السفر من الاستفراغ إلى الإبداع. كيف نصنع قوالبنا المعرفية الخاصة؟



تجدهُ وحيداً في أدغال أفريقيا كناسِكٍ متأمّل، "سجادتهُ" طاولة البحث و"سبحته" أدوات الفحص والقياس و"ِقبلَته" شاشة جهازه الإلكتروني المُعينَ له في تحصيل النتائج وتقديم القراءات.

ولا يختلف الأمر عن "ناسكٍ" آخر في وسط زمهرير المناطق الباردة، أو في أعالي قمم الجبال أو في أعماق المحيطات، أو في قلب مجتمع غريب عنه ثقافة ولغة، فيأكل وينام ويعيش معهم، لتجد مثل هؤلاء "المتنسكّون" للبحث والمعرفة في كل بقاع هذه الأرض، مأهولة أو مهجورة.

ما "المغناطيس" الجاذب لهؤلاء لترك نمط الحياة الطبيعية ليكونوا في خِضَم مثل هذه الظروف التي قد تؤدي في بعض الحالات لفقدان حياتهم؟! أو أقل تقدير لانعزال -ولو مؤقت- عن المحيط البشري، أو ليكونوا ممن يواجهون النقد والتقريع من قبل المجتمع؟

من أين كل هذا الكَمِّ من الشَغَف وعشق المعرفة والبحث؟

هي مُحصلة ثقافة ودعم لها، مُحصلة تربية في التعليم داعمة بتشجيع ولو بِنَسَبٍ متفاوتة في هذا المجال.

فالبعض يخوض غمار ذلك الإعتكاف المعرفي التجريبي بدعم من مؤسسات بحثية، وآخرون ينطلقون بعفوية هذا الإنسان الباحث عن المعرفة كقيمة عُليا، هي المغناطيس الأكبر له، فيرى نفسه منجذباً لها مُسخرّاً جهده ووقته وماله الخاص حتى ليصل إلى تلك اللذة الأجمل، لذة كسر الفضول بتحصيل جوابه، لذة عشق الإنسان لمعرفة ذاته وقدراته، ولذة اكتشاف ما يمكنه تحقيقه لذاته وللآخرين، ليترك أثراً..

ببساطة ...

 لأنهم يبحثون في "المُسلمّات" ويسألون عنها بروح طفل وعقل باحث؟!

 

ما فَتِأَ الإنسانُ يتحرك بقوتيه الجاذبة لكل نفع والدافعة لكل ضرر، ليحافظ على توازنه الطبيعي مع الكون من أجل سعادته ونمو معرفته التي تُعينه على التكيُّف والرقي في محورين لا ينفكان عن بعضهما:

المحور الأفقي: المتمثل في الوسائل والأدوات التي تعينه على قضاء حوائجه اليومية من مواصلات وتواصل وصحة وسكن وتسهيلات معيشية. وما فوق ذلك من خوض تجارب معرفية في هذا المجال.

المحور الرأسي: وذلك في استحصال معرفة فهم الذات ودراستها والرقي بها معرفياً وروحياً.


وما دام الأمر يتعلق بالإنسان في مكامن المعرفة التي يتحصلها، فإن الكتاب المقدس عند المسلمين يتمتّع بخاصية دون بقية الكتب المقدسة للأديان الأخرى، فلدى القرآن  الكريم منهجٌ بيِّنٌ في ذلك، والناظر المنصف يرى عدداً نوعياً من الآيات التي تدعو للتأمل والتدبر في المحيط والكون، ذلك التأمل الذي يُوصل إلى معرفة أصل الوجود، وفي الطريق إلى ذلك تكون التجارب والاكتشافات والمعارف والإفادة ونشر المعرفة، فكل صور المعرفة التي يصل لها الإنسان هي مصاديق لحقيقة  أكبر تتمثل في “من أين؟” و”في أين؟” و”إلى أين؟”، وما بينها “كيف؟”.

تلك الأسئلة الوجودية هي محركّات البحث الأساسية للإنسان، للمعرفة والاكتشاف والتقدم، طبعاً مع لحاظ التوظيف المادي البحت لها، من خلال كبرى الشركات التي تضخ الأموال في مجالات البحث والمعرفة لزيادة تخمتها المالية وتوسعها المؤسسي، وغيرها من حسابات أخرى.

لكن الحديث يأتي من الحمض النووي الأساس للدفع نحو المعرفة والاكتشاف، وهو ما ذكرناه، وهذه المؤسسات لا يمكنها “خلق حمض نووي جديد”، بل هي تستفيد أو تستغل من الموجود لصالحها، أي أن التوظيف مُكيّف.

 

إن القيمة المعرفية للإنسان تأتي في أكثر من شكل وقالب ووسيلة، ومن ينشدها من بني البشر يأخذها أينما كانت بتجرد بالغ، ليتواضع أولاً وليكون نور المعرفة طريقه ولو حملها غيره ثانياً.

فمرة يكون هو مصدر المعرفة والمعلِّم، "فقال أنبئهم بأسمائهم" في طلب الله تعالى لآدم بعد أنْ علمه الله إياها.

فكانت له معرفة تجهلها الملائكة.

والمعرفة أنزلها الله على كل مخلوقاته بدرجات، منها الثابت كما لكثير من الجمادات، ففيها السُنّة الكونية من ظواهر طبيعية يمكن استقراء المعرفة منها “قوانين الفيزياء والكيماء وخواص المواد”، ومنها ما هو شبه ثابت كما ف الحيوانات مثلاً، ومنها ما هو أغرب من ذلك كله، وهو المتغير بالرغم من وجود مستوى الثبات فيه وقدرة الزيادة، وهي في الإنسان.

ونتيجة لذلك، حوى القرآن إشارات لطيفة وجميلة لمعادلة تفاعلية طرحها للإنسان ليكون مثل دوار الشمس متطلعاً للمعرفة أينما كانت.

ألم ترَ الغراب هو من علّم أول قاتل في البشرية “قابيل” كيف يواري سَوأة أخيه؟

فكان المُعلّم الأرضي الاول للإنسان "غراب"، ولم يكابر قابيل على ذلك واعترف بضعفه وتدنّي معرفته قبال غراب!

 “يا ويلتى، أعجزتُ أنْ أكون مثل هذا الغراب، فأُواري سوأة أخي”، المائدة ٣١

وفي مملكة سليمان العظيمة يأتي الهدهد ليقدّم "موجز الأنباء" وأهمها، ما لم تُحط به الجن خُبُراً حتَّى، بالرغم من سرعة الأخيرة وقدرتها الفائقة في التنقل. “وجئتك من سبأ بخبر يقين”.

 

فكان هذا الطير هو من يأتي بهذا الخبر لتترتب أحداث تدخل على إثرها ملكة سبأ بلقيس في ديانة نبي الله سليمان.

ويصبح تغيير لسياسة مملكة بأكبرها بسبب الوسيلة الاستخباراتية السليمانية "الهدهد"!

وأما حوتُ يُونُس، فكان الكهف المتحرك لهذا النبي في البحر، وهو -الحوت- بيئة التعلم والامتحان للنبي حتى ألقاه الحوت على  اليابسة.

وغيرها من مواقف لو يتأملها الإنسان لوجد فيها منهجاً عميقاً في تحويل البيئة المحيطة لطاقة متدفقة لاستنطاقها والوصول إلى نتاجات ملموسة، تسير من دائرة الروح والترقي المعنوي إلى دائرة التوظيف العلمي العملي.

والمدقق المتأمل في الآيات القرآنية يجد فيها عمقاً لا ينتهي، كأنها طبقات بعضها فوق بعض، الإعجاز اللغوي أول ما تجده في الطبقة الأولى، وسلاسة الطرح تعمل كمغناطيس جاذب للقارىء، وكلما أبحرت في التأمل في هذا الكتاب المقدس اكتشفتَ غُرُفاً لم تلحظها من قبل، غرف أوسع من مخيلة “أليس” في بلاد عجائبها، وأكبر من عالم “نيو” في “الماتريكس”، شيء لن تجده في كل ما رأيت وسمعت وقرأت، ستجده في كتاب بلغة عربية جميلة وعميقة ودلالات ذات أبعاد تتوالد مع الزمن ولا تتوقف، ومن هنا تأتي القدرة المميزة لهذا لكتاب المقدس، فهو يلامس في كثير من جوانبه أساس “محرّك” الإنسان لتطوره، وهو التدبّر والتأمل في المحيط واكتشافه.


( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ )  البقرة : 164.


ماهي إحداثياتك؟

وكثير من الآيات التي يحويها القرآن في مجال التدبر في النفس، الجنس، الحيوانات، السماء والأرض والنجوم والجبال والسحاب والبحار والحشرات والقائمة تطول..

فلم التدبر في مثل هكذا أمور من كتاب سماوي مقدس؟

لأن التدبر العملي المتمثل في استنطاق قوانين الكون ونُظمه يُحيلك إلى كائن متجانس مع المحيط والكون الذي أنت فيه، وهذا التجانس هي قمة الكمال الإنساني، والتدبر هي النافذة العملية لإدراك خطين إذا ما أوصلتهما ببعض سيتمثل لك الإطار الحقيقي للحركة الأصلية في هذا الوجود ككل.

 ١. خط اكتشاف الذات والقدرات الكامنة فيك وسبر أغوار النفس

٢. خط معرفة معادلات الكون وقوانينه وأسراره

“سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”

[فصلت : 53].


وبوصل خطي فهم الذات وفهم المحيط تتشكل ملامح خط الأفق الأكبر لمعرفة أين نحن ومن أين وإلى أين.

بتينك المعرفتين نرسم إحداثيات موقعنا في هذا الوجود.


المجتمع الذي لا يتأمل يتململ، وبالتالي لا يُدرك حتى يُنتج، فالتأمل أصبح من مهام مجتمع آخر يُدرك قوانين الكون ومعادلاته، فيتفاعل فينتج ويصدر ويرتقي، ولذا نلاحظ أن المجتمعات الغربية وصلت إلى ما وصلت إليه طبعاً بعد صراعات داخلية مع الذات فاستقرت على توليفة معينة في نظمها الاجتماعي العام، ومع عوامل أخرى كان لها أثر بطريقة أو بأخرى، سواء الاستفادة من حضارات أخرى-وهذا حق إنساني- كاستفادتها من الحضارة الإسلامية والتي هي بدورها كان لحضارات وثقافات أخرى لها دور في صياغة بعض منهجا العلمي، مع وجود روح جديدة في الحقبة الإسلامية المزدهرة حينها.

وما نراه الآن من حركة إنتاج تغرق أسواقنا وأسواق العالم هي نتاج مخاض عاشه الغرب والشرق خصوصاً، وخرج بإحداثيات لموقعه من الإعراب في هذا العالم، إحداثياته تُخبر بقدرته وقوته في الإنتاج والتفكير والتطور.

وذلك نتيجة تظافر خطين آخرين يرفعان موقع الإحداثيات عالياً ويكون واضحاً للعيان وعلى قمة جبل الجليد الذي لا نرى سوى أعلاه، وما دونه ثقافة وجهد وعمل وشغف وثقافة.

وذينك الخطين هما:

أولاً: سياسة الدولة

ثانياً: انتعاش ثقافة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.

لنرى إثر ذلك أن العقول العربية المبدعة تزدهر هناك وتثمر.


