الدمية بنظر البحراني


أنا أحبّ دُميتي

سيرة عشق الإنسان لصورته "الدّمية"

للكاتب البحريني/ جعفر حمزة




"كتابٌ يؤكّد أنّها هي التي تلعبُ بالعالم، قبل أن يلعب أطفاله بها"

بقلم: زينب.ع.م.البحراني

في الصّباح التّالي مُباشرةً لليلة إتمامي قراءة هذا الكتاب، دخلت أحد المخابز المُتخصّصة بإعداد حلوى الحفلات. وبانتظار وصول فطيرةٍ وكوب شاي على منصّة دفع الحساب؛ وجدتُ صورة الدّمية (براتز) التي طويت عليها صفحات (أنا أحبّ دُميتي) قبل ساعات، تقف مُتحدية بعينيها النّاعستين، وثوبها القصير، وتكوينها الجسديّ المنحوت على مقاييس الأنوثة التّجاريّة، في أربع نُسخٍ تحتلّ شاشة عرضٍ إلكترونيّةٍ مُتحرّكةٍ لم يكُن اختيار مكانها الكافي للفت أنظار عُملاء المخبز اعتباطيّا، لتتوالى بعدها مجموعة صورٍ تمّ انتقاؤها بعناية لأميرات ديزني، ميكي وبطّوط، الدّب ويني، سوبر مان، سبايدر مان، الرّجُل الحديدي، وغيرها من أشهر الأسماء العالميّة في تاريخ الدّمى والرّسوم المُتحرّكة. اكتشفت حينها أنّني أنظر لتلك الصّور نظرةً تختلف عن كلّ نظرةٍ نظرتها إليها طوال ما مضى من حياتي، بعد أن جعلني هذا الكتاب أكثر وعيًا تجاه حقيقة (الدّمية) ودورها الخفيّ في بلورة شخصيّة الإنسان مُنذ الطّفولة، والواقع الذي تُخبّئه تلك الشخصيّات بكلّ ما تحتها من مبادئ وأفكار وقيم ومصالح عولميّة وتجاريّة ترتدي وجه الدّمية وأثوابها الملوّنة، لتتسلل صورها إلى مُختلف تفاصيل حياتنا الصّغيرة من دفاتر وأقلام وملابس وحقائب وحاملات مفاتيح وأطباق طعام...... ثُمّ لا يكفيها مُجرّد التسلل إلى اليد و البصر، وإنّما تُسدد هدفها نحو الغدد اللعابيّة والمعدة، لتتحوّل إلى أغلفة حلوى وتُصنع نماذج كعك المُناسبات المُفرحة على هيئتها، وتُزيّن بصورها!. لتؤكّد لنا أنّ حقيقتها أكبر وأخطر كثيرًا مما يبدو لمحيط مرأى البصر، فلا نجد مفرّا من الاتّفاق مع رأي الكتاب حين يقول: " يبدو أنّك لم تُدرك ماهية الدّمى بعد، فهي صورة مُعاشة واقعًا وحُلمًا من خلال بُعدٍ آخر، بُعد الإمكان والحجم، وبعبارةٍ أخرى، الدّمى هي نحن بني البشر، ولكن بجُرعةٍ مُضاعفةٍ من التخيّل والتمكّن والقًدرة، وبحجمٍ أصغر بكثير... ص57" . ونؤمن بأنّ ذاك الكائن الصّغير يُشكّل قضيّة تستحقّ أن نُرافق المؤلّف في رحلة نزعه أغلفتها واحدًا بعد آخر، لنستكشف ما تخبّئه تحت ردائها الجذّاب من أسرار.. فهيّا بنا نُشاركه تلك الرّحلة، بدءًا من الغلاف الأوّل.

§ الغلاف الأوّل/ وقد همّت بي:

كشف هذا الغلاف عن علاقة الدّمية بالدّين منذ قديم الأزل، بدءًا من حكاية (عجل السّامري)، ومرورًا على ما نالته من اهتمام في التّاريخ الفرعوني المصري. مُركّزًا اهتمامه على الكيفيّة التي بها ولدت، وكبرت، ثمّ بدأت رغبتها في التحرّر تكبر معها يومًا بعد آخر، وتتدرّج في تطوّر مادّة صُنعها مُنذ دُمية الشّمع، ثمّ دُمى البورسلين، تليها الدّمى المحشوّة بنُشارة الخشب، وصولا إلى دُمية القماش والبلاستيك والفينيل. إلى أن صارت تجارة الدّمى رقمًا قادرًا على الجهر بصوته في سوق الأسهم العالميّة.

§ الغلاف الثّاني/ ليلى تبحثُ عن قيس:

نجد تحت هذا الغلاف حقائق تتعلّق باهتمام اليابانيين بالألعاب، الذين لم تكُن بالنّسبة لهُم " مُجرّد "ألعاب" أو "دُمى"، حيث كانت تُمثّل لهم "مؤشّرًا على نمو عقل النّاشئة ومروره بمرحلةٍ تفاعُليّة مُهمّة يجب أن تُستثمر محليّا وبطريقةٍ مُبتكرة، عوضًا عن وضعهم قبال رفوف البيع، التي "قد" تحمل ما لا يرضاه اليابانيّون ثقافيًا وفكريًا، بل حتّى تجاريًّا.... ص 29" ، فضلا عن أثر الرّوح اليابانيّة على الدّمية والرّسوم المُتحرّكة حول العالم، بما فيه الولايات الأمريكيّة المُتّحدة. ليأتي من بعدها دور الصّين لتتحوّل معاملها إلى أكبر مُصدّر لبضائع محلات الألعاب الأمريكيّة الرّئيسيّة، دون أن تخضع تلك البضائع لأيّة تعرفة جُمركيّة، وذلك في إطار اتّفاقيّة "العلاقات التّجاريّة الطّبيعيّة الدّائمة" بين الدّولتين.

§ الغلاف الثّالث/ مُحطّمة القلوب:

حكاية الدّمية الشّهيرة (باربي)، واعتبارها (فراشة بعُمر السّلحفاة) لشبابها الذي دام لأكثر من نصف قرن، ونجاتها بجدارة من مزالق التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة رُغم قصر مُدّة دورة الألعاب الحياتيّة أمام تلك التحدّيات، دون أن يُغفل الإشارة إلى تلك المواجهة التّسويقيّة السّاخنة بين (باربي) المولودة عام 1959م، ومُنافستها (براتز) التي انطلقت إلى الأسواق العالميّة بدءًا من عام 2001م

§ الغلاف الرّابع/ حمامة الحيّ قد تطرب:

تحت هذا الغلاف تواجهنا بداية إطلاق الدّمى المُحتشمة في السّوق الأمريكيّة عام 1996م، لتوسّع تلك الدّمية من نفوذها الفكري حين أطلقت شركتها المُنتجة الكثير من مُتعلّقات المدرسة المُغرية لبصر الأطفال وأذواقهم، وتحظى بإقبالٍ جماهيريّ وشعبيّة تؤهّلها لأن تسوّق في كلّ من أمريكا، كندا، المملكة المتحدة، ألمانيا وسنغافوره. قبل قيام "المركز التربوي الفكري للأطفال والنّاشئة" بإطلاق الدّميتين (دارا) و (سارا) في السّوق الإيرانيّة عام 1996م، في مُحاولة للبحث عن بديلٍ يُزيح صورة الدّمية (باربي) من عقول الأطفال الإيرانيين. لتأتي شركة (New boy FZCO) في دُبي بالدّمية (فُلّه) خلال نوفمبر 2003م، لتغدو – منذ ذاك الوقت- أكثر الدّمى مبيعًا في الشّرق الأوسط.

§ الغلاف الخامس/ مازالت تنتظر:

حكاية الطّفل (بكّار) ونعجته رشيده، الشخصيّة الكارتونيّة القادمة من أقصى صعيد مصر لتبزغ إلى النّور بمجهود صاحبة فكرة ابتكار الشّخصيّة والمخرجة الأولى للمسلسل، الدّكتوره (مُنى أبو النّصر)، قبل أن يتسلّمه المُخرج (شريف جمال) بعد رحيلها. ومن تجربة مصر إلى تجربة دولة الكويت مع قصّة ال99، التي تصوّر سلسلة كرتونيّة لأبطال يحمل كلّ منهم صفة مُستمدّة من أسماء الله الحُسنى ال99 في الإسلام، بادئة في الظّهور على صفحات مجلّة 99 خلال شهر يونيو 2006م على يد الدّكتور (نايف المطوّع) مُدير شركة تشكيل للإعلام، مما عبّد طريق خروج تلك الشخصيّات من الصّفحات الملوّنة إلى رفوف المتاجر، عبر صناعة المنتجات الخاصّة بالشّخصيّات الكرتونيّة. وأخيرًا.. يسلّط الضّوء على التّجربة الإماراتيّة النّاجحة في إطلاق المسلسل الكرتوني (فريج) الذي يحكي قصّة أربع مواطنات عجائز، هنّ: (أم سعيد) عاشقة الشعر الشّعبي، و (أم علاوي) المُثقّفة ورفيقة التّكنولوجيا الحديثة، ثمّ (أم سلّوم) التّائهة في عالم النّسيان، و البطلة الرّئيسيّة ذات الشخصيّة الفريدة (أم خمّاس)، يعشن في حيّ شعبي مُنعزل من أحياء مدينة دُبي العصريّة، ويخضن تجارب ومُغامرات غير مألوفة. فيعشق الجمهور إطلالتهنّ بما يكفي لظهور صور العجائز الأربع على الأدوات المدرسيّة وملابس الأطفال والألعاب.... إلخ.

§ الغلاف السّادس/ أنا أحبّ دُميتي:

" " ما لم تملك القًدرة على ملء الفراغ الموجود في مساحة تفكيرك فسيملؤه الآخرون عنك"، تلك فلسفةٌ كونيّة ومُعادلةٌ رياضيّة بحتة لا دخل فيها للمشاعر والأحاسيس المرهفة والتمنّيات... ص110 ". هذا ما يقوله الكتاب مؤكّدًا أنّ شراسة المُنافسة في أسواق عالم اليوم تتطلّب تخطيطًا استراتيجيّا مًنظّمًا وجُهدًا ضخمًا وعينًا دائمة التيقّظ لتثبيت كيان ما في السّوق، أو مُحاولة إزاحة كيانٍ آخر. مبيّنًا أنّ إزاحة الطّرف المُنافس لا يستقرّ لها النّجاح إلا بوجودٍ "خُماسيّ القوّة"، يبني أسس معركته التّنافسيّة على: الفكرة والهويّة، الكوادر المُحترفة، التقنية الحديثة، التّرويج المخطط، والسّيولة الماليّة.

§ أخيرًا..

من وجهة نظري الخاصّة كقارئة، أرى أنّ هذا الكتاب يتجاوز مضمونه حجم عنوانه وعدد صفحاته. فعلى صعيد اختيار الفكرة الرّئيسيّة التي ناقش الكتاب محاورها، لا يسعنا إلا أن نعترف بأنّ المؤلّف قد وفّق في طرق موضوعٍ تفتقر المكتبة العربيّة إلى الكتب والمصادر التي تُعالجه بمنهجيّة مُشابهة. ولا يخفى على القارئ مدى الجهد الكبير والجاد الذي بُذل بحثًا وتنقيبًا واستقصاءًا في بطون المصادر الأجنبيّة، ومُحاولة لملمة شتات ما جاءت به المطبوعات العربيّة من معلومات شحيحة، فضلا عن التّواصل المُباشر مع أصحاب الشّأن في هذا المجال في أحيانٍ أخرى، ليبزغ الكتاب على هذه الصّورة، وبهذه القيمة المعرفيّة والمعنويّة. هذا إلى جانب براعته في مُناقشة الأبعاد النّفسيّة والفكريّة والتّربويّة والاجتماعيّة والتّجاريّة للدّمية على الفرد، ومن ثمّ المُجتمعات. ولم يُغفل الإشارة إلى دور (الخُطط التّسويقيّة) والإعلانيّة التي سارت عليها الشّركات المُبتكرة للدّمى والمُصنّعة لها، لتجعل من دُماها قوّة معنويّة مُهيمنة، تحت صورةٍ ملوّنةٍ بريئة المظهر.

عنّي أنا؛ أعتبر أنّ كلّ لحظة قضيتها في قراءة هذا الكتاب كانت استثمارًا ممتازًا لوقتي، لم يُقصّر في مُضاعفة ما أمتلكه من وعيٍ ومعرفةٍ تجاه موضوعه، وأرجو أن يعيش بقيّة عُشّاق القراءة من المهتمين بمضمونٍ كهذا أوقاتًا مُفعمة بالمُتعة والفائدة بين صفحاته.

0 التعليقات: