من يصنع الخبز؟





جعفر حمزة*

التجارية ١٢ نوفمبر


كانوا جياعاً بل أكثر، وقد تركوا وثير ودفء الفراش من الصباح الباكر في يوم إجازة، ليلتحقوا بركب تأملوا فيه خيراً كثيراً، فأتوا زرافات وأفراداً لعل وعسى أن يجدوا "خبزاً" يأكلونه بعد أن يصنعوه. فهل وجدوا ما أملوا؟

"الشباب والإبداع" كان العنوان للمؤتمر الذي عقده مركز شباب الوفاق، وكانت ثيمته المميزة "حتى نُلهم الإبداع". فهل كان العنوان ذو قدرة على توفير "خبز الإبداع" للحضور، أم أن "الشح" في توفير الخبز كان سيد الموقف؟

لسنا بصدد الإجابة والتعليق على المؤتمر بما حواه، بقدر ما كان كمفتاح لأبواب لا يحب البعض الحديث عنها، بل نريد أن نعرف معادلة "مغيبة" في صنع الإبداع الذي يجب أن يكون كالخبز لا غنى عنه. إبداع باتت السياسة تغطيه بظلال كالجبال وأكثر، مما جعل جياع المبدعين يبحثون عن "خبزهم" بدلاً من انتظار "كعكة السياسة" بحلاوتها اللاذعة والتي تسبب ارتفاع "السكر".


فكيف نصنع الخبز؟

أولاً: توافر الأرض الزراعية

ضرورة توافر الأرض الزراعية وآلات الزرع والحصاد، فبوجودهما مع نظام ري جيد يمكن زرع القمح، وتلك الأمور هي بمثابة توفر آليات نمو الإبداع، والتي تتمثل في التقنية والمعلومات. وقد أصبحت كالمشاع في معظم بلدان العالم، وذلك نتيجة "الإنفجار المعلوماتي والتقني" في العالم، حيث لم تصبح التقنية "حكراً" على مجتمع دون غيره أو لدولة دون أخرى.
ومنها على سبيل المثال لا الحصر "مدينة السيليكون" وهي مدينة بانغلور الهندية، والتي تتميز بصناعتها لرقائق السليكون والعديد من مراكز الأبحاث والتطوير والتقنية العالية الدقة. والتي باتت بمنزلة "وادي السليكون" في أمريكا، بل وتنافسها.

وليس ببعيد عنها وعنا، فهناك إيران، والتي تطلع علينا الأخبار باكتشافات واختراعات علمية في السنين العشر الماضية. وذلك بالرغم من وضعها السياسي إزاء ملفات معقدة.

فلم تعد التقنية مرتبطة أو "حصرية" على الرجل الغربي، بل قد أصبحت "مشاعاً" ومتوافرة، وينبغي على الأفراد كما على المجتمعات الاستفادة منها ومعرفة الوصول إليها أولاً والاستفادة منها ثانياً والاحتفاظ بها وتطويرها ثالثاً.



ثانياً: الزرع للخبز لا للسلطة


عندما تتوفر أرضية الإبداع من تقنية ونية مبيتة، لا بد أن يكون ما نزرعه في تلك الأرض هو من أجل الحصول على الخبز فيما بعد. وعندما يتحول الإبداع لدى البعض إلى كونه "سَلَطَة" أي كونه أمراً هامشياً، عندئذ ينتشر "فيروس التحبيط" ليحد الإبداع من النمو، وليُبدله بنظرة تشاؤمية تساهم فيها كل من الدولة والوالدين والأصدقاء ومؤسسات المجتمع وعالم الدين والمثقف-أو مدعيها- كل بنسبة معينة، لتتحول إلى عقلية سلبية لا تنتج وإذا أنتجت تم الحد من إنتاجها، وإذا أنتج غيرها انتقدت وثارت. وهكذا يتحول الإبداع من حل لحاجة إلى همًّ لا حاجة لنا فيه، وبالتالي يتحول المجتمع إلى "مجتر" للأفكار والأشياء دون نتاج ذاتي أو تغيير في عملية الإنتاج الفنية، والتي تمثل إحدى أهم صور التغيير في المجتمع.
لذا، عندما يتحول تعاملنا مع الإبداع إلى كونه "حاجة" ستتغير سلوكياتنا وتعاملنا مع أنفسنا والآخرين، ليكون الإبداع حلاً أساسياً لا هامشياً. هو حلٌ مادي وثقافي وفكري وديني وسياسي.

وعندما يتعامل المجتمع مع الإبداع كحاجة، سيكون الاهتمام أكثر،وذلك عبر تخصيص وقت ومال وجهد له، لأن المنتج الإبداعي في آخر المطاف من فنان أو مخرج، ومن مصور أو مصمم، أو من كاتب أو خبير إضاءة، سيكون له مردودٌ مالاً ووقتاً وجهداً يشكل المجتمع بسلوكيات جديدة وبتعامل جديد مع المتغيرات.

ما نريده كلمة مشجعة من عالم دين تعبر عن التزامه وانفتاحه في نفس الوقت، وما نريده هو تفكير استثماري في الموارد البشرية المبدعة من قبل تاجر أو صاحب عمل أو مستثمر، وما نريده هو دعم عملي من قبل مؤسسات المجتمع المدني، وما نريده قبل كل ذلك هو أن يؤمن المبدع بأن ما لديه أكثر من مجرد موهبة. هي مسؤولية يجب عليه أن يدرك أنها لا يمكن أن تتوقف بمجرد أن يسمع كلمة من يائس هنا أو من محبّط هناك، أو من تجاهل حكومي أو من تهميش مجتمعي. لأنه لا يمكن للإبداع أن ينمو إن لم تكن للنبتة قابلية للنمو أصلاً.


لقد حولت الحاجة العدسة الإيرانية إلى فن إنساني ملتزم وجعلها مدرسة عالمية في السينما، وحولت الحاجة شركات الرسوم الثري دي بماليزيا إلى فن إسلامي وجعلتها منتجة لأفلام الأنيميشن، وباتت تنافس كبرى الشركات العالمية في هذه الصناعة।

فأي حاجة نريد لنكون؟


ثالثاً: من الحقل للمخبز


بعد أن يتحول الإبداع إلى حاجة، لتكون الأخيرة صانعة له، علينا تحويل تلك الحاجة إلى الخطاب الذي يعيشه المجتمع، وذلك عبر التالي:

أ. تشجيع الكوادر الموهوبة بشقيها المُعلن والمخفي لضرورة إخراج نفسها من دائرة "الخوف" أو "العيش في جزيرتهم الخاصة"، وتسخير إبداعهم لأجل رفع العديد من المشاكل والعقبات وإيجاد الحلول عبر تشجيعهم مادياً ومعنوياً، وإفساح المجال لهم لتقديم إبداعهم بما يخدم المجتمع وقبله أنفسهم مادياً ومجتمعياً.

ب. عندما يكون المخبز مغلقاً فلا فائدة في الخبز الموجود بداخله، وكذا الأمر بالنسبة للمبدعين، فإن وُجدوا ينبغي أن يكونوا في مواقع التغيير، وأن لا يتم تحجيم تحركاتهم بـ"تابوات" يصنعها البعض، مرة بغطاء ديني وآخر بغطاء سياسي، وهكذا تتعدد الأغطية ليتم حجب "المخبز" عن الناس. وهنا تحتاج شجاعة دينية من لدن العلماء ونزولهم من "مكانتهم" إلى المبدعين الذين تمثل لهم موقف العالم لهم دعماً وقوة. وتحتاج شجاعة سياسية من لدن السياسيين عندما يتم توجيه الدفة للمبدعين لينتجوا.


ج، اقتناص المواهب الموجودة، والتي لها القابلية للاحتراف، وتطويرها لتكون منتجة مغيرة في المجتمع، ويمكن ذلك عبر ابتعاث موهوبين في مجالات مختلفة، وبالتالي يمكن الحصول على مبدع محترف بعد أن كان مبدعاً هاوياً، فالأول يُنتج على نطاق ضيق وقد يكون على نطاق شخصي وينقصه الاحتراف، في حين ينتج الآخر على نطاق مجتمع وتكون نظرته أوسع. وشتان بين الاثنين.


د. تزويد المجتمع بمعاهد متخصصة في مجالات الإبداع المختلفة، وتغيير أسلوب البذل المجتمعي، والذي بات حكراً على اتجاهات عبادية بحتة، ولم يعِ بعد قيمة الإبداع في التغيير الإيجابي، والذي يمثل الترجمة الحقيقية للعبادة، وهي الخلافة في الأرض لإعمارها.

فالدعم الحقيقي للإبداع لن يأتي من خلال "تعليق" الحجج على الدولة وإن كانت ساحتها ليست ببريئة عن التقصير الكبير في هذا المجال. إلا أننا نؤمن بأن قدرة المجتمع على التغيير ليست بأقل من قدرة الدولة. وما دام المجتمع لا يؤمن بأهمية الإبداع في الفن -على سبيل المثال- من جهة، وتتجاهل الدولة بطريقة أو بأخرى المبدعين من جهة أخرى، فسيكون نمط التصدي للأفكار الجديدة والغريبة عن المجتمع ضعيفاً، وبالتالي وإن كان اللوم جاهزاً والخطب العصماء معدة مسبقاً، عندها لن ينفع البكاء على اللبن المسكوب.

ويمكن أن تكون المعاهد المذكورة متعاونة مع أخرى متخصصة خارج البلاد أو الاستعانة بالمحترفين في البلد، منها على سبيل المثال لا الحصر: في مجال الرسوم ثلاثية الأبعاد، التصميم المحترف، كتابة السيناريو، الإخراج السينمائي، تصميم الملابس، والقائمة تطول.

هـ. تعزيز الاتجاه في الاستثمار البشري للأفراد المبدعين، حيث سيكون ذلك بمثابة التعاون الثنائي بين المستثمر "جهة أو مؤسسة" والكادر المبدع، إذ يدعم المستثمر المبدع مادياً، ويقوم الأخير بتقديم إبداعه من أجل المستثمر ضمن اتفاقية لا يتم احتكار المبدع فيها، ولا يتم صرف مال المستثمر فيها دون عائد.

وإذا ما زالت القدرة المالية والتقنية موجودة الآن ولم تتم الاستفادة منها، فسيكون اللحاق بركب التطورات فضلاً عن التحصين والظهور الإبداعي سواء على مستوى الدولة أو المجتمع أصعب.
وبالتالي لن يكون هناك لا خبز ولا سلطة ولا هم يحزنون..


ملخص ورقة تم تقديمها في مؤتمر الشباب والإبداع الذي نظمه مركز الشباب التابع لجمعية الوفاق البحرينية السياسية بتاريخ ٨ نوفمبر ٢٠٠٨م صمن عنوان "معوقات الإبداع في البحرين".

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

1 التعليقات:

  غير معرف

١١ نوفمبر ٢٠٠٨ في ١٢:٣٤ م

السلام عليكم

مشاركة مميزة بل في اعتقادي الاكثر تميزاً في المؤتمر لما لامست من واقع التحديات التي تعيشها حالة الابداع في البحرين... كما ان المقاربة بين الحاجة الى الابداع والحاجة الى الخبز مقاربة موفقة لكن هل تدرك مجتمعاتنا بكافة قواها السياسية والاقتصادية و الدينية و...ان الحديث عن الابداع لم يعد ترفاًوانما حاجة ملحة بدونها لن نتمكن من ان نخطو نحو الامام.

مصطفى ابراهيم