وفي عالمنا العربي خصوصاً، لدينا القدرة على امتلاك الإحداثيات الأولى دون الثانية ، إحداثيات القدرة على فهم الذات والمحيط مع غياب أو ترهّل واضح في الخطين الآخرين الرافعين لإحداثياتنا، وهما خطا سياسة الدولة وإنعاش حقيقي مدروس منظم منصف للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.

ولئن غاب هذا الدعم، فهناك ما يمكن الحركة فيه، إذا ما انطلقنا من تفكير الإنسان الكوني، بمعنى أن لا نضع حدوداً معرفية ترتبط بالحدود العُرفية أو الجغرافية أو السياسية حولنا، فهذا ظلم للمعرفة بقدر ظلم للإنسان نفسه.

قد اكتملت الحُجة في تحديد إحداثيات وجودك في هذا العالم، ما دمتَ تمتلك القدرة على أمرين، معرفة قدراتك وذاتك، وإدراكك للمحيط، ومن ضمن نتاج إدراك المحيط معرفة الأدوات التفاعلية فيه لإظهار معرفة الذات، فبات الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة تُمكنّك من زيادة حصيلتك المعرفية وتُشارك بها مع الآخرين في نفس التوجه والتخصص من كل بقاع العالم، وتستقبل الملاحظة والنقد والتعديل، وهكذا تنمو مساحتك المعرفية التي تزودها كل هذه الأدوات الحديثة، وتكون هويتك كونية غير مؤطرة بسياسة دولتك أو حدود بلدك.

وتكون مُشاركاً العالم كله بما تفكر وتنتج وتبتكر، وما عليك إلا الصعود على منصة الإلقاء الفسيحة وتسعد بشراكة أخيك الإنسان فيما وصلت له من معرفة وما يفيد من حولك من علم.

ولئن كان نخرُ السياسة قد استنزف قدراً من طاقتنا من جهة، والإنغماس في كهف الدين السلبي قد صرف قدراتنا إلى غير محلها من جهة أخرى، فما زالت “أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”، ليلتقي الإنسان بأخيه الإنسان في معرفة وعلم وتأمل وتدبر من أجل رفع قيمة الوجود فيه، فيزداد وعي الإدراك لذواتنا وما حولنا، وتتحول قدرتنا على اكتشاف الذات ومعرفة المحيط إلى ابتكارات واختراعات ومبادرات لا تتوقف، سواء كنت في قرية بالبحرين أو في إحدى ضواحي نيودلهي أو في عمارات نيويورك.

 

فالإنسان ما إن يستخرج قدرة فهم ذاته، تبقى عليه مهمة نشر تلك القدرة وترجمتها بلغة تفاعلية مع الآخر عبر فيلم، ابتكار، اختراع، مبادرة، نظرية، فن، كتاب، مقال، مشروع، وتتخذ حينئذ المعرفة أشكالها المعروفة المذكورة أو تتطور لتكون في قوالب جديدة ومختلفة.

لحظة...

نتحدث عن القوالب هنا وتصنيعها..ننتظر قليلاً ونتأمل هنا في إحداثياتنا وموقعنا من الإعراب في صناعة القوالب المعرفية.



قوالب استفراغ أو إبداع؟!

إن تشكيل القوالب المعرفية

Knowledge Template

يأتي من مخاضات عدّة، تمتزج فيها الجرأة والشجاعة للمعرفة، مع إدراك مهم لطبيعة الثمن المدفوع من عُمر الإنسان، وصحته ووقته وماله بل وحياته حتّى. ليتشكل إثر ذلك قالب معرفي ثري يُبنى عليه قوالب جديدة وهكذا يُؤطّر القالب الواحد أمثاله من قوالب شتّى، فضلاً عن أن يكون هو مُعتمد أساس في تصنيع نتاجات تعتمد عليه، سواء كان هذا القالب نظرية علمية أو اكتشاف أو اختراع أو مبادرة روحية أو اكتشاف للذات وغيرها من الحركات المعرفية المتنوعة في شتى مجالات الحياة المختلفة.

