند الحديث عن الإنسان هناك بقايا حياة محاصرة بالغازات الملوثة والضارة
للإنسان في المعامير والرفاع، ولا يوجد حراك حكومي فعلي لحل الأزمة، فضلاً عن حصار بري وبحري للناس على هذه الجزيرة، فأينما تولي وجهك، فهناك جدار يحجب البحر وآخر يحد البر، وبذا تتكثف الأنفاس ضمن رقعة جغرافية ضيقة جداً، وما لذلك من تبعات صحية وبيئية وأمنية، وكل ذلك هو غياب حقيقي لمعنى التنمية الحضرية في جزيرة تتزاحم فيها الأنفس ضمن "كانتونات" اسمنتية لا يفصلها إلا شارع عام أو جدار خاص.


والتنمية لا تعني كسر دائرة التوازن البيئي الطبيعي، بل هو
الاستغلال الأمثل للتنمية لتكون موائمة مع البيئة لا العكس. وإن تغنى البعض بضرب المقارنة التي أصبحت مضحكة مع سنغافورة أو إيرلندا، فما عليهم إلا "غوغلة" كلا البلدين ليعرفوا ما تفعله سنغفاورة بالتوازن البيئي، وما الذي تقوم به إيرلندا من أجل ذلك.



هجوم على البحر وقتل للثروة السمكية، ومتاجرة بالبيئة من أجل
استثمارات لا تعود للمواطن إلا بالفتات أو أقل منه، في حين تبقى مساحات على مد البصر في وسط البر أو بقرب من بحر تنتظر سكينة الكعكة الكبيرة ليتم توزيعها يمنة ويسرة على المقربين أو أصحاب اليمين من الداخل والخارج، بحجة تشجيع الاستثمار، في حين هناك غياب فاضح لرؤية بيئية متوازنة لجزيرة صغيرة مثل البحرين. فضلاً عن إنعدام المردود الاقتصادي المساهم في بناء المجتمع. فعن أي استثمار يتكلم البعض؟

حيث تم تقطيع أوصال التوازن البيئي في هذه الجزيرة، من خلال العديد
من الصور التدميرية من خليج توبلي إلى ردم البحر، ومن الغازات التي تبث سمومها على المناطق المجاورة إلى تقليص للرقعة الخضراء.

وكل ذلك
يُبعد البحرين عن تحقيق أهداف الألفية المتعلقة بالبيئة والحفاظ عليها، ومدار الخطر الحقيقي للوضع البيئي في البحرين يتشكل من "محاصرة" و"تقطيع" و"تدمير" لأشكال التوازن البيئي، والتي تجهد الدول المتحضرة قدر الإمكان في الحفاظ عليه، في ظل التغيرات المناخية والتحديات الغذائية.

هل حقيقة نحن نتحدث هنا عن جزيرة و33 محاطة بها؟

فبدلًاً
من العمران في الداخل البري، والحفاظ على التوازن البيئي البحري وتنمية الثروة السمكية، أصبح الهجوم على البحر من ردم للسواحل لإنشاء مشاريع لا ترجع بالفائدة على المواطن من جهة، وإغلاق المنافذ البحرية لتكون خاصة من جهة أخرى، وبين الردم والإغلاق تفوح رائحة الإختلال البيئي وهو من نتاج اختلال التخطيط في أي دولة تضع لنفسها رؤية تحاكي التطورات والتحديات المناخية والبيئية على مستوى العالم.



ولو يرى المنصف أنه بالإمكان تحويل تلك الصور البيئية
الطبيعية إلى مشاريع استثمارية تدر الربح على الحكومة والمواطن على حد سواء، من خلال تقديم البيئة البحرية الطبيعية للبحرين وجزرها كما هي دون رتوش أو تجميل مصطنع يكون فيه المواطن جزءً من المنظومة السياحية لتلك البيئة، كما هو حاصل في جزر المالديف والهاواي وماليزيا والهند.

وكلما وضعت "عذاري" الكثير من المكياج، كلما تصلّب وجهها وفقدت فيه
ملامح الحياة، ألم ترَ إن غياب التخطيط الجيد والذكي للحفاظ على التوازن البيئي يجر التبعات تلو التبعات، من أمراض عندما ندمر البحر ونستورد السمك، وتقل نقاوة الجو مع وجود الحدائق الإسمنتية التي زُرعت بدلاً من تلك الطبيعية. ومن سمعة تكون على المحك عندما يُحاصر البحارة في أرزاقهم، فتكثر الحدود الحمراء في بحر وطنهم، فيبحرون مرغمين لا راغبين في البحار المجاورة، ويكون السؤال في خُلد مسؤولي وشرطة الدول المجاورة، ألا يوجد لديهم بحر ليبحروا بالقرب منها؟ أليس هم في جزيرة؟ فمن يشوّه صورة البحرين؟



ولم يعلموا بأن عذاري قد فقدت هويتها مذ تم "اغتصاب" البحر
و"ضرب" البر، فأصبحت بين هذا وذاك رفيقة للصندوق الأسود.. الذي اتخذته عزاءً لتلميع صورتها بجبال راسيات من المكياج، وما علمت بأنها تفقد حياتها عند أقل هزة بيئية تبدأها الطبيعة أو يفتعلها الإنسان.
فهل ينفعها الصندوق الأسود حينئذٍ؟




0 التعليقات: