أسرني بلطف رده ولباقة سلوكه، فذهبَ عدم الرضا الذي تملكنّي من خدمةٍ كنتُ أترقبها من مكانٍ ارتدته لأجلها.
وما خرجتُ إلا راضياً بفضل ذلك الموظف الذي علته ابتسامة سعة الصدر ورحابته.
رسول كل هوية، ليس مالكها فحسب، بل كل العاملين فيها، من أصغر موظف حتى مديرها ومالكها، فكل واحد منهم يحمل قطعة تشكل الصورة الأكبر للهوية، كالأحجية Buzzle
لذا من المهم أن يتشرّب الموظف أو العامل في مشروعٍ ما قيم هوية ذلك المشروع ويعيشها حقيقة ملموسة، أقلها أثناء تواجده بالعمل. وغياب ذلك الحضور المهم في السلوك، نتيجة لأي سبب، يعرّض مشروعك وهويتك -كصاحب عمل- للنخر من الداخل، ولا تستصغرنّ أمر العاملين في مشروعك، إذا ما غابت عنهم قيم المشروع وما عاشوها قولاً وفعلاً.
أي موظف في جهة حكومية إلى الشركات ومؤسسات القطاع الخاص، إذا غابت عنه روح العمل، ستكون مسألة الهوية “البراند” مجرد شعار بصري للمعاملات الرسمية والتسويق البارد، والظهور الإعلامي للبهرجة لا سواها.
ما نفع الهوية إذا لم يعشها من يعمل لها؟
ستكون لهم في نهاية المطاف ذلك الشعار الذي يمثل الجهة التي يعملون فيها لاستحصال راتبهم نهاية الشهر، دون ذلك الارتباط الحميمي معه. وهذه الروح مع تأصلها في سلوكيات العاملين لأي مشروع أو جهة، سيجعل من أي هوية مجرد مكان للقيام بالعمل الموكل له لا غير، ولا يتعدّى أمر القيم التي تحملها ولا هم يحزنون.
ألا ترى أننا عندما نتحدث عن بعض الهويات التجارية، ترى أن لذكرهم حضور فعلي في حياتنا عبر منتجاتهم وخدماتهم التي فرضت حضورها في حياتنا اليومية؟
مثل iPhone، و Nike و Google و Instagram و Toyota والقائمة تطول..
هذه الأسماء وغيرها، لا تقدم مجرد منتجاً أو خدمة فحسب، بل تقدم تجربة حياة مميزة يكون بين جدرانها، فلا غرو إن رأيتَ إبداعاً لا يتوقف، وشغفاً من لدن العاملين فيها لا يعرف سوى النتاج تلو النتاج لأجل “جمهوره” المنتظر للجديد منه.
ذلك الشغف الكامن في صدور العاملين في تلك المؤسسات وغيرها، نتاج التوافقية الملموسة بين الهوية وحضورها بين الموظفين، وهو ما نفتقده في كثير مما لدينا من هويات، ومقياس ما نذكر هو محاولة استذكار هوية قوية لها الدور البارز في الإبداع وتقديم الأنموذج في هذا المجال، فلا أتذكر!
وبالرغم من إمكانية تقديم ذلك وبقوة، لتوافر الموارد وقرب الثقافة إن لم تكن نفسها بين العاملين، مقارنة ببقية الماركات التي تم ذكرها آنفاً في هذا الموضوع بالعموم.
إذ لا تقوم الهوية على مؤسسها فقط، فكل العاملين كفريق كرة القدم، ولكل مهمته، وعندما تتمثل هوية المؤسسة في العاملين بصورة عملية ويشعرون بالإنتماء لها، يكون كل موظف هو مالك الهوية لا عامل فيها فقط، حينئذ يكون النتاج والاستمرار والإبداع متدفقاً دون حد، وترتفع قيمة هذه الهوية في السوق، نتيجة تلك الطاقة المنطلقة من المنتمين لها.
السيد Richard Branson، مؤسس ومالك هوية “Virgin”، والذي يدير العشرات من الشركات، فضلاً عن مجموع عدد الموظفين لشركاته والذي يبلغ بمئات الآلاف ، يذكر في قناة big think على اليوتيوب، كيف أنه يُدير كل هذه الشركات وبمستوى عال من الكفاءة والحضور القوي لهويته التجارية من خلال التفويض الذكي، والذي جعل من موظفيه يعملون في تلك الشركات وكأنها لهم، فهم المالكون لها كما هو، وهو ما يضمن عطائهم وإبداعهم والتزامهم.