والمجتمعات ذات العنفوان المعرفي والجرأة في الاكتشاف تمتلك القدرة على تصنيع القوالب وابتكار الجديد منها، وبيع القديم منها لمجتمعات أُخَر أو بيع الجديد منها بشروط تضمن لها أن تكون في المقدمة دوماً.


ولا أدل على ذلك من الكثير من الصناعات المحظورة بفعل القوة السياسية على دول لا تتوافق مع مُصنّعي القوالب المعروفين في العالم، فلا مجال للحديث عن نهضة الصناعات الذكية في الدول التي تمثل “مصدراً زهيداً” للطاقة للدول صاحبة القوالب.

والأمر سيّان على كثير من الصناعات التي يمكن اعتبار الاقتراب منها فهماً أو تطويراً “محظوراً” نتيجة استئثار معرفي تمتلكه دولة دون أخرى.

ذلك في مستوى صراع العمالقة بين دول تريد تصنيع قوالبها الخاصة أو على الأقل بتطوير القوالب الموجودة، وأما على مستوى الأفراد والمجتمعات، فإن المهمة ما زالت مستمرة والقدرة على التصنيع ما زالت قائمة، والتعذّر بوجود سياسة دولة “تُعاند” الإبداع أو” تُثبطه” لم تعد قوية وتتلاشى مع القدرة الرهيبة في التواصل والتحصيل المعرفي والتقدم العلمي على ذينك المستويين، الفردي والمجتمعي.

وأصبح الفرد العربي عموماً في مرحلة “الاستفراغ Vometing” لكل ما هضمه طيلة زمن حُكِمَ عليه باتباع القوالب الجاهزة بين يديه فقط دون تفكير أو ممانعة أو سؤال. وأصبحت نافذة التواصل الرقمية الجديدة المُتنفّس الذي ينتظر، وهي قالب جاهز مُصنّع، ولم يصنعه هو.

وما إن فُتحت هذه النافذة حتى “استفرغ” ما في معدته من سياسة مُهلكة للطاقة أو دين مُشوّه للروح.

وما زلنا في مرحلة “الاستفراغ” التي لم نخرج منها بعد، والدليل الكم الهائل من الساعات التي تُقضى في أمور لا تخرج من دوائر ثلاث: السياسة، الدين، الترفيه.

 

ويبدو أننا لم نُصدّق بعد أن النافذة موجودة ومفتوحة، ويمكننا تنفّس الهواء العليل منها، بدلاً من استمرار الاستفراغ المُنهك لطاقتنا الداخلية وحصيلتنا المعرفية المتواضعة.

بالرغم من قدرتنا على تجاوز مرحلة “الاستفراغ” لندخل مرحلة “الإبداع”، إلا أن الإشارات الدماغية عندنا ما زالت تُرسل إلى معدتنا “الخالية” أن استمري في الاستفراغ “تعويضاً” عن كل ذلك “الحرمان” الذي كانت فيه!

خرج الشعب الياباني بسرعة رهيبة ومنظمة وذكية من مرحلة “الاستفراغ” للحدث التراجيدي بعد إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما القنبلة الذرية، ليفتح هذا الشعب الصبور والمبدع”نافذة” على مأساته، ليكون من بعد ذلك الفتح “إبداع” لم يتوقف من بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا.

ذلك الشَغَف المُتقد الذي لا يخبو أواره يأتي من إيمان بحق الوجود “المُبدع” للإنسان، لا الوجود “المُفجع” له عبر استهلاك لموارد الحياة وصرف للطاقة وهدر لأغلى رأس مال لا يُعوض “الوقت”.


القالبان الوحيدان الممكن الإبداع فيهما ووضع طاقتنا فيهما بذكاء وتنظيم هما:

الوقت والمعرفة.

وما دمنا نفكر  في “الإستفراغ” تنفسياً عن عُقَدٍ سياسية أو دينية أو شخصية، وما دمنا نطل على النافذة المفتوحة لنملأ الدنيا ضجيجاً بصراخنا، فلن نصل إلى “الإبداع” أبداً، وستكون كل قوالب حياتنا مُصنعة، وما علينا سوى “الاختيار” ما بينها. وفي ذلك “جبر” خفي، فكل الخيارات لم تصنعها أنت ولا أنا، بل غيرنا وفق رؤاهم وأهدافهم وتلك قدرة ونقطة تُحسب لهم ولا عتب في ذلك.


فما دمتَ لا تملأ الفراغ، سيملؤه غيرك.

 

فأصبح سفرنا بنوعيه الجغرافي والرقمي إسقاط للطاقة السلبية فينا بطريقة أو بأخرى، فالسفر الإلكتروني والرقمي بات محلاً لتفريغ شحناتنا السلبية يمنة ويسرة، في حين أن وجهات السفر الرقمية متعددة وبها الكم المعرفي الهائل الذي نصوم عنه.

وأما السفر الجغرافي فبات هروباً وتنفسياً وترفيهاً دون إدخال عنصر المعرفة فيه، باقتراب حقيقي لفهم قيم الشعوب الأخرى ووضع اليد على مصادر قوتهم المميزة لهم عنّا.

والسفر الديني بات في أغلبه مُفرغاً من محتواه وسلوكه المقصود له.

والمجتمع الذي يريد إبداعاً لا استفراغاً يحوّل تلك القيمتين إلى مبدأ ووسيلة ويدفع باتجاههما.

نرى أن توجيه القدرة المالية في استحصال المعرفة بات أمراً مفصلياً، وما نراه هو تعزيز للفردية بطريقة غريبة جداً، حتى على حساب المنفعة العليا للمجتمع.

فهل فكّر المجتمع الذي يُنفق بسخاء إذا ما جمعنا حصيلة ذلك الإنفاق بصورة سنوية، هل فكّر في ابتعاث أفراد منه ليتفقهوا في علوم العصر ويرجعوا إليهم بغنيمة العلم والمعرفة، ومن ثم ينشرها بين أقرانه وفي مجتمعه؟!


لم يعد الأمر كما أؤمن متعلق بمال أو قدرة على الدفع باتجاه تصنيع القوالب المعرفية الخاصة بنا، بقدر فقدان الرغبة نتيجة للعقل الجمعي السلبي العام أو المنغلق على فهم أهمية تصنيع المعرفة الخاصة بنا.


والفضاء الإلكتروني “حُجّة” والإيمان بمبدأ الإنسان المبدع لأخيه الإنسان “دافع”، فإذا ما غاب الدافع وانتشرت الحُجة، لم يعد لحركة الإنسان على هذه الأرض إلا مجرد صورة استهلاكية للطاقة الموجودة في هذا الكون.

لذلك يُشير القرآن الكريم على ضرورة التدبر والتأمل والتفكر في الذات والمحيط لإدراك حقيقة الوجود، والذي يدفع لإدراك قوانينه ومفاهيمه، وتكون النتيجة إمكانية تصنيع القوالب الخاصة بالمجتمع الإنساني.


 بين يديك قدرة معرفية هائلة لم تكن موجودة للأجيال التي سبقتك، وبين يديك معرفة “مضغوطة” في جهاز إلكتروني بحجم الكف، وبين يديك ما هو أكثر قدرة وقوة من “مصباح علاء الدين”، وبين يديك ما يُلبي طلبك أكثر من “خاتم سليمان”، وبين يديك ما هو أكثر واقعية وأشد تأثيراً من قدرة “نيو” على تعلم الفنون القتالية والمعرفة في “ماتريكس”، بين يديك كل ذلك، فأي نافذة فتحت؟!


نافذة لتستفرغ؟!

أو

نافذة لتُبدع؟!

 

0 التعليقات: