الحمار والكرات والزهايمر



جعفر حمزة*

التجارية ١٩ نوفمبر ٢٠٠٨م

أراد تيمور لنك أن يعلم حماره القراءة والكتابة، فأمر العلماء بذلك وهددهم بقطع رؤوسهم إن لم ينجحوا في ذلك। وتصاعدت الشكاوى إلى جحا والذي وعدهم بحل الأمر। فأخبر تيمور لنك أن باستطاعته أن يجعل الحمار يقرأ ويكتب جيداً، ولكن بشرط وهو أن الأمر يتطلب وقتاً يصل إلى خمس سنوات، فوافق تيمور لنك على الشرط। وعند خروج جحا من القصر لامه العلماء على ذلك وأخبروه باستحالة الأمر ولو بعد مئة سنة، فرد عليهم جحا بالقول: للخروج من تحقيق مطلب تيمور لنك، كان لا بد من اللعب على عامل الوقت، وخلال خمس سنوات، لا ندري ما سيكون، قد أموت أنا، أو الحمار أو تيمور لنك، وفي كل الاحتمالات لن يكون هناك مجال لمزيد من القتل।

لقد استند جحا للخروج من المحنة على عامل "تقادم الزمن"، والكفيل بتغيير الأمور والتوجهات، وترجع الكثير من السياسات القائمة في المجتمع البشري، سواء منها ما هو مرتبط بسياسة الدولة أو المجتمع في قوته الاجتماعية أو الدينية أو الثقافية، ترجع إلى عامل الزمن والرهان على نسيان ما رفعت الراية من أجله، أو على الأقل إضعاف "التمسك" بما يطلبه المجتمع والناس.
ويبدو أن خطة جحا قائمة على قدم وساق في مجتمعتنا وبصور عديدة، تتخذ من أسلوب "الكرات الكثيرة" عاملاً مساعداً لإشغال الناس عن الكثير من الملفات التي تمثل حقاً أصيلاً لهم في المعرفة والتغيير والتفاعل। ويقوم ذلك الأسلوب على "إشغال" اللاعب بالكرات والذي يحمل عدداً معيناً منها في يديه، بقذف كرات جديدة إليه، ليضطرب ويفقد السيطرة على التحكم بالكرات، ويصل إلى مرحلة "الفوضى الواقعية"، حيث لا سبيل له سوى التسليم بالأمر الواقع وكفى। لتسقط الكرات من بين يديه. والمواطن كحامل الكرات، لا يستطيع التعامل مع الكرات السابقة، ولا الكرات اللاحقة। ومع الوقت تكثر الكرات ويفقد مهارته في التقاطها، لينشغل في كل مرة بكرات جديدة، وهكذا।
وتمثل تلك السياسة استنزافاً للجهود والقدرات، فضلاً عن توهين للقوى والعقول، لنصل إلى مرحلة التشبع بالقضايا دون الوصول إلى حلول ناجعة مستندة إلى خطة قابلة للتطبيق وبالإمكان رؤية نتائجها، ولو على مدى متوسط. ويمكن سرد بعض الكرات "الملفات" التي توالت على الساحة المحلية دون وجود حلول جذرية لها، وتم اعتماد "تقادم الزمن" كما فعل جحا مع تيمور لنك، واتباع أسلوب "الكرات الزائدة" كما يفعلها من يريد أن يفشل ماسك الكرات. ومن تلك الكرات:

الكرة الأولى: إفلاس مغارة علي بابا
فلا جديد تحت الشمس، بالرغم من خطورة الملف التي تعني كل مواطن بحريني بلا استثناء، ويبدو أن الفيروس الذي أصاب الهيئة قد نشط من جديد مع قضية قرض شركة "ممتلكات"। ألم يكن الإفلاس قبل فترة ليس بالطويل؟ صحيح إن النسيان نعمة. مع ذلك أتت الضربة الثانية مع "ممتلكات". يبدو أننا مصابون بمرض "الزهايمر"-الشيخوخة المبكرة-، لننسى ضربتن في نفس المكان!

الكرة الثانية: النفوس الرخيصة
هل تم وضع استراتيجية لمواجهة الكوارث، سواء الطارئة منها والطبيعية؟وهل لدينا في الوزارات والقطاع الخاص، فضلاً عن المنشآت المختلفة من المدارس مروراً بالمستشفيات وانتهاء إلى المصانع والمجمعات وحتى المساجد والحسينيات. هل لدينا في كل ذلك ثقافة مواجهة الأزمات وآلياته، لكي لا تتكرر الحوادث والمآسي؟
قد يكون أسلوب جحا هو الأفضل، سواء لدى المعنيين بالحكومة أو في المجتمع! الكرة الثالثة: الإثنين الأسود يبدو أن أسلوب جحا هو المتبع في هذه الكرة "الملف"، حيث يتكفل "الزمن" بنسيان هذا الملف ليتم تذكره في موسم الصيف فقط، ومع مرور "موسم الأزمة"، كأن شيء لم يكن। ويستمر الزمن في نخر الملف لنصل إلى درجة "الإنهيار"، والذي سيتوقف عندها الزمن، ولكن بعد فوات الأوان।
الكرة الرابعة: الفيروس القاتل بعض صور الفساد في ألبا وطيران الخليج وغيرها من الوزارات والمؤسسات والجهات الحكومية أصبحت تراهن على من "يقذف" كرات أخرى لينشغل الرأي العام بها، ويغفل الكرات السابقة. ويتم هذا الأمر بصورة تدعو للإعجاب لا التقدير، نتيجة الرهان على القدرة المحدودة للذهن البشري في الاستيعاب وتحليل الأمور في وقت واحد. وللعلم فإن حجم الفساد المالي في ألبا كافٍ لبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، كما ذكرها الأمين العام لجمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) إبراهيم شريف في برنامج "في الميزان"। فما بالك بغيرها؟
هذا فضلاً عن "التمييز الوظيفي" الذي ينكره البعض وهو يعيشه، ويخاف الحديث عنه. وبين فساد وتمييز ولد "فيروس" يقطع الأوصال ويخرج الرجال من الساحة.

الكرة الخامسة: الردم والتحويل يمثل الزمن عاملاً مهماً في تثبيت الصور المغلوطة واعتبارها واقعاً، ويساعد ذلك تكرار العمل. وما عمليات ردم البحر غير القانونية، بالإضافة إلى تحويل الأراضي العامة إلى خاصة، بل وتحويل "المقابر" إلى وحدات سكنية للأحياء. وما كل ذلك سوى صور متكررة أثبتت واقعاً وسلوكاً غير "مستهجن".

الكرة السادسة: ملفات "إكس" الطبية لقد ضرب التلوث الصناعي بأطنابه في قرى ومناطق مختلفة من البلاد، وألقى بظلاله السوداء على عوائل عانت الأمرين في أفرادهم، فأصيب بعضهم بالسرطان، وآخرون بتشوهات خلقية. هذا فضلاً عن الملفات الطبية التي تملأ الصحف بين فترة وأخرى، مما يعكس قصوراً في إحدى أهم أسس المجتمع المدني الحديث، وهي "الحرفية الطبية" بعد تحقيق "الرعاية الصحية".

الكرة السابعة: المداس أم المدارس إن تكرار الحوادث التي تصيب الجسم التعليمي سواء في جنبته الإدارية أو المكانية "المدارس"، والتي تعددت أسبابها بين إدارية وسياسية واجتماعية، بعيدة عن الحرفية في بعضها، وقريبة من الارتجالية في بعضها الآخر، وبين هذا وذاك تتجذر الكثير من المشاكل لتصبح جزء من هوية وأساساً من سلوك. ليكون السؤال في أصل تحويل المدارس إلى معترك صراعات قد يستخدم فيها المداس أو أكثر. ولو أردنا تعداد الكرات لملأت ملعب كرة قدم أو أكبر، ولكننا اكتفينا بذكر سبع منها كسبع سماوات। ويبقى السؤال بعد تحليل المشكلة هو عن ماهية العلاج। فهل يمكننا وقف "قذف" الكرات، ليمكن بعدها التعامل معها بحرفية عالية وبواقعية بعيداً عن الإرتباك؟
وكما لا تستطيع العين البشرية إلتقاط الصور المتتابعة التي تزيد عن ٢٥ صورة في الثانية، فكذلك كثرة الملفات وتسارع وتيرتها في الظهور والنسيان يؤدي إلى تأصيل سلوك التراكم المنظم والنسيان السلبي، والمولد للكثير من تلك الملفات المعيقة لتطور المجتمع، فضلآ عن استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي।
وللتعامل بحرفية مع كل تلك الملفات، لا بد من استخدام الآليات التالية، لنصل إلى مرحلة الحل بدل التخدير والنسيان:
أولاً: توزيع الكرات إن لم يكن هناك مجال لإيقاف تقاذفها। وذلك عبر تخصيص لاعبين مختصين لالتقاط الكرات، وعدم إنشغال الناس بتفاصيل مسار الكرات، فما يهم الناس هي النتيجة، وأما التعامل مع الكرات فيجب أن تترك لأهل الاختصاص، ولينشغل الناس بأوليات حقوقهم.
ثانياً: لتعرف هوية الصورة السريعة المقدمة إليك. لا بد من التقاط الصور بصورة أبطأ، لتدرك تفاصيل الصورة وملامحها، والوصول إلى ذلك يتطلب مهارة واحتراف من مختصين، وإعادة عرض "الفيلم" باللقطات البطيئة ليدرك المشاهدين "الناس" خبايا ما يشاهدونه، بعيداً عن "المؤثرات البصرية" التي تأخذ بالألباب وتشتت الناس وتدخلهم من باب إلى باب.
ثالثاً: توثيق دقيق لتوزيع الكرات وإبطاء الحركة، ليتوجه الناس إلى لقمة عيشهم وتطوير ذاتهم، في الوقت الذي يدركون فيه "الأولويات" التي تعيد ترتيبها بالقوة "لعبة الكرات المتعددة"، وبالتالي تكون لهم القدرة على "التحليل" و"الإدراك" و"الفعل"।
ويمكن القول بضرورة تكبير سعة الذاكرة أو على الأقل تنشيطها، لتتسع لهم حجم المشكلات، والسعي لحلها أو الحد من تفاقمها، وتحولها مع الزمن إلى "واقع"। وفي غير ذلك ستكون خطة جحا مع تعليمه للحمار سارية المفعول، وتواصل قذف الكرات موهبة والتقاطها صعوبة، لنكون بين هذا وذاك معرضين للإصابة بفقدان الذاكرة بسبب الشيخوخة المبكرة، بسبب كثرة الملفات وتواليها।

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

1 التعليقات:

  غير معرف

١٨ نوفمبر ٢٠٠٨ في ١١:٥٩ م

أحسنت على هذا المقال الرائع
وأوافقك على التوصيف للحال القائم بنسبة 100%
وعن الحل فلي وجهة نظر مع عدم معارضتي للحلول المطروحة من وجهة نظرك
فأنا أرى تلقي الكرات بخطط هجمية لاتقل عن 5-3-2-1 - كما في كرة القدم " فالهجوم أفضل وسيلة للدفاع " كما أن للدفاع آلية أيى انها الأفضل
وهي كالتالي :
أولاً إستيعاب الكرات من قبل الصف الأول " الـ5 " بدون إبداء أي ردود أفعال قد تحسب ضد التحرك ويتم تسجيل هدف علينا !
ثانياً يقوم الصف الأول بتمرير الكرات إلى جهات وأصحاب الاختصاص ( فلكل اناس مشربهم ) " للـ 3 "
يقوم الإختصاصيين الـ3 باسستلام الكرات ودراسة وفلترة الكرات وتحويلها ويكل ماتعحتويه من إشارات خارجية ومبطنه ودوافع قد تكون خبيثة
يستلم الدفاع الـ 2 الكرات لتمريرها حسب الأهمية والاولوية إلى حارس المرمى كي يقوم بردة الفعل الإعلامية وبالنسبة لردة الفعل الميدانية يكون فيها نظر إما لعب الكرة إلى الخط الأول أو الثاني أو الهجوم أو إلى مرمى السلطة مباشرة
فقد تعلمت من الحياة أن لا أنجر إلى ما يراد لي أن أنجر إليه بل أستدرجهم إلى ما أريد ومن ثم أسجل الهدف

تحياتي

أبو زينب