وهذا آتٍ من فرد واحد فقط، وهو السيد Branson نفسه، وأمكنه نشر ثقافة Virgin في العشرات من شركاته، فضلاً عن توسعه وابتكاره للعديد من المشاريع، حتى وصل به الأمر لتأسيس شركة تقدم خدمة السفر للفضاء، فضلاً عن مؤسساته الأرضية من خطوط طيران وغيرها.
http://www.youtube.com/watch?v=VH35Iz9veM0
كلما توافق شعار الهوية مع واقع ما يتم تقديمه، تعزّزت قيمتها في السوق والجمهور، وارتفع اسم الهوية وكانت حديث الناس، لأنها ببساطة تقدم القيمة والرسالة بشكل عملي ملموس، والناس تتفاعل مع العمل لا الشعارات.
ألا نتذكر ذلك العامل الآسيوي في مجمع City Center والذي ما فارقته الابتسامة يوماً، ورأيتُهُ عدة مرات ورآه غيري، ولا أملك إلا رفع يدي له بالتحية وتصيبني عدوى الابتسامة منه حالما أمر بجنبه.
تحوّل هذا العامل إلى أنموذج جميل، وهو في وضع وظيفي ليس بالممتع أو ذاك الذي يدفع من كان فيه للابتسامة، إذ يقف طوال الدوام حاملاً عصاه للإرشاد لطريق الخروج من المواقف. كان ذلك هو Last Impression يتركه لك المجمع بفضل هذا الشخص.
وهنا قد ينقلب الهرم، إذ يمكن لموظف أو عامل أن يكون هو الأنموذج والملهم لبقية من يعمل في نفس مؤسسته، بل قد يتعدى الأمر ليكون مضرب مثل خارج مكان عمله أيضاً، وهنا تأتي قوة الحضور للشخصية في بناء الهوية.
“شيل صورة كلب، حط صورة خروف”!
ببساطة عندما ترون البون الشاسع بين الشعار المرفوع للجهة أو الشركة وبين سلوك منتميها، هذا الفصام لا يقع إلا بخلل متأصل في بيئة العمل، لغياب توافق أو لترهل في العلاقة أو لأسباب أخرى تمنع الانسجام المُنتج والمبدع للجهة.
عندما تدخل لجهة، سواء حكومية أو غيرها، وترى الألوان والديكور الجميل والتنسيق المادي الظاهري، وما إن تقترب من الموظف أو العامل، حتى تكتشف أنك ثقيل الظل عليه، ويتمنى “التخلص” منك في أسرع وقت، عندها يمكنك رؤية الفرق بين المُعلن البصري والتفاعل الواقعي، وهذا هو شيزوفرينيا الهوية في إحدى صورها وأبرزها وأوضحها.
لا ينفع أن أجدد الديكور أو الهوية البصرية لمشروع أو جهة دون أن أترك مساحة عيش هذا التجديد لدى الموظفين، وهذا يذكرني بكلام حسين بن عاقول للعامل الهندي في مسلسل “درب الزلق” عندما حثه على تزوير بضاعة المعلبات التي يود طرحها للسوق، بالقول “إنت شيل صورة كلب، حط صورة خروف”!
ما بداخل المعلب لن يتغير بتغيير الملصق عليه، وكذا الأمر بالنسبة لأي هوية، لا بد من معايشتها من لدن العاملين فيها ليتوافق ما بالداخل “بيئة العمل” مع بالخارج “الصورة المعلنة للهوية”.
http://www.youtube.com/watch?v=3jMv04vnpGk
لماذا؟ هي بيت القصيد
“هدفنا في هذه الشركة أن نقدم خدماتنا لزبائننا بطريقة لا تغيب عنها الابتسامة، ولا يخرج الزبون إلا وتركنا في ذاكرته أثراً لا يُنسى، هي طيبتنا معه وتعاوننا المرن”..
هذه الرؤية لا تكون مكتوبة فقط بالطريقة التقليدية التي ألفناها وشبعنا منها، لتعلق على جدار المؤسسة وكفى، بل لا بد من نظام تحفيزي داخلي يضمن استمرار محرك الرسالة مستمراً في روح العاملين.
ويكون ذلك من خلال وجود “ثقافة مؤسسية” يعيشها بالفعل العاملون فكراً وسلوكاً، لتنعكس تلك الثقافة على الزبائن، وبالتالي يكون هناك استمرار لترجمة تلك الرسالة عوضاً عن الاستهلاك الإعلامي والإعلاني..
وإذا ما تواجدت تلك الروح التفاعلية مع رسالة المؤسسة، سينتعش الإنتاج والإبداع، وبالتالي تتقدم المؤسسة، وتكبر بفعل تلك الروح.
وكل ذلك أصله “لماذا؟”، أي معرفة سبب وجود الشركة وهدفها وما القيمة التي تود تقديمها لمن حولها. حيث يذكر السيد Simon Sinek في كتابه Start with Why وضمن دوائره الذهبية الثلاث في انطلاق التقدم للهويات أن الدائرة الأولى تنطلق من سؤال السبب والماهية، وهي “لماذا” "www.startwithwhy.com"
دون أن تعرف هدفيتك ضمن جسد المؤسسة بالإضافة إلى هدف مؤسستك ضمن المحيط بها، سيكون العاملون حينها مجرد تروس لضمان سير المحرك بوقود الرواتب المقدم لهم لا غير..
أتذكر أني قرأت خبراً عن موظفي شركة كورية جنوبية قدموا رواتبهم التقاعدية لأجل إنقاذ شركتهم من الإفلاس ونجحوا في ذلك..
أتذكّر إني وزملاء العمل عملنا بجد لأشهر عديدة دون رواتب، لإيماننا بهدف شركتنا، ولاندماجنا الجميل فيها، حتى بات صبرنا على غياب الراتب عنّا، ونأتي للعمل وملؤنا الشغف له والابتسامة على مُحيّانا. وهذا أمر قلّما يكون.
ولا أنسى ذلك الموقف الذي نادى فيه مديرنا صديقه، وأخبره بضرورة الذهاب في تلك اللحظة لبيع دراجته النارية الجديدة، وعندما استلم المبلغ نادانا فرداً فرداً وقسّم مبلغ بيع دراجته علينا، لكي نسيّر أمورنا المتعطلة نتيجة غياب الرواتب، لأسباب ليس له يد فيها.
كان ذلك رالمدير، عفواً ليس مديراً بل قائداً ملهماً، هو موسى العالي “رحمه الله”، المدير الإبداعي لإحدى شركات الإبداع التسويقي في البحرين.
وفي هذا الصدد أذكر قصة وصلتني عن السيد Bob Chapman المدير التنفيذي لشركة Barry Wehmiller الأمريكية، والتي يبلغ تعداد موظفيها قرابة ال 7000موظف. عندما وقعت الأزمة المالية العالمية في 2008، كان من نتاجها إلغاء 30%من صفقات الشركة، وهذا ما سبب لها كارثة تدفعها للاستغناء عن عدد كبير من موظفيها لتوفير 10 ملايين دولار.
هذا الرجل رفض هذا الاقتراح وأصر على بقاء العاملين دون تسريح أحد منهم، وكان على خلاف رأي البقية في مجلس إدارة الشركة.
وخرج ببرنامج ذكي يضمن بقاء العاملين في هذه الأزمة دون إيقاع خلل في ميزانية الشركة أو خسارة له، ، ملخص البرنامج أن يأخذ كل موظف علت رتبته أو قلّت إجازة ٤ أسابيع دون راتب، وليس بالضرورة أخذها دفعة واحدة.
وأعلن هذا الرجل القائد في كلمته للموظفين عند طرح البرنامج بالتالي:
It’s better that we should all suffer a little, than any of us should have to suffer a lot
وهنا وقع القول الحكيم وأثره على الموظفين، فشعروا بالأمان تجاه شركتهم، وبدأوا يتعاونون، فمن كان في جعبته مالاً أخذ أكثر من 4 أسابيع إجازة دون مرتب، ومن لم يستطع اقتصر وأخذ اسبوعان.
ووفرّت الشركة نتيجة لحكمة هذا الرجل وأنسنته للشركة 20 مليون دولاراً، أي ضعف الرقم المستهدف، ومن غير تسريح أي شخص البتّة.
وهنا مربط الفرس، بين مدير ينظر للأرقام، وقائد يعرف قيمة الإنسان.
وتُبنى العلاقة وتتوطّد من هكذا قادة، لتدخل بعمق في مشاعر الموظف أو العامل ويقدم ما بين يديه لعمله، فيقوى بها، وتقوى به، دون تحايل أو سرقة أو فساد أو تنصّل من مسؤولية، وغياب نتاج أو إبداع للتقدّم فيها.
إنّ معظم أفكار التطوير لشركة Toyota تأتي من المقترحات التي يتقدم بها عاملوها..
البيئة المبتكرة لشركة Nike، سبب ملهم لتقديم الأفكار الإبداعية لمنتجاتهم..
ليس هناك شيء يحد تقدم Google في الابتكار وتقديم الجديد، بسبب سياستها المحفزة لموظفيها..
رؤية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تحفز العقول لتقديم المميز في إمارة دبي دوماً، وذلك من خلال مبادرات عدّة أشرف عليها شخصياً، لضمان الظفر بشيء ملموس وعملي..
تلك النماذج وغيرها أتت من فهم “لماذا” قبل كل شيء، لذا قدّمت وأنتجت وابتكرت، وغيّرت..
دع الآخرين يتحدثون والأثاث يتجدد!
من المهم لضمان استمرار أي هوية بقوة، وأقول بقوة، وليس بحد الكفاف فقط، أن يتم تجديد روح الفريق العامل فيها، من المراسل حتى المدير نفسه. فما نفع هوية براقة بصرياً وإعلامياً إن كان هذا البريق خافتاً بين ظهراني الموظفين والمنتمين للمؤسسة؟
ومع وجود المنافسة في السوق، ومع الأزمة النفطية التي ستترك أثرها إن عاجلاً أو آجلاً على قطاعات الأعمال عموماً، فلا بد أن تكون روح الفريق الواحدة متأصلة الآن من أي وقت مضى، فضلاً عن استنفار كل القوى الداخلية في المؤسسة لإبراز وتقديم الأفضل والتعاضد كفريق واحد للتصدي لأي أزمة محتملة.
ومن ضمن وسائل الإنعاش للموظفين وتقديم روح جديدة لهم، هي عملية تجديد الهوية، وليس بالضرورة استبدالها، إلا إذا استدعى الأمر ذلك، خصوصاً إذا ما كانت العلاقة فاترة بين الهوية الحالية وموظفيك، وهذه نقطة مهمة، حيث يجب اعتبار الموظفين زبائن داخليين Internal Customer إلى جانب الزبائن الخارجيين External Customer.
والهوية Brand، يجب أن يكون حضورها قوياً ومتفاعلاً لكليهما إذا ما أردنا التوازن، وإلا سيكون المصير “شيزوفرينيا” لا غير..
دع الآخرين يتحدثون بكل حرية عن ما يجول بخاطرهم أثناء تغيير الهوية من أثاث أو ديكور أو مطبوعات للشركة، ليعبروا عن آرائهم تزامناً مع تغيير مادي يجري بين أيديهم، وبالتالي تكون هناك عملية نقل متوازية بين الأفكار وبيئتهم، وهذا يؤثر بطريقة فعالة حتماً سيكلوجياً وفكرياً للعاملين، ويبث فيهم روحاً جديدة وتحديات جديدة، يمكنهم موازاتها وتخطيها.
وهذا أمر مطلوب مع العام الجديد ومع منافسة لا تتوقف ووضع مالي غير مستقر، ولا تنس أن لديك هوية ورسالة “لماذا” عليك العمل عليها بذكاء وقوة، وبين يديك عاملون يستحقون أكثر من مجرد راتب نهاية الشهر، يستحقون أن يرفعوا هوية شركتك بقوة معك، لأنهم ببساطة مؤمنون بما تؤمن به.
عندها فقط، تكون لدينا هوية سليمة دون “شيزوفرينيا”..
...
شيزوفرينيا: مرض الفصام في الشخصية.
...
جعفر حمزة
المدير الإبداعي لشركة BOXOBIA
0 التعليقات:
إرسال تعليق