ربما يتذكر معظمنا الحملة التي أطلقتها كوكا كولا مؤخراً، والتي جعلت عُلُبها المعدنية ساحة للأسماء عوضاً عن اسمها الذي ظل متربعاً لعقود، ضمن استراتيجية التقرب أكثر للجمهور، وليست هي بحركة مبتكرة. كون العديد من الماركات العالمية الأخرى قد حذت هذا المنحى وبأساليب مقاربة نوعاً ما.
لكننا نتحدث عن “أيقونة” Icon وهي أعلى بكثير من تناول “هوية تجارية Brand، فما عاد وجود الاسم كاملاً ضرورياً لهذه الماركة، إذ أصلّت “كوكا كولا” بذكاء واستراتيجية تسويق قوية جداً خلال ما يربو عن المائة سنة صورتها الذهنية عند الجمهور، وبأكثر من صيغة وقصة وأسلوب وحملة، حتى تحولت لأيقونة بامتياز.
بل قد بات نوع الخط المستخدم Font وتصميم الشريط في العلبة يكفيان للدلالة على هذه الهوية التجارية.
ولم تكتفِ كوكا كولا بكتابة الأسماء على علبها، وخصوصاً مع وجود نفس الفكرة لمنتجات أخرى مثل Nuttllla على سبيل المثال لا الحصر. بل قد ذهبت لأبعد من ذلك بكثير، إذ أطلقت حملة خاصة لشهر رمضان من خلال وكالة الإعلانات FP7/DXB في دبي، وهي جزء من مجموعة McCann العالمية، وتدور فكرة الحملة حول تصميم علب الكوكا كولا بدون اسم الهوية عليها، والإكتفاء بالشريط على العلبة، ومن الجهة المقابلة كُتبت هذه العبارة
“ "Labels are for cans, not for people."
وهي حملة تهدف إلى إيصال رسائل ضد التمييز العرقي أو تكوين الصور النمطية على العموم.
ويضيفون “ أن هناك ما يزيد عن ٢٠٠ جنسية في الشرق الأوسط، وبها الكثير من الصور النمطية المسبقة للناس فيها، وتحاول كوكا كولا إيصال رسالتها القوية من خلال علبها، بأن عالم بدون صور نمطية سلبية، هو عالم بلا فوارق”.
ولم تكتف الحملة بنزع الاسم من العلب، بل دعمت ذلك من خلال تجارب مصورة، عبرإحضار عدد من الأشخاص في غرفة مظلمة، دون أن يروا بعضهم لبعض، ويتناقشون في مواضيع مختلفة، ويبدأ كل شخص بتكوين تصور حول من يتحدث معه.
وبعدها تُضاء الأنوار، ليرى كل شخص الصورة الذهنية الموجودة عنده حول الآخر ويقارنها بصورته الحقيقية، وطبعاً الإنطباعات متباينة في مثل هذه التجربة، ويتم اختتام التجربة بإن يتلقى كل شخص صندوقاً به علبة لا يوجد عليها اسم هوية، فقط شريط الكوكا كولا، مع العبارة التي ذكرناها من قبل.
ويمكن مشاهدة الفيديو المتعلق بهذه الحملة في اليوتيوب تحت عنوان “شوف الناس بقلبك
وبرغم جمال الرسالة ونبلها، إلا أن هناك ملاحظات احترافية قد يسردها البعض، وقد نتفق أو نختلف معها، وهي أن حتى لو أُزيل اسم كوكا كولا من العلبة فإن علامتها بارزة وتدل عليها، وهي الشريط، يعني في الواقع، لم يتم إخفاء اسم المنتج، ما دام اللون والشكل والشريط وحتى استخدام نوع الخط لكتابة العبارة، كلها تدل على هوية كوكا كولا بلا شك، وهذا لا يتماشى مع عنوان الحملة أو طريقتها. ففي الأصل هناك توصيف مسبق للعلبة من خلال الشكل العام واللون، وهي بلا شك علبة كوكا كولا لا غير!
وبرغم وجود هذه الملاحظات ومحدودية الحملة التي لم تتعد حدود إمارة دبي، تبقى الرسالة جميلة وذات هدف نبيل وذكي أيضاً من وكالة الإعلان في تقديم الحملة، في ظل الصور النمطية السلبية المنتشرة التي باتت متربعة في كثير من المجتمعات في هذا الوقت.
أما نقطة أن عناصر العلبة كلها تدل على كوكا كولا حتى وإن غاب الاسم، فهذا أكبر دليل على قوة الهوية التجارية وحضورها البصري، والذي يكفي أن ترى شريطة أو شكل العلبة لتعلم أنها لكوكا كولا.
ما يُثير الإعجاب في مبادرات والأفكار التسويقية لكوكا كولا هي ملامستها للجانب الإنساني باستخدام منتجها أو جزء منه، بحيث تربط بين الهوية والرسالة بطريقة مبتكرة وجذابة.
مع أني لست من هواة أو معجبي شرب المياه الغازية، إلا أن هذه الماركة تفرض حضورها الإبداعي والفكري بطريقة ملفتة تدعو للتأمل والتحليل.
ومن مبادراتها السابقة وأيضاً كانت في دبي، hello happiness
والتي تستهدف الجاليات الآسيوية العاملة، بحيث وفرت لهم اتصال مجاني لأهاليهم مقابل كل غطاء لكوكا كولا.
وكذلك Friendly Twist
بحيث تم تصميم علب الكوكا كولا بحيث لا يتم فتحها إلا من خلال استخدام غطاء علبة أخرى، والهدف هو تأصيل التواصل بين الناس ليفتح كل شخص علبة الآخر.
وأيضاً Happiness Truck
وهي عبارة عن شاحنة كوكا كولا، وبها زر وتخرج هدايا متنوعة بما فيها قناني الكوكا كولا للجمهور.
ويتعدى الأمر ليصل إلى قضايا دولية وبين الشعوب، كمثل مبادرتها في تواصل الشعبين الهندي والباكستاني، والذي كان شعباً واحداً من قبل، وذلك عبر نصب جهاز بث مباشر لكوكا كولا في العاصمتين الهندية والباكستانية.
Coca-Cola Small World Machines - Bringing India & Pakistan Together
وهناك الكثير أيضاً من المبادرات والأفكار الإبداعية التي تتسيدها هذه الماركة.
الفكرة من كل هذا الاستعراض هو في معرفة تحويل المنتج إلى جزء من رسالة إيجابية تكون بين الناس، بدل أن يكون مُنتجاً مُستهلكاً لا سواه.
وإذا كانت لكوكا كولا القدرة على تحويل منتجها “الغازي” إلى أكثر من مجرد علبة معدنية أو بلاستيكية، لتُحدث أثراً جميلاً في تفاعل الناس بينهم وبين الهوية مباشرة أو بينهم وبين بعضهم البعض.
فإننا نؤمن بأن الكثير من الهويات العربية، سواء في مجال الأغذية أو البنوك أو غيرها من القطاعات لها القابلية في الإمتداد التفاعلي مع الجمهور، أكثر من المساحة الكلاسيكية الرتيبة الموجودة الآن في أغلب الهويات بين يدينا.
والأمثلة العديدة التي تضربها كوكا كولا في مبادراتها وأفكارها جديرة بالتأمل، والاستفادة منها. ونحن نتحدث عن منتج استهلاكي منتشر Mass product، للعامة من الناس، صغير وكبير رجل وامرأة، وبرغم هذا الشريحة الكبيرة جداً من الفئة المستهدفة للمنتج، فقد استفادت كوكا كولا من هذه النقطة في نشر قيم إيجابية من خلال منتجها وبطرق ذكية متنوعة.
ويمكن تلخيص النقاط المهمة من تجارب كوكا كولا المتنوعة في التالي:
- ليس بالضرورة أن تكون هويتك تمتلك منتجاً أو خدمة ذو مردود مرتفع لتبدأ بالتفكير الجاد في خلق رسائل إبداعية لتعزيز حضور هويتك في السوق وبين الناس. إذ يمكن صنع الرسالة من خلال ما لديك وضبطها بما يتناسب المحيط والفئة المستهدفة عندك، ويمكن عمل ذلك بما يتناسب مع إمكانياتك، وإن كانت بسيطة ومتواضعة، فالأمر بحاجة للنظر بتأمل لهويتك وما يمكن أن تقدمه من رسائل إيجابية، تكون بمثابة “فسحة أمل” للناس، ومساحة جميلة يمكنهم النظر لها من خلال منتجك أو خدمتك. لتتحوّل هويتك إلى جزء من شيء جميل لهم.
2. إن التفكير الاستراتيجي المدروس للهوية، يحوّل حضورها إلى أيقونة Icon، وطبعاً الأمر ليس باليسير، لكنه يستحق الإقدام عليه والتخطيط له، فمن يفكر في تحويل هويته لأيقونة، فهو يتعدى بمراحل تفكير منافسيه مهما كبروا، إذ أن نمط التفكير لديه سيكون استراتيجياً بعيد المدى، وستكون له قدرة تفكير أكبر من الأسلوب التقليدي في السوق، وبالتالي تكون زواية النظر للأمور عند من يفكر استراتيجياً متقدمة وعميقة مقارنة بمنافسيه.
3. فهم الناس عن قرب لمعرفة احتياجاتهم، مشاكلهم، أحلامهم، تطلعاتهم، ما يناسبهم وما يضايقهم، إذ أن وجود حل إبداعي وإن كان بسيطاً يمكن أن يرسم ابتسامة أو يقلل من أعباء أمور تثقل كاهلهم، أو حتى تخفف من تعبهم أو تقدم لهم طريقاً مختصراً لقضاء أمر ما، كل ذلك له أثره ويولّد حالة “إمتنان” من قبلهم تجاه هذا المنتج أو الخدمة، فتتولّد عندها العلاقة بين الهوية وبين الحل الإبداعي الذي تم تقديمه لهم من خلال الهوية التجارية الفلانية.
4. أهمية نشر هذه المبادرات عبر وسائل التواصل المنتشرة، والتي لا تكلف شيئاً. فبالتالي تكون مساحة نشر المبادرة أو الفكرة متاحاً والأبواب مفتوحة على مصراعيها لأجل ذلك. فالخيارات لا تنتهي في هذا المجال.
إن المنتجات يمكن أن تتحول إلى وسائط مبتكرة لإيصال رسائل إيجابية بين الناس، ويمكنها أن تُحدث أثراً، ولا تقتصر في دائرة “الاستهلاك”فقط، بل تتعداها إلى دائرة أكبر، يمكنها أن تنشر الرسائل الإيجابية والقيم أيضاً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق