غابات حول بيت الله الحرام


غابات حول بيت الله الحرام
جعفر حمزة
لم أكن سوى نقطة تسبح في مشهد مهيب يضم مئات الآلاف من البشر، يجذبها إلى مكان واحد عشق سماوي لا يمكن وصفه إلا عندما تكون هناك في أجواء بيت الله المعظم بمكة المكرمة. وهي البقعة المباركة التي لا تخلو من العاشقين طوال العام، ويكون موسم الحج الأكبر هو الذروة الزمانية والمكانية لشعيرة من أكبر شعائر المسلمين، وقد شكل العدد المهول من الحجاج والمعتمرين الذين يفدون مكة المكرمة طوال العام تحديّاً متواصلاً وجاداً لحكومة المملكة العربية السعودية في توفير الخدمات المتمثلة بالسكن والتسهيلات الأخرى، وقد نجحت المملكة إلى حد كبير وواضح في تخطي الكثير من المعوقات وتقديم ما يليق بحجاج بيت الله الحرام، وذلك عبر مشاريع عديدة ومتنوعة إلى درجة أصبحت مسألة توفير السكن ليست هي المسألة، بل البحث عن مستويات أرقى وأرفع في نوعية خدمة السكن، وهو ما يفرض طرح تصورات جديدة من الخدمات والحلول السكنية لزوار بيت الله الحرام. والحركة العمرانية في السنوات الأخيرة في مكة المكرمة تمثل ترجمة لرؤية متسارعة في تقديم تلك الحلول، ليدخل على خط تلك المشاريع عناصر جذب أخرى يمكن الرهان عليها في ظل منافسة محمومة، ومن تلكم العناصر التي تمثلت في "ثيمة" كانت وما زالت هي العنوان السكني المتميز لزوار الحرم المقدس، وتلك الثيمة هي "الجوار المقدس والإطلالة المباركة" على البيت الحرام، لتصبح المنافسة على أوجها ويبدأ "سباق الجوار المقدس" بصور متعددة. ومما يعزز أوج تلك المنافسة هو سعر الأرض الضخم في مكة المكرمة، حيث يبلغ قيمة المتر المربع في حوالي 50 ألف باوند مما يجعله أغلى متر مربع في العالم.(1) وعوداً إلى الجو الروحاني الذي لمسته عندما كنت في بيت الله الحرام، فلقد لفت إنتباهي "تطاول" أكثر من بناية أو شبه ناطحة سحاب وكأنها تمد رقبتها، ليظفر ساكنوها بإطلالة مباشرة على الحرم المكي، وهم في شققهم أو غرفهم ذات الخمسة نجوم! وتشكل تلك الإطلالة تأسيس لمبدأ المشاريع العمودية التي تستند على الارتفاع للحظوة بتلك الإطلالة المقدسة، ولئن كان هذا المبدأ العمراني الجديد من ضمن الحركة المتوقعة –وربما المطلوبة- للتطور السكني حول الحرم المكي، إلا أن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه في تلك المنافسة العمرانية العمودية، والتي ستتسبب بخفوت الصورة المركزية البصرية لبيت الله الحرام، فقد كان في السنوات القليلة الماضية مركزاً بصرياً وحيداً، أما الآن فالصورة مشتتة مع وجود تلك المشاريع المزاحمة بصرياً، ونخشى أن تتم "محاصرة" البيت الحرام بغابات من العمارات والفنادق والتي "تضيّق" فسحة الفضاء حول البيت، لنصل إلى الوقت الذي "نألف" فيه صورة البيت الحرام وهو "غارق" في غابة المشاريع العمودية المحيطة به. ويمثل مشروع "الشامية" أنموذجاً تمت مراعاة تلك الملاحظة، فضلاً عن بقية الإعتبارات الخاصة بالتكوين الطوبغرافي وتضاريس المنطقة، حيث اعتمد المشروع على التضاريس الطبيعية المحيطة بالبيت الحرام، بدلاً من عمليات القطع والردم التي تستند عليها الكثير من المشاريع المقامة حول البيت الحرام. ويتميز المشروع بـ"إطلالة" على البيت الحرام بطريقة طبيعية دون "مزاحمة" للحرم الشريف ، وقد كانت تلك النقطة من أهداف مشروع الشامية وهو "التخفيف من ضغط التطوير العمراني في المنطقة الواقعة على حدود الحرم الشريف مباشرة" (2) ومن الجدير بالذكر أن الساحات الداخلية في المشروع قد تم تصميمها بطريقة تتكامل مع ساحات الحرم الشريف لجهة مراعاة اتجاه القبلة وتأمين الاتصال البصري بالحرم لتأمين إمكانية إقامة الصلاة فيها. ويحتسب كميزة أساسية لمشروع الشامية -الذي يقع شمال الحرم المكي الشريف- دون غيره من المشاريع توسعة ساحات الحرم الشريف من جهة الشمال وشمال غرب بمعدل عمق 120 متراً.هذا فضلاً عن الكثير من المزايا التي تمت فيها مراعاة الطبيعة السكانية والمعمارية والتضاريس للمشروع الذي يقع ضمن مساحة إجمالية تبلغ 125.97 هكتاراً وطاقته الاستيعابية 151164 نسمة(3). مما يشكل أنموذجاً حياً وملموساً للمشاريع المتقدمة والتي تحفظ المكانة البصرية للحرم الشريف. وتمثل مجمل المشاريع المقامة في المدينيتن المقدسيتن مكة المكرمة والمدينة المنورة تحدياً ثقافياً أكثر من كونها تقديم لحلول إسكانية لزوار تلك المدينتين. وسيكون المطلوب التخفيف من حدة سرعة انتشار الغابات العمرانية حول الحرمين الشريفين وترك مساحات أرحب للمد البصري لهما وتفردهما روحانياً ومكانياً، ليكون النظر إلى بيت الله تعالى وحده دون "إطلالات" تشوه تلك السكينة البصرية بحجة "الجوار المقدس"!
(1)تبلغ قيمة المتر المربع في المدينة المنورة حوالي 28.500 باوند، مما يجعل سعر المتر المربع في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة الأغلى في العالم مقارنة بسعر المتر المربع في مدينتي "مايفرد" بلندن و"مانهاتن" بنيويرك، حيث يبلغان سعرهما 20.452 باوند و 10.700 باوند على التوالي.
(2)http://www.makkah-development.gov.sa/
(3)www.mpd.gov.sa

0 التعليقات: