صندوق وبالونين




جعفر حمزة*

التجارية ٥ نوفمبر ٢٠٠٨م



بعد تناولنا لأطراف حديث شائك عن مدى ثقة الناس بما يسمعون أو يقرؤون على أرض هذه الجزيرة-ولم تعد كذلك-، خصوصاً فيما يتعلق بالمشاريع "المستقبلية" والرؤى "الطموحة"، بل والصورة المقدمة عن وطني البحرين في الخارج. بعد أن أوشكنا على رسم "خارطة الطريق" التي نحلم بها، بعد كل ذلك انقدح في ذهني سؤال لم أشأ أن أخفيه عن صاحبي الآتي من بريطانيا "العظمى"، فبادرته بالسؤال: مستر (إكس)(1)، ما هي مشكلتنا هنا؟

سؤال أردت الإجابة عليه ببساطة السؤال نفسه –لغوياً طبعاً-، فقالها "ببساطة" لم أتوقعها منه: لديكم مشكلة غياب ثقة.

وقد شكلت إجابته "مفاجئة" لي، لا لأني لا أعرف الإجابة بقدر أنها تأتي من شخص مثقف ومحترف يعرف "دهاليز" السياسة كما يعرف كل شبر من لعبة الاقتصاد في المنطقة.

ولم أكتفِ بهذه الإجابة، وكيف يكون ذلك، وقد سنحت لي الفرصة بالحديث مع شخص قد وضع يده على الجرح مباشرة ودون خوف أو وجل -ولا مجال لمساءلته بالمرة-، فقلت له وما الذي يجعل الثقة غائبة؟

فأكمل إجابته بصراحته الأولى قائلاً: عندما توعد ابنك بشيء وتكرر إخلافك بوعدك، فلا تتوقع أن يصدقك ابنك مرة أخرى.

واعتقد أن المشكلة الخاصة بالثقة تتفاقم إذا دارت حول أساسيات معيشية لا غنى لأحد عنها، بل حتى الحيوان لا يمكنه الاستغناء عنه، وهو السكن.

وليس بهرم "ماسلو" ببعيد عن ذاكرتي عندما يخطرني هذا الحديث، ففي هرم "ماسلو" يمثل الأمان والسكن قاعدته الأساسية، والتي تمثل احتياجات الإنسان الفسيولوجية. في حين يتم الحديث هنا عن قمة الهرم من "تحقيق للذات " على مستوى الدولة.

ويقع في الصميم المثل الشعبي القائل "ما عنده ياكل، عنده يغرم". حيث يتم الحديث عن العتبة العاشرة من سلم الدول التي تريد أن تترك بصمتها في العالم، في حين أن العتبات الأولى لم يتم وضع القدم عليها بثبات بعد.

لقد أصبح الحديث عن السكن، وهو أمر معيشي إنساني دستوري أساسي، أصبح الحديث عنه "هماً" في حين يجب أن يتحول إلى مرحلة "نحصيل حاصل"، ليتم الحديث بعدها عن بقية العتبات القادمة ضمن سياق التطورات والتحديات التي تواجه العالم يوماً بعد يوم في العديد من المجالات.

ولم تكن "مطالبات القرى الأربع" بالمشروع السكني "لها"، ولم يكن المدينة الشمالية والمطالبات بتحقيق حلم قد "تلاشى"، ولا العديد من الطلبات ورفع الأصوات هنا وهناك للحصول على "قُطيعة" أرض للسكن فيها، لم يكن كل ذلك "مُسيساً" أو "موجهاً من الخارج" أو تم تحريض أولئك المواطنين من قبل جهات تريد سوءً للبلد.

بل هي مطالبات أساسية أصبحت تستنزف من وقت الناس وتفكيرهم وجهدهم ما لا يوازيه "صرف" ميزانية يستحق المواطن أن يوجه اهتمامه للتطوير والإبداع والإنتاج، بدلاً من البحث عن مصادر دخل إضافية لعل وعسى أن يسدد دينه، ليدخل في حلقة جديدة من الديون دون اقترابه من احتمالات الحصول على أرض أو منزل، واللذين باتا كسراب يحسبه المواطن ماء.

فهل تستطيع نفخ بالونين معاً وهما في صندوق صغير؟ مع ضمان أن لا ينفجر أحدهما أو كليهما؟

ليست هذه بأحجية أو تجربة علمية، بل هي واقع نشهد "انتفاخ" بالونيه معاً، فمع تصاعد موجة الغلاء وبطأ –إن لم يكن توقف- في حل مشكلة الإسكان، ستتهاوى الطبقة المتوسطة لتنضم إلى الطبقة الفقيرة لتتوسع تلك الطبقة "أفقياً"، في قبال "انتفاخ" الطبقة الغنية وتوسعها "عمودياً"، ومع ذينك "الانتفاخين" في "صندوق" السكن، ستكون الاحتمالات التالية:

أولاً: إما أن "تنفجر" إحدى الطبقتين وتتناثر.

ثانياً: أو "تنفجر" الطبقتين معاً، نتيجة الاحتكاك الشديد.

وللحد من أي "انفجار" قد يحصل، لا بد من تحقيق أحد أمرين:

أولاً: وقف "النفخ" في البالونين.

ثانياً: وضع صندوق أكبر، ليأخذ كل بالون مكانه و"راحته".

لقد وقعت الدولة في أخطاء جمّة لن تكون نتائجها "صورية" متمثلة في اعتصام هنا أو ندوة هناك، بل ستساهم تلك الأخطاء في تكوين سلوكيات اجتماعية جديدة "ستنفجر" نتيجة "الصندوق الضيق".

فما تلك الأخطاء التي ندعي وقوع الدولة فيها، وهل يمكنها وضع حل لها:

أولاً: استملاك غير قانوني للكثير من المتنفذين لمساحات شاسعة، وغياب الآلية القانونية للحد من "انتفاخهم".

ثانياً: الاستملاك الحر للأجانب، دون تحديد المناطق التي يمكنهم استملاكها، مما سمح لهم بالانتفاخ في كل اتجاه، ومضايقة المواطنين في "بالوناتهم" الصغيرة.

ثالثاً: غياب "الهواء" لبالونات المواطنين، عبر "فتات" الموازنة المرصودة للإسكان، بالرغم من فائض الميزانية نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الآونة الأخيرة.

رابعاً: التجنيس خارج إطار القانون والدستور، وغياب الأرقام الحقيقية لذلك، وتبعات ذلك بالاستمرار في "نفخ" أزمة الإسكان بالبحرين.

خامساً: غياب التطبيق العملي لأي خطة "طموحة" قد يتم طرحها للحل من مشكلة الإسكان أو على الأقل التخفيف منها عبر مراحل معلنة بشفافية.

وما يتبع كل ذلك من آثار لا تخفي على مواطن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أ‌- تكدس سكاني كثيف، وتبعات ذلك في تشكيل الهوية البحرينية وتغيرها مع نمط المعيشة السكني، فضلاً عن السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، والتي لا تعبر بالضرورة عن هوية "الإنسان البحريني"، فضلاً عن دخول الكثير من "المعاملات" غير القانونية في تلك السلوكيات لتأمين مستوى دخل "محترم" لدى الأفراد.

ب‌- ترهّل في الطبقة الوسطى، مما يعني وضع ميزان استقرار المجتمع في ظرف حرج.

ت‌- حركة البنوك "الشرهة"، والتي تستغل "الحاجة إلى السكن" في عروضها وسياستها وإعلانها. حتى باتت تلك البنوك تتجه للنفخ في إحدى البالونين، فبنوك "تنفخ" في بالون الطبقة المتوسط عبر عروضها "الوردية". وبنوك تنفخ في بالون الطبقة الغنية عبر مشاريع وتجمعات سكنية للصفوة الذين لا يُساوون مع أحد أبداً. وبين ذلك النفخين تتفاقم مشكلة الأرض والقرض.

وعوداً إلى أحجية الصندوق والبالونين، فالحل ذكرناه، وتطبيقه يتمثل إما في دعم "واقعي" لحل مشكلة الإسكان عبر خطة عملية يلمسها المواطن. أو من خلال الحفاظ على الطبقة الوسطى في البقاء في "وسطيتهم" المادية.

وهناك حل آخر، وهو "توسيع" الرقعة السكنية، وفتح "الأسوار العالية المغلقة" للناس، وما أكثرها، لا ليعيش الناس في "بلاد العجائب" كما كانت "أليس"، وإنما ليعيشوا في بلد يمكنهم أن يناموا ويفكروا كيف نبني بلداً قوياً ومميزاً، بدل التفكير، هل سآخذ القرض أو اعتصم للحصول على "منزل" أو قطعة أرض؟

ففي حين يتم السباق على الأدمغة والتطوير، يكون السباق والهم هنا هو القروض والحصول على أرض، وهي في الحقيقة حق كفله الدستور والعقل والمنطق والواقع.

فهل يستمر النفخ أو يتم تكبير الصندوق لتتم "الثقة" الغائبة التي حدثني عنها صاحبي البريطاني؟


مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

(1) لا أتذكر اسمه، فضلاً عن الاحتفاظ بخصوصيته.

0 التعليقات: